ملهى الباريزيانا

ملهى الباريزيانا
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عادل أسعد الميري

دخلت إلى ملهى الباريزيانا للعمل كعازف على "الباز جيتار". قبل أن أبدأ العمل اليومي المنتظم ذهبت للاطلاع على البرنامج الذي يقومون بعزفه، فدخلت مع محسن، وتعرّفت على بقية الفرقة، هاني وعادل ومحسن ومجدي، وقدموا لي كرسيّا لأجلس عليه خلف الستار إلى جوار مسرح المحل الصيفي، الذي ينتقل إليه البرنامج بداية من شم النسيم. استمعت إلى بعض المقطوعات الموسيقية المألوفة في مثل هذه المحلات، في بداية البرنامج اليومي، مثل لابلايا، وأوراق الخريف، ولحن فيلم حبيبتي، ثم لاحظت حركة خلفي فلم أدر رأسي (وأنا مالي)، ولكني لمحت طرفا من ملابس نسائية، وأعتقد أنني لمحت الراقصة (هياتم)، ثم بعد دقيقة جاء البغل بودي جارد المحل، الذي عرفت فيما بعد أنه كان أحد أبطال الملاكمة على مستوى الجمهورية، ليقبض عليّ من ياقة قميصي، ويقودني بهذا الشكل البائس إلى خارج المحل، مهانا أمام الجميع، متهمّا بالتسرّب إلى داخل المحل، لاختلاس النظر إلى النساء في الكواليس، قال لي (انت جاي تبصبص)، ولم يلتفت إطلاقا إلى أي محاولات لتبرير موقفي أو الاستعانة بالفرقة لتأكيد مزاعمي أو نفيها، وكانوا هم مشغولين بالعزف فلم ينتبهوا

في ذلك الوقت كانت ملاهي شارع الهرم لا تزال في ازدهار نسبي خاصة خلال مواسم السياحة الصيفية العربية، رغم بداية حوارات توقيع اتفاق سلام مع إسرائيل، في فندق أوبروي الهرم، وبداية قطع علاقات بعض الدول العربية بمصر. كان صاحب ومدير هذا المحل هو سلطان الكاشف، وكان يكبرني بعام أو اثنين، وقد ورث المحل عن والده الذي مات قبل ذلك التاريخ بمدة قليلة، قد تكون عاما أو اثنين، فأغلب العاملين في المحل كانوا يحدثونني عنه. كان من الشائع في ذلك المحل أن عتبته الصيفية أبرك من عتبته الشتوية، لكن المسألة على ما أعتقد كانت تتعلق ببساطة فقط بكون مساحة الحديقة الصيفية هي حوالي ثلاثة أضعاف مساحة الصالة الشتوية، فإذا كان في الأولى حوالي خمسين أو ستين مائدة فإن في الثانية حوالي عشرين مائدة. كانت المائدة على البيست، أي واحدة من تلك التي تقع على حافة خشبة المسرح، تكلّف في الليلة الواحدة حوالي 200 جنيها، أما الموائد الخلفية فقد تكلف 100 جنيه، هذا في حالة تناول وجبة العشاء مضروبة في عدد أربع أو خمس أفراد مع زجاجات البيرة أو النبيذ، إلا أن زجاجة الويسكي التي كان يقال للزبائن إنها مستوردة، كانت ترفع تكلفة المائدة بنسبة 50%.

عندما عملت في الباريزيانا، كان من بين المتردّدين على المحل عدد من موسيقيي الفرق الأخرى الذين يقومون بعمل جولات بين محلات شارع الهرم، لاستكشاف الموسيقيين الجدد، وماذا يقدّمون من موسيقى في برنامجهم. وكنا نخرج نحن أيضا – فرقة الباريزيانا – لاستكشاف الفرق والعازفين في المحلات الأخرى، وكانت العلاقات بيننا ودودة جدا، فكنا نجلس الى مائدة في صالة المحلات التي نزورها، وتقدّم لنا المشروبات مجانا، لمجرّد ارتدائنا سويا اليونيفورم مما يدلّ على أننا فرقة واحدة. من بين المحلات التي كنا نذهب إليها واختفت فيما بعد لاروند الذي سمي لاحقا اللورد، ولا أعرف أن كان اللورد لا يزال يعمل حاليا كنايت كلوب، أو أنه قد تحوّل فقط إلى مطعم، وكذلك كان هناك التورينج أجوجوtouringagogo، الذي أغلق أبوابه سريعا قبل نهاية السبعينات، لسبب غير معروف، ونايت كلوب صحارى سيتي saharacity الذي أزيل من مكانه على هضبة الهرم بعد مشروع بيع الهضبة لمستثمرين أمريكيين سنة 1981. وكان هذان المحلان الأخيران مشهورين باستقبال أفواج من السياح الأجانب، لذلك كانت بهما فرق للرقص الشعبي الفولكلوري، ولن تزدهر السياحة الأجنبية إلا بعد 1979 بمناسبة توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل.

كنا نبقى في المحل من التاسعة والنصف إلى الثانية عشرة مساء، فإذا امتلأ المحل نصف امتلاء، كان معنى هذا تشغيل البرنامج، راقصات ومغنيات ومغنيين، هياتم مثلا ولوسي وثناء ندى، وشفيق جلال وسيّد الملاح، ومطرب أردني اسمه إسماعيل خضر، كان صوته جميلا ويجيد استعمال المقامات الشرقية، ويكون لكل منهم في هذه الحالة ثلاثة أرباع الساعة، حتى الرابعة صباحا، أما إذا امتلأ المحل تماما، أمكن في هذه الحالة استضافة أحمد عدوية أو كتكوت الأمير في البرنامج، وهما من أغلى النجوم في ذلك الوقت. كنا نخرج من المحل في منتصف الليل، لنسرح في الشوارع حتى الثالثة صباحا، قبل أن نعود إلى المحل، لنكون مستعدّين للصعود من جديد على المسرح، للعزف والغناء لمدة نصف ساعة، أو حتى فقط لمدة ربع ساعة، وهي العلامة التي يستدل بها الزبائن على نهاية البرنامج، وبدء دفع الفواتير والمغادرة. كان يمكننا أن نذهب لمدة ثلاث ساعات، الى ميدان الجيزة حيث عربات الكبدة والبليلة، أو إلى ميدان الحسين حيث محلات الفتّة وحساء الكوارع، وكانت بقية أحياء القاهرة في ذلك الوقت تنام مبكرا، فإذا مررت بشوارع حلمية الزيتون أو المنيرة أو جاردن سيتي أو الزمالك، التي كنت أصل إليها لألف فيها بالسيّارة، كان يندر أن تقابل إنسانا واحدا ماشيا على قدميه. أنا أعتقد أن السبب الرئيسي في اعتياد الناس على السهر طول الليل هو استمرار برامج التلفزيونات طول الليل.

عندما كنا نختار وجبات العشاء، كنت أفضّل سندوتشا أو سندويتشين ربع كباب وكفتة (وكان الواحد بربع جنيه) مع زجاجة بيرة (بعشرين قرشا)، أكثر من لحمة الرأس أو البليلة، وحيث إنني كنت أقبض مرتبا يوميا محترما (السُبَيِّج أنانس سنتربلاّو) كما كان الموسيقيون (الآلاتية) يسمّونه، جنيهين اثنين، فكان يمكنني أن أفوِّل السيارة بعشرين لتر بنزين كل يومين، بسعر اللتر ستة قروش وثمانية مليم (حتى ذلك الوقت كنا نستعمل المليم)، لتكفيني عمل 200 كيلومترا، فكنت أتبرع بتوصيل الزملاء الموسيقيين والبودي جاردات الى بيوتهم، نفس بطل الملاكمة السابق الحديث عنه، وبطل مصارعة كان خريج كلية التربية الرياضية، إلى الأحياء الشعبية المختلفة مثل إمبابة وميت عقبة، مما أضاف الكثير إلى شعبيتي في هذا المحل، وفي غيره من المحلات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 من كتاب (شارع الهرم .. وفرق موسيقى الشباب في السبعينات) .. يصدر قريبًا عن دار آفاق بالقاهرة 

مقالات من نفس القسم