ـ2ـ
تتمحور القصة الأولى بالمجموعة ” حواس تستيقظ ” ( التى سوف تتناسل معالم كثيرة منها رواية سيد الوكيل التالية ” شارع بسادة ” ) حول تناول تجربة النمو الجسدي والروحى والمعرفى والأخلاقي جميعاً ، وتحتشد أقسام القصة ـ تعبيراً عن درجات متصاعدة وأشكال متعددة من هذا النمو ـ بأزمنة شتى وتجارب متنوعة وأحكام قيمية متباينة وملامح لبشر مختلفين .
ومع ذلك ، فثمة صورة من صور ” وحدة العالم ” تتحقق فى القصة بأكثر من وجهة وعلى أكثر من مستوى ـ إذ تبدوـ من جانب ، موضوعة ” البراءة ” ماثلة فى عالم القصة ، مهيمنة عليه ، من أوله إلى آخره ، سواء بالانفصال عنها أو التشبث بها ، باستحضارها أو بتغييبها ، كما تبدو ـ من جانب آخر ـ صيغة خاصة من صيغ ” المنظور ” حاضرة ، ومركزية ، فى أقسام القصة جميعاً ، متصلة بالراوى الأول الموصول بالضمير ” أنا ” ، والمنصوص عليه بوضوح فى القسم الأول من القصة : ” الثعالب … ( أنا )” . تتواشج وهذه الصيغة ، تتفرع منها وتبتعد عنها لتؤوب إليها ، أقسام القصة الأخرى ، حيث يتم رصد الشخصيات المحورية فى تلك الأقسام من مواقع عديدة تتصل بأشكال متباينة من علاقة / علاقات هذه الشخصيات بصوت ” الأنا ” الأول نفسه ، أو بالمنظور الذى يطل هو منه على تلك الشخصيات :” الموت والجمال .. ( أمى )” ، أشعل الفرن فجراً..(زينب سليمان) ” ، ” أهالوا عليه التراب … ( على راشد ) ” ، ” مساحة صغيرة من الظل … ( حسونة ) ” ، ” مظلة خيش لا أكثر .. ( سيدة ألاجا ) ” ، ” خاتم فضي كبير … ( عنتر عبد الهادى ) ” ، ” شوق الأرواح … ( مارسا ) ” ، ثم ” بعد ذلك .. ( لا أحد ) ” ، وفي هذا القسم الأخير يعود صوت الراوى ، بعد تجوال وترحال بموازة الشخصيات ، إلى صوته الأول ” تعودت في طفولتى أن أقرأ خرائط القمر … إلخ ” ( القصة ، صـ 34 ) .
لكن هذا الحضور المتنوع لمنظور الراوى لا يعنى تسلط صوته على أصوات الشخصيات الأخرى ، كما لا يعنى تسييد لغته وتصوراته على لغتها وتصوراتها . فبالإضافة إلى أن صوت الراوى نفسه يخضع للقانون الأساسى الذى تخضع له مفردات القصة كلها ؛ التنامى والحراك ، حيث يتغير وعيه وتتباين صلاته بالعالم عبر القوس الزمنى الذى تقطعه تجاربه ..
بالإضافة لذلك ، فإن سرد القصة لا يسير فى وجهة واحدة ، أولا يتنامى فى مسار واحد ؛ إذ ينهض هذا السرد على تعدد واضح ، وانتقالات بينة ، من صوت جمعى يتداخل فيه عالم الراوى ، طفولته ، مع عوالم الأطفال الآخرين : ” كانت مدرستنا فى آخر حدود المدينة … إلخ ” ـ القصة ، صـ 13 ” ، ولا يحدق ـ مثلنا ـ فى النساء اللاتى يحملن طسوت الماء ” ـ القصة ، صـ 32 ـ وهذا التشديد وكل التشديدات فى نصوص القصص من عندنا ) ، إلى صوت فردى يتحدث بلسان الراوى وحده ( ” لا أذكر الأن من قال … الطيور لها روح أيضاً يا أبي” ـ القصة ، صـ 16 ) ؟ .
ثم من هذين الصوتين إلى صوت متكلم حاضر سوف يغدو غائباً بصيغة التفات خاصة ، حيث تحل كلمة ” الواحد ” محل الضمير ” أنا ” : ( ” الآن لا يستطيع الواحد أن يخمن أين هى ” ـ القصة ، صـ 16 ” ، والله الواحد ليسلم بأن الروح تتوق دائماً لأجساد أخري ” ـ القصة ، صـ 31 ) .كذلك ، من جانب آخر ، يتصل السرد في بعض السياقات والمواضع بما يجاوز دائرة صوت الراوي كلها ، من حيث هو شخصية ، إلى دوائر أخرى تقع خارجه ، وتتصل بشخصيات عديدة ، مغايرة ، سواه .
على هذا المستوى الأخير تتجاور ، وأحياناً تتداخل ، ” لغات ” الشخصيات مع لغة سرد الراوى . فى أحيان ، تأتى هذه ” اللغات ” مميزة عن هذا السرد ، محافظة على التزام حدودها وحيزها ، كأن تساق بين تنصيصات ( منذ لك ، مثلاً ” يحسن للأولاد في سنك أن يصادقوا أحداً … إلخ ” انظر القصة صـ 10 ) ، وفي أحيان أخري ، تتخلل هذه اللغات لغة سرد الراوى ، بحيث تلوح ” لغات النص ” جميعاً وقد امتزجت فأصبحت لغة واحدة : ( ” أو تلك رائحة جريدة النخل الطرى ، عطراً فواحاً بين أنفاسك ( …) الشيطان هذا شاطر وابن وسخة ، ظل يضحك طوال اليوم .. إلخ ” ـ القصة ، صـ 15 ) ؟ ويتصل بهذا المنحى استخدام منظور ينتمى لزمن ماضٍ كان فيه وعى الشخصية مغايراً لوعيها الراهن فى زمنها الحاضر : ” الشيطان هذا هو الذي نبهنا إلى أن الشمس مثيرة كزينب سليمان .. إلخ ” ( القصة ، صـ 13 ) .
ثمة انتقالات أخري تتحقق أيضاً عبر التحول من نبرة لأخري ومن حالة لأخري فى سرد الراوى ؛ فمن البوح المقرون بصيغة تعجب : ” يا لها من طيور ميتة حقاً ..” ( القصة صـ 8 ) ، إلى التساؤل : ” هل تذكر رسالته الأخيرة ؟ ” ( القصة ، صـ 9 ) أو : ” لماذا هذه الأشياء البشعة الآن ؟ ” ( القصة صـ 20 ) ، إلى استخدام بعض عبارات قطعية ، أشبه بأحكام أو استخلاصات تتجاوز الموقف المحدود إلى نوع من التعميم والإطلاق : ” فالنهود لها إيماءتها الخاصة جداً ” ( القصة ، صـ 8 ) . وتقترن بهذه الانتقالات في سرد الراوى تحولات ضمير / ضمائر ” المروى عليه / عليهم ” : ” ربما حدثكم يوماً عن ذلك ، ما زال فى جعبتى الكثير مما سوف يدهشكم .. ( …) والله أنت تتخيل أشياء بلا معنى ” ( القصة ، صـ 34 ) .
تجربة النمو الجسدي والمعرفى ـ منظوراً إليها خلال هذا التعدد كله ـ لا تتجسد بمعزل عن إحساس طاغ بحركة الزمن الذي يعد مدخلاً أساسياً فى التعبير عن هذه التجربة ؛ ما كان عليه وما آل إليه كل أحد وكل شئ ؛ الأعين التى ترنو ، الآن ، إلى الطفولة المنقضية ، تقترن ـ فى آن واحد ـ بزمنين ؛ زمن ترنو أو تطل عليه وآخر ترنو أو تطل منه : ” الولد السمين أصبح الآن رجلاً ..” ( القصة ، صـ 11 ) . فى هذا السياق ، يحتفى السرد بتصوير مرور الزمن ، وبتشخيص ما يفعله فى الجسد والروح جميعاً ، ويتحقق هذا خلال طرائق متنوعة ، مرة عن طريق حوار قصير مختزل :
“ـ والله ما عرفتك يا عنتر .
ـ الكبر عبر يا سيدة ” ( القصة ، صـ 26 ) ..
.. ومرة عن طريق عبارة أو عبارات مباشرة تكاد تكون مسرفة فى وضوحها : ” يقسم أن وجه سيدة كان أجمل من وجوه الخواجات ، وأن ريقها كان مسكراً ( … ) والزمان هذا غادر وابن وسخة ” ( القصة ، صـ 22 ) .
ـ3ـ
فى قصة ” كل ما عليك .. أن تموت ” تنحو مغامرة السرد منحى آخر ، ربما أقل رحابة ؛ إذ لم يعد العالم مفتوحاً على تجارب الجسد والروح ، والنمو والبراءة ، لدي حشد من الشخصيات ، كما لم يعد السرد محتفياً بالتعدد والانتقال من صوت لآخر ، ومن نبرة لأخرى ، بل يلوح ” التعين ” ، آحادى الاتجاه ـ المقترن باستخدام مسميات بعينها هنا ، بعضها مرجعى ـ وكأنه يحصر العالم الفنى فى نطاق مرسوم ، وربما مضروب كالحصار ، لا يمكن اجتيازه أسواره .
عالم المثقف وهمومه ، والإشارات المتتالية إلى مسميات تنتمى إليه ( لوحات بيكاسو ـ إبسن .. إلخ ) ، ثم تجربة ” الأدب “ ضمن هذا العالم ، والإشارات المتلاحقة إليها أيضاً ( ” قرأت الصورة كما ينبغى لناقد .. علاقتنا بالأدب سوف تقتلنا جميعناً ـ القصة ، صـ 43 ، رواية كازنتزاكيس ـ القصة ، صـ 50 ، أبطال الكوميديا الإلهية ـ القصة ، صـ 51 … إلخ ) ، فضلاً عن الإشارات المرجعية لأسماء مثقفين مصريين بأعينهم ( مجدى الجابري ـ سيد عبد الخالق ـ إبراهيم أصلان ـ جار النبى الحلو ـ صفاء عبد المنعم ـ محمود حامد ـ عماد غزالى ..) وللأماكن المسماة التى يرتادها بعض المثقفين فى القاهرة ، فى ” وسط البلد ” على وجه التحديد ( ” الأتيليه ” و” مقهى التكعيبة ” … إلخ ) .. كلها إشارات تحصر العالم فى حيز يمكن ـ بسهولة ـ تعرّف ملامحه المحددة ، ويمكن ـ من ثم ـ الوقوع فى غواية مطابقته أو عدم مطابقته مع ” مرجعه ” الخارجى .
مع ذلك ، فثمة مساحات فى سرد القصة تتطلع إلى ما هو أرحب وأبعد من ذلك التناول القريب ، تتأمل ـ مثلاً ـ معنى ” الوطنية ” وتضحيات الحروب ، وتسوق ـ بكلمات قليلة ـ تصورات مشبعة بالمفارقات ، عن المسافة الهائلة بين وضع جندي أو بين وضع قادته ، موقع ” المضحّي ” وموقع ” قاطفى المجد ” . فى رصد هذه المساحات ـ بلسان الجندى الذى يتحدث عن ” شحنه ” مع جنود آخرين فى قطار يمضي بهم إلى الحرب ـ نشهد صورة لأجساد الجنود التى ” شحنوها لصنع الملاحم ” ، بما فيها جسد هذا الجندى ، قبل أن يلقوا به ” كزائدة دورية ” (انظر القصة صـ 41 ) . لكن هذه المساحات السردية تظل محاطة بسياج يرسمه عالم القصة الأكثر هيمنة ، لا تتخطاه ولا تتجاوزه ولا تتطلع إلى ما وراءه . وأحياناً تتقلص هذه المساحات لتفسح مجالاً لحضور هموم ” خاصة ” بعالم الكتابة ، وما يحيط به وبها (ومن ذلك ، مثلاً ، التساؤل عن عدد الذين يمشون فى جنازة أديب ) ، كما تلوح هذه المساحات ، فى سياقات أخري ، موضوعة فى مواجهة صوت سردي غالب ، مثقل بقدر كبير من ” أحكام القيمة ” : “هراء .. قوة الكلمة .. قوة الحلم . قوة الحياة .. الناس يموتون بدون سبب علمى . العلم أيضاً هراء ” ( القصة صـ 44 ) .
العالم نفسه ، تقريباً ، يمتد من هذه القصة إلى القصة التى وهبت المجموعة عنوانها : ” مثل واحد آخر ” ، حيث مثول تجربة الكتابة فى الكتابة ( الإشارة إلى ” الكاتب العليم ” ـ القصة ، صـ 56 ، و “بطل ” قصته ـ القصة ، صـ62 ، و ” لحظة التنوير ” بعد أن بلغ الموقف قمة الأزمة الهزلية ” ـ القصة ، صـ 65 .. إلخ ) ، وإن صيغ هذا العالم خلال ” لعبة خيالية ” تستند إلى اعتماد استباق الزمن ، ومن ثم توليد سلسلة من المفارقات التى تترتب على المعرفة ” المسبقة ” بمصير وشيك ” قادم ” ، كقدر لا راد له ، من جانب ، والجهل به ، من جانب آخر ، وهذه اللعبة الخيالية تضفى على القصة مسحة من ” الفانتازيا ” ، حتى وإن أطلت ـ بشكل خاطف ـ إحالات مرجعية هنا أوهناك ( الإحالة إلى برنامج ” صباح الخير يا مصر ” ، مثلاً انظر القصة صـ 62 ) .
يتملص السرد فى القصة من القيود المكبلة ، ويستكشف مساحات ما غير تقليدية ، نائية عن الحدود التى قد يفرضها عادة تناول عالم محدد ، متعين ، وفى تلك المساحة تتمثل نقطة مراوغة ، تتقاطع فيها لغة الراوى المشارك ولغة الشخصية ، أو لغة ” الكاتب ” ولغة ” بطله ” خلال لعبة ” الكتابة فى الكتابة ” . يقول الراوى ، من موقع الانتماء إلى إحساس ” شخصيته ” التى رسمها ، بطله الذي يواجه محنته الخاصة مع باب مغلق : ” ولكن عليه أولاً أن يفتح هذا الباب اللعين ويدخل خطوتين .. إلخ ) ( القصة صـ 56 ) ، ثم يقول عن الشخص نفسه فى موقف آخر ، بعدما استنفد أغلب حواسه : ” الآن .. لم يعد يملك سوي حاستين لعينتين لن تفيداه فى شئ كهذا ..” ( القصة ، صـ 63 ) .
ـ 4 ـ
القصص الست الأخري بالمجموعة : ” صاحبة الضوء الغافى ” و” المشهد ” و ” عرى بللورى ” و ” ليست بيضاء تماماً ” و ” شال لفاطمة ” و ” شرفات مغلقة ” تخوض تجارب مختلفة ، وتحتفى بتناولات متباينة ، وتتجسد خلال طرائق سردية متنوعة .
***
تتناول قصة ” صاحبة الضوء الغافى ” لحظة خاصة من حياة امرأة ، تغسل فيها ، ” عن جسدها عشرين عاماً من الوجع القديم بضوء شمعة ودخان ، وظلال جسد وماء ، وموسيقى ذات طبول وحشية ، وفتى أسمر فى قاع الوادى يلوح لها من بعيد ، وصدى ” ( القصة ، صـ 76 ) . وفى تجسيد تلك اللحظة تحتفى القصة بالعلاقات الزمنية على نحو خاص ، حيث تتواتر الإشارات لتعبر عن ذلك الوجع الذى اتصل لعشرين عاماً ، قبل أن يتلاشي فى ذلك المشهد الراهن الذى تقع هذه المرأة فى القلب منه ، وهى إشارات تكاد تتخلل فقرات القصة جميعاً . ويصل بعض هذه الإشارات بين زمن المرأة القديم ، وبين حاضرها الذي يتحرر فيه جسدها ، كما يصل بعض هذه الإشارات أيضاً بين هذهين الزمنين والزمن القادم المحتمل : ” الآن وموسيقى الراى تلمسها بصخب ليس لها ، سوف تميل مراكبها بعنف مباغت (..) فيضحك عفريتها الذي لم يصدق ، … بعد كل هذه السنين ؟ ” ( القصة ، صـ 74 ) .
**
وقصة ” المشهد ” تنهض على لغة السيناريو ، بتحديداتها المكانية والزمانية القاطعة المعروفة ” ( المكان .. على رصيف المترو) ، ( الزمان .. صباح باكر جداً ) ” ( القصة ، صـ 80 ) ، وعلى استنادها إلى الصورالبصرية التى تتداخل ـ بعيداً عن ” موضوعية ” لغة السيناريو المفترضة ـ مع تأملات الراوى المتكلم وحواراته وتساؤلاته الذاتية ، التى يسوقها مدفوعاً ، دفعاً خفياً ، بما يراه خارجه : ” المرأة المنقبة اخترقت رصيفى ( …) جلست فى الطرف الأقصى من المقعد ( …) الآن .. ليس لى هذا المكان ، فثمة عينان ترقبانك ، عينات بلا جسد ، أو جسد بلا رائحة أو صوت .. فلمن تعزف لحنك الآن وأنت على خواء الأرصفة ” ( القصة ، صـ 82 ) . تأملات الراوى ، وحواراته ، وتساؤلاته التى يقفز بعضها ويلح بعضها بلا إجابة ، كلها تعكس عالماً داخلياً يتصادي مع ، أو يتصادي معه ، ” المشهد ” الخارجي أو ” المشاهد ” الخارجية التى يرصدها . وفى الحيزين ، الداخلى والخارجى ، تتمحور أحاسيس هذا الراوى لتصوغ رغبة مبتورة فى التواصل الجسدي ، واستثارة خفية ، ضاغطة ، ممضة، معلقة دونما إشباع .
**
وتتحرك قصة ” عرى بلورى ” فى مدار غير بعيد عن هذا المجال نفسه ، وإن أحاطتها هالة تكسو عالمها طابعاً بينياً ، مراوغاً ، ماثلاُ بين اليقين وعدم اليقين ، أو بين التأكيد واللاتأكيد : ” كـأننى رأيت المكان ، وكان هذ قد حدث من قبل .. إلخ ” ( القصة ، صـ 87 ) ، ” هل كان الوقت شتاء ” ، ( القصة ، صـ 86 ، وصـ 87 أيضاً ) ، ” لكننى لا اعرف يقيناً إن كان الوقت شتاء ” ( القصة ، صـ 87 ) ، ” الإسفلت مبلول فعلاً .. لكنن ] لكننى[ لا أعرف يقيناً إن كان ذلك بفعل المطر ” ( القصة ، صـ 87 ) .
” العري البللورى ” ، المتخذ عنواناً للقصة ، مرتبط بمشهد ـ يستعيده الراوى ، الآن ـ كان هو جزءاً منه ، مع جسد تلك التى تجمعه وإياها الظلام فى لقاءات سرية ، ” فالنور مطفأ لتوهم الجيران بأنها ليست موجودة ” ( القصة ، صـ 88 ) . ورغم أن هذ المشهد يلوح كأنه نقطة انطلاق لعالم القصة ، فالسرد ـ بنوع من اعتماد تقنية ” تيار الوعى ” ـ يحلق ، فى غير موضع ، بعيداً عن حدود المشهد وأطرافه ، متحرراً من الارتباط بمجال دلالى واحد ، ومن الالتزام بأية روابط منطقية : ” تشم رائحة عرقهم ؟ تبدو كفتات خبز متخمرة فى مسقاة الفراريج . وفى نهاية المشهد سوف ترى الباليرنات يسبحن أمام لجنة المحكمين ذوي الشعور المستعارة . لماذا يتصرف مدير مجمع الأسماك بهذه الوقاحة ؟ ” ( القصة ، صـ 89 ) .
**
وتصور قصة ” ليست بيضاء تماماً ” عالماً مكتملاً ، خلال سرد مختزل ، يومئ إلى علاقة ما ، حب قديم ، وإلى ذكريات من وعن زمن غابر ، وإلى وضع راهن أصبح فيه هذا الحب ضرباً من السرقة ، مرة أخرى تلوح موضعة الزمن الذى مر ، دونما تحقق ، والرغبة التى ظلت معتملة ، ممضة ، بغير إشباع .
**
وقصة ” شال لفاطمة ” تتوجه ، ابتداء من عنوانها ، نحو العالم الداخلى لشخصيتها المحورية ، وفى هذا العالم الداخلى يغدو للإحساس بالزمن الحضور الأكبر . عنوان القصة ، كاملاً ، يرتبط بما يمكن تسميته ” مركز ثقل متأخر ” فيها ، لكن الطرف الأساسي فى هذا العنوان ، أى ” فاطمة ” وليس ” الشال ” ، يمثل مركز الاهتمام فى تسلسل السرد كله وتفاصيله جميعاً ( باستثناءات قليلة يوازى خلالها الراوى ابن فاطمة و زوجها ) ؛ حيث نظل نتحرك مع هموم فاطمة وتأملاتها التى تتواتر وتتوالى وتتسلسل وتتدفق : ” ولكنها مندهشة من أولئك الذين يقولون فى الصباح ” أى حاجة ” ثم ينتقدون اختيارها على الغذاء ” ( القصة ، صـ 101 ) ، الليلة تعرف أن الأيام تفعل فعلها ، الأيام التى لم يعد لها طعم ” ( القصة ن صـ 107 ) ” ، ستتأكد أن شيئاً لم يفلت من ذاكرتها .. إلخ ” ( القصة ، صـ 106 ) .
عالم فاطمة ، المستغلق دون المحيطين بها ، السري تقريباً ، والمحصور داخل حدود صاغتها تجربة سابقة منقضية ، يستدعى العديد من الإيماءات لذكريات قديمة ( ” ربما تعيد ترتيب الصور ، عندئذ ستتأملها قليلاً وتحاول تذكر أصحابها ” ـ القصة ، صـ 102 ) ، وتكتمل معالم تلك الذكريات خلال وضعها إزاء ما يناقضها ، أى إزاء ما جلبه الزمن الراهن من تغيرات : ( ” فمناسبة كهذه تجعل فاطمة تفكر فى زمنها ” ـ القصة ، صـ 102 ، “ الليلة تعرف أن الأيام تفعل فعلها … ” ـ القصة ، صـ 107 ) .
**
وأخيراً ـ تمضي قصة ” شرفات مغلقة ” فى مسار ليس بعيداً جداً عن تناول القصة السابقة ؛ إذ تنهض على متناول مسكون بهاجس تغير الزمن ، والسعي ـ المقضي عليه بالخسران ـ إلى مدافعة هذا التغير ، والتساؤل المتصل ـ بطريقة تنأى عن الأحكام القاطعة ـ حول تقويم ما يجلبه هذا التغير ، الزمن المرجع منصوص عليه بوضوح هنا ، تحديدات شتى واضحة ( انظر القصة صـ 118 ) ، لتأكيد تلك المسافة بين ما كان وما هو كائن ، من ناحية ، ولجعل الوضع القائم الجديد مقترناً بقسمات مرئية ملموسة ، تكاد تكون حادة ، تفسر لنا تجربة أو تجارب من وطأهم الزمن ، خلال مروره ، بخطوه الثقيل ، والراوى المتكلم ، المتأمل فيمن حوله وفيما حوله ، بنظرة لا تخلو من شفافية ، يفصح فى سرده عما يشبه الانحياز إلى ذلك العالم الذي يذوي ، خلال إشارات عديدة يسوقها ، كلها يؤكد الحنين إلى ما ولى ، مر وانقضي : ” فترفّ نفسي بقوة ، وتحنّ لأيام كنت أجئ هنا … إلخ ” ( القصة ، صـ 124 ) ، ” أنظر لنافذتى التى اعتدت الوقوف بها و أري من خلالها ملامح الجمال القديم … ” ( الصفحة ذاتها ) ، ” فانظر إلى الصفاء القديم فى عينيه وانتظر رده ” (القصة ، صـ 125 ) .
***
نعم ! هى مجموعة من قصص متنوعة على مستوى التناول و السرد الفنى معاً ، يجمع بين عوالمها ما يجمع ، ويفرق بين هذه العوالم ما يفرق .. لكنها جميعاً ، مع ذلك ، موصولة بتجربة سيد الوكيل السابقة والتالية ، معاً ، فى آن
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ناقد مصري