ملامح من “أفيال صغيرة لم تمت بعد”

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 78
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

راندا طه

بين اهتزازات غارت ذبذباتها إلى العمق ، وأخرى همست وتماست مع أشياء كلها تعتمل فينا نسجت القاصة " نجلاء علام " مجموعتها " أفيال صغيرة لم تمت بعد " قد تحكي أحياناً عن أحداث وأشخاص بكل مكوناتهم سواء المختزنة من الماضي أو التي يفرزها الحاضر ، ملقية الضوء على علاقات متوترة ثرية وإن كثر النمط الأول ، كما اتخذت الكاتبة شكلاً مُختلفاً في القص اعتمد على تعدد الأصوات مثل قصة " الطريق " .

وهناك عدة أشياء تستلفت النظر في المجموعة أولها قدرة الكاتبة على عرض مشاهد  متعددة يشي ترابطها بحس المتلقي للقصد الدلالي للنص ففي قصة ” هكذا ” ترى صنبور الماء الذي تضربه بباطن يديها ومع صرخة الألم ينهمر الماء ، شعلة النار تهب عالية ثم تنخفض ، نقطة الماء تنزلق فيتطاير الشرر وتبدو شدة الإرتباك ، سلك الشباك تسده الأتربة ورغم ذلك تتنفس الراوية بعمق ، سرب صغير من الحمام يحلق تتبعه الراوية من البلكونة الوحيدة لكنه كاد يختفي ، تحضر أكوابا عديدة لكنها تفرغ ما في البراد إذ تتذكر أنها ستحتسي الشاي بمفردها لنصل في النهاية إلى أن الحياة هكذا يختلط فيها الأخذ والألم ، تنفلت كسرب حمام وترتبك فيها الأشياء ، ونحن ندركها ونحياها كما هي .

 وفي قصة ” محاولة ” نرى ذلك الرجل الذي يحاول رفع البرميل ليسقطه داخل العربة الصغيرة لكنه لا ينجح ، تجمع زوجته قطع الخبز من تل القمامة وعلى نفس التل ولدان عليهما الذباب ويبحث أحدهما عما يلعب به فيجد مصباحاً يلقيه فيتناثر زجاجه على الأرض صانعاً مع الشمس انكسارات تنعكس على عيني بنت صغيرة ترقبه من شرفة مواجهة ، إنها محاولة للتعايش صنعتها يد الرجل المعروقتان والخبز الذي تجمعه الزوجة والولد بلعبة لابد تحسده عليها فتاة الشرفة ، محاولة تؤكد أن الإنسان قادر على الخلق حتى في أسوأ الظروف وطبعا نلاحظ في النصين ” هكذا ، محاولة ”  اعتماد الكاتبة على مشاهد بصرية يؤدي ترابطها إلى مفهوم دلالي بعينه ويمتد هذا إلى أغلب النصوص .

هناك ملمح آخر تمثل في إلتقاط الكاتبة لشخصيات فريدة واستطاعت أن ترسخ تفردها لدى المتلقي حيث قدمت تفاعل تلك الشخصيات مع من حولها سواء كان هذا التفاعل نفسياً أو اجتماعياً ، ويتجلى ذلك في قصص ” نور ، موال للحاوي ، كان ” وكما تفردت الشخصيات تفردت أيضا لحظاتها النفسية ويتجلى هذا بشدة في قصص ” شعرات بيضاء بطول الشعر ، عبور ، الصعو نحو إبتسامة خابية ” وربما كان لملمح تفرد الشخصيات ولحظاتها النفسية دوره في أن تنسج القاصة نصوصها بين جميع الناس ليتضح هذا التفرد ، حتى أننا نجد في النص الواحد شخصيات مختلفة بينها علاقات متشابكة متوترة تتفاعل لتثمر النص وذلك مثل قصص ” إرتعاشة ” خيال ، علاقة ، ظلال ” .

ومن أهم ملامح المجموعة ” الإحتفالية بالمكان ” ، فلا يكاد يخلو نص من منظومة مكانية تحددها الكاتبة وتحرص على وصف كل التفاصيل مهما كان المكان ضيقاً كالعربة في قصة ” الطريق ” ، ومهما تعددت الأماكن داخل النص الواحد تستطيع القاصة أن تحفظ لها بهاء الوصف حتى أنها من خلال وصف المكان تدلل على الزمن كما في قصة ” الجياد ” التي تعد مع ” أفيال صغيرة لم تمت بعد ” من أعلى قصص المجموعة .

– أما ” سفر الأمكنة ” فتعد – على ما أرى – تتويجا لإحتفالية المكان فالقصة تتكون من أربعة مشاهد بصرية الأولى بعنوان ” التابوت ” تابوت الموتى يقبع تحت السلم الصامت باهت يعني وجوده أن أحدا لم يمت اليوم ، الموت بمعناه التقليدي منفى في الجملة لكن النص في مجمله يرصد مواتا آخر يترسخ مع كل جزئية . تترك القاصة التابوت والعصافير الصامتة لتصل إلى المخزن حيث العمال والبضائع ، يستوقفها في كل هذا ” حواف الصبار صفراء باهت لونها تأكله الشمس ” فرغم ما يزخر به المكان الصبار العطش المشهد الثاني ” الحمام ” تلقي الحمامية على مسامع الراوية ” إني أعرف أسرار الأجساد ، بتول وقلبك فيه حرقة ، لكل جسد داء وعندي دواء الأجساد ، تستجيب الراوية وتصف تفاصيل المكان حتى تصل إلى الساحة الدائرية لتقيم طقوس ما يشبه الزار ، غناء ينبعث ينادي كائنا خرافيا .. انفلت إلى الدائرة .. أغطس وأرتوى ثم أعود فأطفو نحو الشمس الذهبية ، تنفلت إذن إلى عالمها الخاص وفي النهاية ” ينحسر الماء ” ، في اللوحة الثالثة ” الشجرة ” التي تصادقها القاصة تجمع كل أوراقها الساقطة وتمارس لها طقوس الصباح والمساء وتلقتها الوصية ” أريحي جسدي بجوار جذورك لأصير زهرة عالية ، حتى حين تلتمس الحياة لا تبغي إلا أن تكون زهرة قصيرة العمر ، في اللوحة الاخيرة ” البهو ” ترصد القاصة الثريات والضوء الواهن ، المكان المتسع ، القبة ، الشبابيك والمشربيات ، كل التفاصيل التي تدور في جنباتها حتى تصل إلى ” صينية القلل ” التي لا تروي عطش وأخيرا يتحول جسدها إلى ظل يسحب الوجه إلى الجدار . إنه بحق سفر للأمكنة لكنه سفر – كتاب – يفتقد الحياة .

 من خلال سرد متقن تُخبرنا القاصة نجلاء علام أن الحياة هكذا عرضت غرائبها علينا ، لنحذر معها في النهاية -عندما تختلط الأصباغ على لوحة الحياة -ماذا يكون اللون ؟!

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الأهرام المسائي ، الأحد بتاريخ : 22 مارس 1998 م .

عودة إلى الملف

 

 

مقالات من نفس القسم