ملامح من مجموعة سيد الوكيل :( مثل واحد آخر )

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. حسين حمودة *

ـ1ـ

فى أعمال  سيد الوكيل ما يومئ إلى نوع من " وحدة العالم " . ثمة تناولات متصلة ، وتقنيات متنامية ، وقضايا مراودة ، ملحة ، تتوارى لتطل مرة أخرى . وبهذا المعنى تنبنى نصوص هذا الكاتب على ما يجعلها صالحة لأن تقرأ كنص واحد متصل ، وأيضاً على ما يجعل كل نص منها مستقلاً بقسماته . ولعل مجموعته ( مثل واحد آخر ) تقدم تمثيلاً كافياً لهذا المنحى ، تتكون (مثل واحد آخر) من تسع قصص، يجمع بين عوالمها ما يجمع، ويفرق بينها ما يفرق، لكن يظل التنوع السردي هو السمة الأظهر لهذه القصص جميعاً، ويظل النزوع إلى التقاط "الأشياء وهى تروح" ( فيما يشير مفتتح المجموعة ، المتصل بقصة من مجموعة سابقة للكاتب نفسه ) ، أو يظل النزوع إلى اقتناص العالم ، بما فيه وبمن فيه ، خلال تحوله وصيرورته ، خلال حركته وتدفقه ، وربما خلال تلاشيه وغيابه ، هو الملمح الأكثر مثولاً فى أغلب هذه القصص التسع .

 

ـ2ـ

تتمحور القصة  الأولى بالمجموعة ” حواس تستيقظ ” ( التى سوف تتناسل معالم كثيرة منها رواية سيد الوكيل التالية ” شارع بسادة ” ) حول تناول تجربة النمو الجسدي والروحى والمعرفى والأخلاقي جميعاً ، وتحتشد أقسام القصة ـ تعبيراً عن درجات متصاعدة وأشكال متعددة من هذا النمو ـ بأزمنة شتى وتجارب متنوعة وأحكام قيمية متباينة وملامح لبشر مختلفين .

ومع ذلك  ، فثمة صورة من صور ” وحدة العالم ” تتحقق فى القصة بأكثر من وجهة وعلى أكثر من مستوى ـ إذ تبدوـ من جانب ، موضوعة ” البراءة ” ماثلة فى عالم القصة ، مهيمنة عليه ، من أوله إلى آخره ، سواء بالانفصال عنها أو التشبث بها ، باستحضارها أو بتغييبها ، كما تبدو ـ من جانب آخر ـ صيغة خاصة من صيغ ” المنظور ” حاضرة ، ومركزية ، فى أقسام القصة جميعاً ، متصلة بالراوى الأول الموصول بالضمير ” أنا ” ، والمنصوص عليه بوضوح فى القسم الأول من القصة : ” الثعالب … ( أنا )” . تتواشج وهذه الصيغة ، تتفرع منها وتبتعد عنها لتؤوب إليها ، أقسام القصة الأخرى ، حيث يتم رصد الشخصيات المحورية فى تلك الأقسام من مواقع عديدة تتصل بأشكال متباينة من علاقة / علاقات هذه الشخصيات بصوت ” الأنا ” الأول نفسه ، أو بالمنظور الذى يطل هو منه على تلك الشخصيات :” الموت والجمال .. ( أمى )” ، أشعل الفرن فجراً..(زينب سليمان) ” ، ” أهالوا عليه التراب … ( على راشد ) ” ، ” مساحة صغيرة من الظل … ( حسونة ) ” ، ” مظلة خيش لا أكثر .. ( سيدة ألاجا ) ” ، ” خاتم فضي كبير … ( عنتر عبد الهادى ) ” ، ” شوق الأرواح … ( مارسا ) ” ، ثم ” بعد ذلك .. ( لا أحد ) ” ، وفي هذا القسم الأخير يعود صوت الراوى ، بعد تجوال وترحال بموازة الشخصيات ، إلى صوته الأول ” تعودت في طفولتى أن أقرأ خرائط القمر … إلخ ” ( القصة ، صـ 34 ) .

لكن هذا  الحضور المتنوع لمنظور الراوى لا يعنى تسلط صوته على أصوات الشخصيات الأخرى ، كما لا يعنى تسييد لغته وتصوراته على لغتها وتصوراتها . فبالإضافة إلى أن صوت الراوى نفسه يخضع للقانون الأساسى الذى تخضع له مفردات القصة كلها ؛ التنامى والحراك ، حيث يتغير وعيه وتتباين صلاته بالعالم عبر القوس الزمنى الذى تقطعه تجاربه ..

بالإضافة  لذلك ، فإن سرد القصة لا يسير فى وجهة واحدة ، أولا يتنامى فى مسار واحد ؛ إذ ينهض  هذا السرد على  تعدد واضح ، وانتقالات بينة ، من صوت جمعى يتداخل فيه عالم الراوى ، طفولته ، مع عوالم الأطفال الآخرين : ” كانت مدرستنا فى آخر حدود المدينة … إلخ ” ـ القصة ، صـ 13 ” ، ولا يحدق ـ مثلنا ـ  فى النساء اللاتى يحملن طسوت الماء ” ـ القصة ، صـ 32 ـ وهذا التشديد وكل التشديدات فى نصوص القصص من عندنا ) ، إلى صوت فردى يتحدث بلسان الراوى وحده ( ” لا أذكر الأن من قال … الطيور لها روح أيضاً يا أبي” ـ القصة ، صـ 16 ) ؟ .

ثم من هذين الصوتين إلى صوت متكلم حاضر سوف يغدو غائباً بصيغة التفات خاصة ، حيث تحل كلمة ” الواحد ” محل الضمير ” أنا ” : ( ” الآن لا يستطيع الواحد أن يخمن أين هى ” ـ القصة ، صـ 16 ” ، والله الواحد ليسلم بأن الروح تتوق دائماً لأجساد أخري ” ـ القصة ، صـ 31 ) .كذلك ، من جانب آخر ، يتصل السرد في بعض السياقات والمواضع بما يجاوز دائرة صوت الراوي كلها ، من حيث هو شخصية ، إلى دوائر أخرى تقع خارجه ، وتتصل بشخصيات عديدة ، مغايرة ، سواه .

على هذا  المستوى الأخير تتجاور ، وأحياناً تتداخل ، ” لغات ” الشخصيات مع لغة سرد الراوى . فى أحيان ، تأتى هذه ” اللغات ” مميزة عن هذا السرد ، محافظة على التزام حدودها وحيزها ، كأن تساق بين تنصيصات ( منذ لك ، مثلاً ” يحسن للأولاد في سنك أن يصادقوا أحداً … إلخ ” انظر القصة صـ 10 ) ، وفي أحيان أخري ، تتخلل هذه اللغات لغة سرد الراوى ، بحيث تلوح ” لغات النص ” جميعاً وقد امتزجت فأصبحت لغة واحدة : ( ” أو تلك رائحة جريدة النخل الطرى ، عطراً فواحاً بين أنفاسك ( …) الشيطان هذا شاطر وابن وسخة ، ظل يضحك طوال اليوم .. إلخ ” ـ القصة ، صـ 15 ) ؟ ويتصل بهذا المنحى استخدام منظور ينتمى لزمن ماضٍ كان فيه وعى الشخصية مغايراً لوعيها الراهن فى زمنها الحاضر : ” الشيطان هذا هو الذي نبهنا إلى أن الشمس مثيرة كزينب سليمان .. إلخ ” ( القصة ، صـ 13 ) .

 

ثمة انتقالات أخري تتحقق أيضاً عبر التحول من نبرة لأخري ومن حالة لأخري فى سرد الراوى ؛ فمن البوح المقرون بصيغة تعجب : ” يا لها من طيور ميتة حقاً ..” ( القصة صـ 8 ) ، إلى التساؤل : ” هل تذكر رسالته الأخيرة ؟ ” ( القصة ، صـ 9 ) أو : ” لماذا هذه الأشياء البشعة الآن ؟ ” ( القصة صـ 20 ) ، إلى استخدام بعض عبارات قطعية ، أشبه بأحكام أو استخلاصات تتجاوز الموقف المحدود إلى نوع من التعميم والإطلاق : ” فالنهود لها إيماءتها الخاصة جداً ” ( القصة ، صـ 8 ) . وتقترن بهذه الانتقالات في سرد الراوى تحولات ضمير / ضمائر ” المروى عليه / عليهم ” : ” ربما حدثكم يوماً عن ذلك ، ما زال فى جعبتى الكثير مما سوف يدهشكم .. ( …) والله أنت تتخيل أشياء بلا معنى ” ( القصة ، صـ 34 ) .

تجربة النمو  الجسدي والمعرفى ـ منظوراً إليها  خلال هذا التعدد كله ـ لا تتجسد  بمعزل عن إحساس طاغ بحركة الزمن  الذي يعد مدخلاً أساسياً فى التعبير  عن هذه التجربة ؛ ما كان عليه وما آل إليه كل أحد وكل شئ ؛  الأعين التى ترنو ، الآن ، إلى الطفولة المنقضية ، تقترن ـ فى آن واحد ـ بزمنين ؛ زمن ترنو أو تطل عليه وآخر ترنو أو تطل منه : ” الولد السمين أصبح الآن رجلاً ..” ( القصة ، صـ 11 ) . فى هذا السياق ، يحتفى السرد بتصوير مرور الزمن ، وبتشخيص ما يفعله فى الجسد والروح جميعاً ، ويتحقق هذا خلال طرائق متنوعة ، مرة عن طريق حوار قصير مختزل :

“ـ والله ما عرفتك يا عنتر .

ـ الكبر عبر يا سيدة ” ( القصة ، صـ 26 ) ..

.. ومرة عن  طريق عبارة أو عبارات مباشرة  تكاد تكون مسرفة فى وضوحها : ” يقسم أن وجه سيدة كان أجمل من وجوه الخواجات ، وأن ريقها كان مسكراً ( … ) والزمان هذا غادر وابن وسخة ” ( القصة ، صـ 22 ) .

 

ـ3ـ

فى قصة ” كل ما عليك .. أن تموت ” تنحو مغامرة السرد منحى آخر ، ربما أقل رحابة ؛ إذ لم يعد العالم مفتوحاً على تجارب الجسد والروح ، والنمو والبراءة ، لدي حشد من الشخصيات ، كما لم يعد السرد محتفياً بالتعدد والانتقال من صوت لآخر ، ومن نبرة لأخرى ، بل يلوح ” التعين ” ، آحادى الاتجاه ـ المقترن باستخدام مسميات بعينها هنا ، بعضها مرجعى ـ وكأنه يحصر العالم الفنى فى نطاق مرسوم ، وربما مضروب كالحصار ، لا يمكن اجتيازه أسواره .

عالم المثقف وهمومه ، والإشارات المتتالية  إلى مسميات تنتمى  إليه ( لوحات  بيكاسو ـ إبسن .. إلخ ) ، ثم تجربة ” الأدب “  ضمن هذا العالم ،  والإشارات المتلاحقة إليها أيضاً ( ” قرأت الصورة كما ينبغى لناقد .. علاقتنا بالأدب سوف تقتلنا جميعناً ـ القصة ، صـ 43 ، رواية كازنتزاكيس ـ القصة ، صـ 50 ، أبطال الكوميديا الإلهية ـ القصة ، صـ 51 … إلخ ) ، فضلاً عن الإشارات المرجعية لأسماء مثقفين مصريين بأعينهم ( مجدى الجابري ـ سيد عبد الخالق ـ إبراهيم أصلان ـ جار النبى الحلو ـ صفاء عبد المنعم ـ محمود حامد ـ عماد غزالى ..) وللأماكن المسماة التى يرتادها بعض المثقفين فى القاهرة ، فى ” وسط البلد ” على وجه التحديد ( ” الأتيليه ” و” مقهى التكعيبة ” … إلخ ) .. كلها إشارات تحصر العالم فى حيز يمكن ـ بسهولة ـ تعرّف ملامحه المحددة ، ويمكن ـ من ثم ـ الوقوع فى غواية مطابقته أو عدم مطابقته مع ” مرجعه ” الخارجى .

مع ذلك  ، فثمة مساحات فى سرد القصة تتطلع  إلى ما هو أرحب وأبعد من ذلك التناول القريب ، تتأمل ـ مثلاً ـ معنى ” الوطنية ” وتضحيات الحروب ، وتسوق ـ بكلمات قليلة ـ تصورات مشبعة بالمفارقات ، عن المسافة الهائلة بين وضع جندي أو بين وضع قادته ، موقع ” المضحّي ” وموقع ” قاطفى المجد ” . فى رصد هذه المساحات ـ بلسان الجندى الذى يتحدث عن ” شحنه ” مع جنود آخرين فى قطار يمضي بهم إلى الحرب ـ نشهد صورة لأجساد الجنود التى ” شحنوها لصنع الملاحم ” ، بما فيها جسد هذا الجندى ، قبل أن يلقوا به ” كزائدة دورية ” (انظر القصة صـ 41 ) . لكن هذه المساحات السردية تظل محاطة بسياج يرسمه عالم القصة الأكثر هيمنة ، لا تتخطاه ولا تتجاوزه ولا تتطلع إلى ما وراءه . وأحياناً تتقلص هذه المساحات لتفسح مجالاً لحضور هموم ” خاصة ” بعالم الكتابة ، وما يحيط به وبها (ومن ذلك ، مثلاً ، التساؤل عن عدد الذين يمشون فى جنازة أديب ) ، كما تلوح هذه المساحات ، فى سياقات أخري ، موضوعة فى مواجهة صوت سردي غالب ، مثقل بقدر كبير من ” أحكام القيمة ” : “هراء .. قوة الكلمة .. قوة الحلم . قوة الحياة .. الناس يموتون بدون سبب علمى . العلم أيضاً هراء ” ( القصة صـ 44 ) .

العالم نفسه ، تقريباً ، يمتد من هذه القصة  إلى القصة التى وهبت المجموعة عنوانها : ” مثل واحد آخر ” ، حيث مثول تجربة الكتابة فى الكتابة ( الإشارة إلى ” الكاتب العليم ” ـ القصة ، صـ 56 ، و “بطل ” قصته ـ القصة ، صـ62 ، و ” لحظة التنوير ” بعد أن بلغ الموقف قمة الأزمة الهزلية ” ـ القصة ، صـ 65 .. إلخ ) ، وإن صيغ هذا العالم خلال ” لعبة خيالية ” تستند إلى اعتماد استباق الزمن ، ومن ثم توليد سلسلة من المفارقات التى تترتب على المعرفة ” المسبقة ” بمصير وشيك ” قادم ” ، كقدر لا راد له ، من جانب ، والجهل به ، من جانب آخر ، وهذه اللعبة الخيالية تضفى على القصة مسحة من ” الفانتازيا ” ، حتى وإن أطلت ـ بشكل خاطف ـ إحالات مرجعية هنا أوهناك ( الإحالة إلى برنامج ” صباح الخير يا مصر ” ، مثلاً انظر القصة صـ 62 ) .

يتملص السرد  فى القصة من القيود المكبلة ، ويستكشف مساحات ما غير تقليدية ، نائية عن الحدود التى قد يفرضها عادة تناول عالم محدد ، متعين ، وفى تلك المساحة تتمثل نقطة مراوغة ، تتقاطع فيها لغة الراوى المشارك ولغة الشخصية ، أو لغة ” الكاتب ” ولغة ” بطله ” خلال لعبة ” الكتابة فى الكتابة ” . يقول الراوى ، من موقع الانتماء إلى إحساس ” شخصيته ” التى رسمها ، بطله الذي يواجه محنته الخاصة مع باب مغلق : ” ولكن عليه أولاً أن يفتح هذا الباب اللعين ويدخل خطوتين .. إلخ ) ( القصة صـ 56 ) ، ثم يقول عن الشخص نفسه فى موقف آخر ، بعدما استنفد أغلب حواسه : ” الآن .. لم يعد يملك سوي حاستين لعينتين لن تفيداه فى شئ كهذا ..” ( القصة ، صـ 63 ) .

 

ـ 4 ـ

القصص الست الأخري بالمجموعة : ” صاحبة الضوء الغافى ” و” المشهد ” و ” عرى بللورى ” و ” ليست بيضاء تماماً ” و ” شال لفاطمة ” و ” شرفات مغلقة ” تخوض تجارب مختلفة ، وتحتفى بتناولات متباينة ، وتتجسد خلال طرائق سردية متنوعة .

 

***

 

تتناول قصة ” صاحبة الضوء الغافى ” لحظة خاصة من حياة امرأة ، تغسل فيها ، ” عن جسدها عشرين عاماً من الوجع القديم بضوء شمعة ودخان ، وظلال جسد وماء ، وموسيقى ذات طبول وحشية ، وفتى أسمر فى قاع الوادى يلوح لها من بعيد ، وصدى ” ( القصة ، صـ 76 ) . وفى تجسيد تلك اللحظة تحتفى القصة بالعلاقات الزمنية على نحو خاص ، حيث تتواتر الإشارات لتعبر عن ذلك الوجع الذى اتصل لعشرين عاماً ، قبل أن يتلاشي فى ذلك المشهد الراهن الذى تقع هذه المرأة فى القلب منه ، وهى إشارات تكاد تتخلل فقرات القصة جميعاً . ويصل بعض هذه الإشارات بين زمن المرأة القديم ، وبين حاضرها الذي يتحرر فيه جسدها ، كما يصل بعض هذه الإشارات أيضاً بين هذهين الزمنين والزمن القادم المحتمل : ” الآن وموسيقى الراى تلمسها بصخب ليس لها ، سوف تميل مراكبها بعنف مباغت (..) فيضحك عفريتها الذي لم يصدق ، … بعد كل هذه السنين ؟ ” ( القصة ، صـ 74 ) .

 

**

 

وقصة ” المشهد ” تنهض على لغة السيناريو ، بتحديداتها المكانية والزمانية القاطعة المعروفة        ” ( المكان .. على رصيف المترو) ، ( الزمان .. صباح باكر جداً ) ” ( القصة ، صـ 80 ) ، وعلى استنادها إلى الصورالبصرية التى تتداخل ـ بعيداً عن ” موضوعية ” لغة السيناريو المفترضة ـ مع تأملات الراوى المتكلم وحواراته وتساؤلاته الذاتية ، التى يسوقها مدفوعاً ، دفعاً خفياً ، بما يراه خارجه : ” المرأة المنقبة اخترقت رصيفى ( …) جلست فى الطرف الأقصى من المقعد ( …) الآن .. ليس لى هذا المكان ، فثمة عينان ترقبانك ، عينات بلا جسد ، أو جسد بلا رائحة أو صوت  .. فلمن تعزف لحنك الآن وأنت على خواء الأرصفة ” ( القصة ، صـ 82 ) . تأملات الراوى ، وحواراته ، وتساؤلاته التى يقفز بعضها ويلح بعضها بلا إجابة ، كلها تعكس عالماً داخلياً يتصادي مع ، أو يتصادي معه  ، ” المشهد ” الخارجي أو ” المشاهد ” الخارجية التى يرصدها . وفى الحيزين ، الداخلى والخارجى ، تتمحور أحاسيس هذا الراوى لتصوغ رغبة مبتورة فى التواصل الجسدي ، واستثارة خفية ، ضاغطة ، ممضة، معلقة دونما إشباع .

 

**

 

وتتحرك قصة ” عرى بلورى ” فى مدار غير بعيد عن هذا المجال نفسه ، وإن أحاطتها هالة تكسو عالمها طابعاً بينياً ، مراوغاً ، ماثلاُ بين اليقين وعدم اليقين ، أو بين التأكيد واللاتأكيد : ” كـأننى رأيت المكان ، وكان هذ قد حدث من قبل .. إلخ ” ( القصة ، صـ 87 ) ، ” هل كان الوقت شتاء ” ، ( القصة ، صـ 86 ، وصـ 87 أيضاً ) ، ” لكننى لا اعرف يقيناً إن كان الوقت شتاء ” ( القصة ، صـ 87 ) ، ” الإسفلت مبلول فعلاً .. لكنن ] لكننى[  لا أعرف يقيناً إن كان ذلك بفعل المطر ” ( القصة ، صـ 87 ) .

” العري البللورى ” ، المتخذ عنواناً للقصة ، مرتبط بمشهد ـ يستعيده الراوى ، الآن ـ كان هو جزءاً منه ، مع جسد تلك التى تجمعه وإياها الظلام فى لقاءات سرية ، ” فالنور مطفأ لتوهم الجيران بأنها ليست موجودة ” ( القصة ، صـ 88 ) . ورغم أن هذ المشهد يلوح كأنه نقطة انطلاق لعالم القصة ، فالسرد ـ بنوع من اعتماد تقنية ” تيار الوعى ” ـ يحلق ، فى غير موضع ، بعيداً عن حدود المشهد وأطرافه ، متحرراً من الارتباط بمجال دلالى واحد ، ومن الالتزام بأية روابط منطقية : ” تشم رائحة عرقهم ؟ تبدو كفتات خبز متخمرة فى مسقاة الفراريج . وفى نهاية المشهد سوف ترى الباليرنات يسبحن أمام لجنة المحكمين ذوي الشعور المستعارة . لماذا يتصرف مدير مجمع الأسماك بهذه الوقاحة ؟ ” ( القصة ، صـ 89 ) .

 

**

 

وتصور قصة ” ليست بيضاء تماماً ” عالماً مكتملاً ، خلال سرد مختزل ، يومئ إلى علاقة ما ، حب قديم ، وإلى ذكريات من وعن زمن غابر ، وإلى وضع راهن أصبح فيه هذا الحب ضرباً من السرقة ، مرة أخرى تلوح موضعة الزمن الذى مر ، دونما تحقق ، والرغبة التى ظلت معتملة ، ممضة ، بغير إشباع .

 

**

 

وقصة ” شال لفاطمة ” تتوجه ، ابتداء من عنوانها ، نحو العالم الداخلى لشخصيتها المحورية ، وفى هذا العالم الداخلى يغدو للإحساس بالزمن الحضور الأكبر  . عنوان القصة ، كاملاً ، يرتبط بما يمكن تسميته ” مركز ثقل متأخر ” فيها ، لكن الطرف الأساسي فى هذا العنوان ، أى ” فاطمة ” وليس ” الشال ” ، يمثل مركز الاهتمام فى تسلسل السرد كله وتفاصيله جميعاً ( باستثناءات قليلة يوازى خلالها الراوى ابن فاطمة و زوجها ) ؛ حيث نظل نتحرك مع هموم فاطمة وتأملاتها التى تتواتر وتتوالى وتتسلسل وتتدفق : ” ولكنها مندهشة من أولئك الذين يقولون فى الصباح ” أى حاجة ” ثم ينتقدون اختيارها على الغذاء ” ( القصة ، صـ 101 ) ، الليلة تعرف أن الأيام تفعل فعلها ، الأيام التى لم يعد لها طعم ” ( القصة ن صـ 107 ) ” ، ستتأكد أن شيئاً لم يفلت من ذاكرتها .. إلخ ” ( القصة ، صـ 106 ) .

عالم فاطمة  ، المستغلق دون المحيطين بها ،  السري تقريباً ، والمحصور داخل حدود صاغتها تجربة سابقة منقضية ، يستدعى العديد من الإيماءات لذكريات قديمة ( ” ربما تعيد ترتيب الصور ، عندئذ ستتأملها قليلاً وتحاول تذكر أصحابها ” ـ القصة ، صـ 102 ) ، وتكتمل معالم تلك الذكريات خلال وضعها إزاء ما يناقضها ، أى إزاء ما جلبه الزمن الراهن من تغيرات : ( ” فمناسبة كهذه تجعل فاطمة تفكر فى زمنها ” ـ القصة ، صـ 102 ، “  الليلة تعرف أن الأيام تفعل فعلها … ” ـ القصة ، صـ 107 ) .

 

**

 

وأخيراً ـ تمضي قصة ” شرفات مغلقة ” فى مسار ليس بعيداً جداً عن تناول القصة السابقة ؛ إذ تنهض على متناول مسكون بهاجس تغير الزمن ، والسعي ـ المقضي عليه بالخسران ـ إلى مدافعة هذا التغير ، والتساؤل المتصل ـ بطريقة تنأى عن الأحكام القاطعة ـ حول تقويم ما يجلبه هذا التغير ، الزمن المرجع منصوص عليه بوضوح هنا ، تحديدات شتى واضحة ( انظر القصة صـ 118 ) ، لتأكيد تلك المسافة بين ما كان وما هو كائن ، من ناحية ، ولجعل الوضع القائم الجديد مقترناً بقسمات مرئية ملموسة ، تكاد تكون حادة ، تفسر لنا تجربة أو تجارب من وطأهم الزمن ، خلال مروره ، بخطوه الثقيل ، والراوى المتكلم ، المتأمل فيمن حوله وفيما حوله ، بنظرة لا تخلو من شفافية ، يفصح فى سرده عما يشبه الانحياز إلى ذلك العالم الذي يذوي ، خلال إشارات عديدة يسوقها ، كلها يؤكد الحنين إلى ما ولى ، مر وانقضي : ” فترفّ نفسي بقوة ، وتحنّ لأيام كنت أجئ هنا … إلخ ” ( القصة ، صـ 124 ) ، ” أنظر لنافذتى التى اعتدت الوقوف بها و أري من خلالها ملامح الجمال القديم … ” ( الصفحة ذاتها ) ، ” فانظر إلى الصفاء القديم فى عينيه وانتظر رده ” (القصة ، صـ 125 ) .

 

***

 

نعم ! هى مجموعة من قصص متنوعة على مستوى التناول  و السرد الفنى معاً ، يجمع بين  عوالمها ما يجمع ، ويفرق بين  هذه العوالم ما يفرق .. لكنها جميعاً ، مع ذلك ، موصولة بتجربة سيد الوكيل السابقة والتالية ، معاً ، فى آن

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ناقد مصري

عودة إلى الملف

 

 

مقالات من نفس القسم