مكتب البريد.. رواية بوكوفسكي التي لم يهدها لأحد

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عن منشورات الجمل وترجمة المترجمة الفلسطينية ريم  غنايم، صدرت ترجمة  رواية مكتب البريد لتشارلز بوكوفسكي. تشارلز بوكوفسكي الذي عرفناه في العالم العربي شاعرا  نتعرف عليه لأول مرة باللغة العربية كروائي في روايته التي صدرت عام 1971 وهي الرواية الأولى التي نشرت له .

ولد بوكوفسكي في عام 1920 وتوفي 1994 وعرف دائما كشاعر غير نمطي حتى إنه رفض أن يصنف ضمن أيا من التيارات الشعرية السائدة في وقته، عالم بوكوفسكي عامر بالسكارى والعاهرات والشوارع الخلفية سواء في شعره أو في كتابته الروائية وحتى في حياته الشخصية .

في مقدمة الرواية يكتب بوكوفسكي :

هذا العمل من وحي الخيال وليس مهدى لأحد ولإننا لا نستطيع التعامل مع الكتابة بمعزل عن الكاتب ندرك من هذه الجملة القصيرة كم الوحدة والاغتراب في حياة بوكوفسكي للدرجة التي جعلته لا يجد شخصا واحدا يهدي له روايته الأولى .تبدأ الرواية بدخول سريع إلى قلب مكتب البريد دون مقدمات طويلة  كمغامراته الجنسية العابرة وبلغة بسيطة  متداولة قريبة من  لغة بوكوفسكي الشاعر الذي لا يهتم بزخارف اللغة ومحسناتها .

يتعامل بوكوفسكي مع الجنس بصورة مباشرة ودون التفاف تجعلنا نتعجب من كون الجنس تابوهاَ يُمنع الاقتراب منه من فرط عاديته ووجود ألفاظه واشاراته داخل الرواية، كأن بوكوفسكي يكتب  لنفسه وهو يدخن سيجاره مادا ساقيه في وجه العالم .

في البداية يظن البطل أن مهنة ساعي البريد مهنة بسيطة ستجعله يضاجع كل االنساء اللائي يسلمههن البريد كما يظهر من هذه الجملة “لم أحتمل التفكير في أن كل ما يقوم به سعاة البريد هؤلاء هو توزيع الرسائل في الصناديق والمضاجعة .هذه الوظيفة تناسبني  أوه .نعم .نعم . نعم”.

لكن مع كل دقيقة تمر كان يشعر بعدم الاكتراث بالعمل وعدم الرغبة في الاستمرار فيه ، العمل الذي يضطره لحفظ عناوين وخرائط  وتحمل غضب المستلمين  إذا أغضبهم  محتوى الرسائل وكأنه هو من أرسلها وليس مجرد ساعي بريد يوصل ما يحمله ، إلى جانب سخافات مشرفه الذي خلق في الرواية فقط لينغص عليه أوقات عمله ويكتب تقارير ليمزقها البطل  في إصرار واضح على خرق قواعد العمل. العمل الذي يظهره لنا بوكوفسكي بكل قسوته التي تبتلع روح الإنسان دون اهتمام وبكل برود ويظهر ذلك بوضوح مع موظف البريد جي جي الذي عمل في البريد لسنوات وعندما بدأت يده في الارتعاش ولم يعد جسده يحتمل العمل، وانهار دون أن يهتم أو يلاحظ أحد حتى مشرف البريد لم يكن يهتم سوى بوجود بديل لجيجي يقوم بمهمته في التوزيع.

يقول البطل: “لم أر جي جي بعدها. لا أحد يعرف ماذا حدث له. ولم يذكره أي شخص مرة أخرى. “الرجل الطيب” .الرجل المتفاني. الرجل  الذي انتهى بسبب كومة مناشير محل ما – مع عرض اليوم: صابون غسيل مجاني عند عرض القسيمة ومع شراء بقيمة 3 دولارات وما فوق.

بالتوازي مع حكايات مكتب البريد هناك حكايات لنساء هانك البطل، الأولى صديقته  بيتي التي هجرته  لإنها لم تتحمل نمط الحياة معه وخيانااته لها مع الجارات  فتركته  وماتت بعد فترة ولم  يكن لها أي ضغائن وعاد في جنازتها  في محاولة منه لوضع باقة ورد أبت أن تستقر  على قبرها .

والثانية جويس التي تزوجها وهجرته لصالح رجل أخر  كانت تظن أنها ستكون معه في حياة أكثر استقرارا من حياتها مع هانك ، لم يتشبث بها البطل ولم يلح عليها لتبقى معه بل وافق بسلام على الانفصال عنها ليؤكد لنا بوكوفسكي أكثر على شخصية البطل غير المكترث ولا متمسك بشئ في الحياة .

أما  الثالثة فاي التي أنجبت له طفلتها ثم تركته أيضا بعد الاتفاق بينهم وكان يشعر أنه طالما يستطيع رؤية الطفلة فكل شيء سيكون جيداً،  لكنه بعد فترة هجرت المدينة وانتقلت إلى أخرى وأرسلت له خطاب مع رسمة صغيرة رسمتها الطفلة لأجله وهذا كل ما تبقى منها . لم يذكرها بوكوفسكي من جديد.

بعد كل هذه السنوات التي قضاها في مكتب البريد  تمر الذكريات أمامه ويشاهد العمل وهو يبتلع الأنسان ولا يبقى منه سوى بعض الحطام، فقرر أخيراً  تنفيذ فكرة الاستقالة التي يهدد بها منذ بدأ يعمل في البريد وخرج من المكتب محملاً بوزن زائد في جسمه ووهن زائد في روحه دون أي مكاسب تذكر .

يقول في تلك اللحظة “لم أشعربأي اختلاف ، ولكني اعلم أني سأعاني قريبا  من صعوبات في التكيف، مثل رجل انتشلوه على عجل من قاع البحر. كنت مثل ببغاوي جويس اللعينين . بعد أن عشت في القفص ـاقتربت من الفتحة وطرت – مثل رصاصة في السماء. السماء؟”

بعد أحد عشر عاما من الدوران في نفس المدار أخيراً استطاع أن يكون حرا ليفعل ما يرغب فيه وليس ما يفرض عليه, الرواية تجعل كل شخص يفكر في حقيقة أسباب بقائه على قيد الحياة وهل كل منا يفعل ما يرغب فيه أم ما تفرضه علينا الحياة، رواية وجودية محملة بالقلق والهواجس التي تدور في رأس كل شخص، ربما دون أن يحسن لتعبيرعنها،عبر عنها بوكوفسكي بطريقته البسيطة العميقة في آن . تنتهي الرواية به وحيد من كل قيد سواء قيود نساء أو مسئولية أطفال أو عمل وهو يفكر في كتابة رواية، ويقول: “كان الصباح على نحو العادة وكنت لا ازال على قيد الحياة. لعلي أكتب رواية، قلت في نفسي”.

وهذا ما فعلت .

 

مقالات من نفس القسم