مكاوى سعيد يسجل التاريخ السرى لشخصيات وأماكن وسط البلد

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عزة حسين*

لو أن معك قلما رصاصا، أو قريبا من اللاب توب، أو مفرش الطاولة التى أمامك، كنت ستكتب هذه العبارة، وأنت تقرأ الجزء الأول من الكتاب الأحدث للكاتب مكاوى سعيد «مقتنيات وسط البلد».

الكتاب صدر حديثا عن دار الشروق، متضمنا لقسمين، أوكتابين أحدهما عن البشر والآخر عن المكان، وكلاهما عن منطقة وسط البلد الآسرة، والأثيرة بالنسبة للعديد من الكتابات الحديثة، والتى تتضاعف خصوصيتها فى كتابات سعيد.

وهو يحكى فى فصول أو حلقات منفصلة عن مشرروعات نجوم فى الكتابة والفن، وألوان جانبية من الإبداع، كالطباعة، أو الإنتاج السينمائى، والحرف المرتبطة بصناعته، وكومبارسات السياسة والحياة، يحكى حتى عن مخلوقات من عالم آخر، يجمعهم بجانب ذكرى المكان وذاكرة الكاتب، النهايات المأساوية لمشروعاتهم، بالفشل، أو الجنون، أو الهجرة والخروج من المشهد.

البشر والمكان

الكتاب تتنازع كلٌ من تيمتيه البشر والمكان، الخصوصية والتشويق، حتى إنك يمكن أن تنتقل من شخصية لأخرى، وبينهما تروح لمقهى أو كافيتيريا أو بار من الذين قرأت عنهم فى القسم الأول، لكنك لن تعود بسهولة من هناك، فالأماكن التى قد يوحى الشكل البيبليوجرافى فى فهرستها أول الكتاب بأنها مجرد معلومات وثائقية ملحقة، تتجاوز هذا الحد بكثير، مرة لأن وراءها تاريخا إنسانيا مدهشا وغائرا فى مجهوليته، ومرة أخرى لأنها مكتوبة بنفس لغة وعدسة كاتب القسم الأول الذى يضم حواديت الناس، أو الناس الحواديت، الذين سماهم مكاوى سعيد «المقتنيات».

يذكر أن بين هذه المقتنيات وتميمة مكاوى، أو روايته الأشهر «تغريدة البجعة» التى نقلته إلى صدارة المشهد الأدبى العربى، فاصل زمنى يتجاوز الثلاث سنوات، بينهما أيضا مجموعتان قصصيتان هما «سرى الصغير»، و«ليكن فى علم الجميع سأظل هكذا»، التى فازت بجائزة اتحاد الكتاب فى دورتها الأخيرة، وبينهما كذلك حصول الكاتب على جائزة الدولة التشجيعية العام قبل الماضى، لكن يبدو أن المقتنيات ستكون الحلقة الأهم، بعد التغريدة فى مشوار هذا الكاتب، فمنذ نشرت أوائل حلقات الكتاب بجريدة البديل، بعنوان «بورتريهات وسط البلد»، وهو يلاقى استحسانا كبيرا من أوساط عديدة، وكذا شخصيات أدبية مرموقة من أمثال علاء الديب، وبهاء طاهر، ود. نصار عبد الله وغيرهم، ما شجع الكاتب على الاستمرار فى الكتابة وتوسيع دائرة المقتنيات لتشمل 42 شخصية ثقافية، عاشت فى وسط البلد، ونحتت لنفسها حضورا بين شوارعها ومقاهيها، وحلقاتها النقاشية، كما استبق صدور الكتاب العديد من المعالجات الصحفية لبعض الكتاب أو الصحفيين المطلعين على التجربة.

كان حلما

ويبدو أيضا أن لهذه التجربة خصوصية مماثلة لدى الكاتب نفسه، فهو يصف مقتنياته بالحلم الذى راوده كثيرا، وخصوصا فى الفترة السابقة على كتابة تغريدة البجعة: «حاولت كثيرا كتابتها فى شكل رواية ولم أنجح، لتعدد الشخوص وتقارب نهايتها فنحيته جانبا، وبدأت الكتابة فى التغريدة، وبعد نجاحها المذهل بالنسبة لى، طلبت منى عدة صحف الكتابة لها، واخترت جريدة البديل لنشر أول حلقات المقتنيات، وأسعدنى جدا تقبل النقاد والمثقفين والقراء العاديين لها».

فى «البديل» نشر مكاوى مايقرب من ربع حلقات الكتاب، ثم عكف على باقى الحلقات، وقتها راودته كثيرا فكرة جمع هذه الحلقات فى كتاب «لأن النشر بالصحف والمجلات لا يتيح البقاء لهذا النوع من الحكايات».

وزاد الكاتب 12 شخصية أو حلقة عن الحلقات الـ30، التى أعلن أنه سينشرها بكتابه، ويقول إنه لا يزال يملك أكثر لكنه: «اكتفيت بهذا العدد من الحكايات، حتى لا يتضخم الكتاب، وأضفت جزءا عن المكان ليوضح الصورة للأجيال الجديدة من القراء».

شخصيات حواديت

على أن أهم ما يميز شخصيات مكاوى سعيد هو لا واقعيتها النسبية، التى تجعلها شخصيات حواديت أكثر منها شخصيات تقاسمنا الحياة، هم رغم حقيقيتها أقرب إلى شخصيات الأعمال الفنية أو المسرح، مشبعون ببعض الفانتازيا، ومصائرهم بها قدر كبير من الميلو دراما.

من هؤلاء أديب الشباب «محمود عبد الرازق عفيفى»، أو «الكاتب الظاهرة» كما سماه مكاوى، وهو الشخص الذى ملأ مصر ضجيجا منذ نهاية السبعينيات وحتى بداية الثمانينيات، وكان يعلن عن نفسه بشكل غاية فى الغرابة، فيلون كل المساحات البيضاء التى تقابله «باسبراى أحمر داكن» بعبارات مثل: «أديب الشباب فلان الفلانى… ومن يريد أن يعرفنى يكفى أن أقول له إن عينى عسليتان».

 

 

أديب الشباب كان يقسم أن يجعل أدباء مصر يمتهنون عملا آخر، لكن رئيس حى مدينة نصر أحد الأحياء التى تضررت جدرانها من إعلاناته أعد له كمينا وقبض عليه متلبسا وهو يحاول أن يكتب المزيد من الإعلانات عن نفسه، وتم تغريمه، وإجباره على توقيع قرار بعدم تلويث البيئة، ومناضل «الكابوتشينو»، المتربح من النضال لصالح القضية الفلسطينية، ولصالح العدو فى الآن نفسه، مناديا بضرورة التصالح مع «الآخر»، بينما لم يستطع هو التصالح مع طفل صغير ضربه مرة «على قفاه» فانتقم منه بتخويفه بأنف «بينوكيو»!.

ومن بينهم ايضاَ الصديق المخبر، الذى يطلب من أولاده تسجيل كل التفاصيل التى تجرى لهم بالمدرسة، من اول تفاصيل الدروس ومشاغبات الأطفال، وحتى نكاتهم وسخرياتهم على مدير المدرسة، ومنهم أيضا نرجس الممثلة الحالمة، التى بصقت على العالم فرد لها البصقة، وعلا ريختر المرأة المزواجة، التى تصطاد أزواجا لمدة شهرين من مقاهى وبارات وسط البلد، ويقول لها الأطفال «يهزوكى تنزلى بلح»، و«عم إبراهيم» اليسارى بالمصادفة، الذى قالت له الخلية «الله يخرب بيتك»، بعدما قرر أن يعلن عن نشاط خليته السرية أمام القاضى متصورا أنها اللحظة المناسبة!، و«هريدى» صاحب الـ«مخ على الزيرو» الذى لا يستهلك عقله فى أى شىء أبدا، ويعتبر الكوارث علامات خير.

لكن من أعذب الشخصيات كان غريب الأطوار التشكيلى المهم، الذى يخترع ويصمم كل أدواته بنفسه، ويرى أنه لايمكن أن يمرض جسمه إلا إذا وافق على ذلك، هذا الفنان الذى أخرج ابنه من المدرسة لأن الولد كان يرغب فى أن يعمل كـ«عجلاتى»، فتك به المرض فى أسبوعين، لأنه اختار أن ينسحب إلى عالم آخر مواز، يقدر موهبته وإبداعه، وغيرهم من الشخصيات التى اعترف لها مكاوى سعيد بمواهب فذة، أخمدتها الظروف.

كنت أحدهم

هذه الشخصيات لا ينفى مكاوى الذى عاش مايقرب من 20 عاما فى الظل، قبل نقلة «التغريدة»، انحيازه لها، كما تشى الحكايات، بتورطه معها فى علاقات إنسانية تتجاوز المراقبة: «رغما عنى انحزت لبعض هذه الشخصيات التى كانت متخمة بالموهبة، وحدثت أمور قدرية أبعدتهم عن التوهج».

لا ينكر أيضا أنه كان من الممكن أن يكون أحد هؤلاء المفلَتين من الذاكرة، لولا النجاح الذى اجتلبته تغريدته الأخيرة: «كنت بالفعل أحد هؤلاء وقد أنقذنى القدر، لذا حرصت على تسجيل حياتهم، لأننى لو لم يقدر لى النجاح كنت أتمنى أن يكتب عنى كاتب، يذكر أننى عبرت يوما فى مجتمع المثقفين والفنانين».

رغم ذلك فإن فن الكتابة كان حاضرا بالتوازى مع الرغبة فى تجفيف وحفظ هذه الصور والحوداث واللحظات المقتناة، ومهمٌ أن نعرف أن نسبة الخيال تتجاوز ضعفى الحقيقة فى حكايات الأشخاص المذكورين، الذين اختار الكاتب أن يجهِل أسماءهم وسماتهم حتى لا يتعرف عليهم إلا القليل:

«بالنسبة للشخصيات فمساحة الواقع والحقيقى ضئيلة، بحيث لا تتجاوز الـ30 بالمائة، فأنا بطبيعة الحال لا أعرف شيئا عن حياة هذه الشخصيات فى بداية حياتها، لكن قد أعرف المراحل النهائية أو تصلنى أخبار عنهم، وهنا يدخل الخيال ليضع تصورا عن حياتهم قد يقترب أو يبتعد عن الحقيقة».

بطولات الأماكن

وبالعودة للأماكن، فقد قسمها سعيد إلى شوارع، وميادين وأسواق، سرد التواريخ الرسمية والشعبية لكل منها، وربط بينها من خلال الزمن والشخوص، ملوكا كانوا أو ملاكا أو مؤسسين، مع سرد الأحداث المؤثرة فى هذا السياق، كدخول الترام إلى مناطق مختلفة من القاهرة وربطه بين العتبة الخضراء والعباسية عام 1896، ثم بين شبرا والقاهرة عام 1903، وازدهار وسط المدينة بالمبانى التجارية والإدارية إثر ذلك. كما سرد تواريخ وظروف تأسيس الأحياء الراقية كضاحية مصر الجديدة التى أسسها البارون «امبان»، وأحياء جاردن سيتى والمعادى، والزمالك وغيرها..

الجزء الأكثر تشويقا هو ذلك المخصوص للمقاهى والبارات والفنادق القديمة، وهو جزء، من الواضح أنه أرهق الكاتب، الذى كان بالتوازى باحثا فى هذا السياق: «هذا الجزء من الكتاب أخذ منى أكثر من سنة ونصف فى البحث والتقصى، والرجوع إلى المراجع، والاستماع إلى من لديهم خبرة أكثر منى بالمكان، وقد أجهدنى ذلك كثيرا لأننى وجدت المعلومات ضئيلة جدا فى هذا المضمار».

تجدر الإشارة إلى أن هذه الأماكن كانت أبطالا موازية لشخوص الحكايات، وضمت فى ذاتها حكاياتها الخاصة عن أصحابها وملاكها وروادها من الكتاب والنقاد والفنانين، هذه الأماكن أخرجها الكاتب بأدوات السينما التسجيلية والوثائقية التى يجيدها ويمارسها، ومنح الشخصيات والأحداث داخلها مساحات كبيرة، كما جرى الحال فى نصوص الشخصيات التى لم يكن المكان بداخلها ثانويا، رغم ذلك لم يشأ الكاتب الدمج بينهما واختار أن يستقل كل جزء بأمكنته وموضوعاته وشخصياته:

«لم أرغب فى أن تكون المعلومات عن المكان بمثابة إرهاق لنص الشخصيات ورأيت أن من الأفضل فصلهما حتى يصبح للقارئ حق الاختيار لو رغب فى معرفة تفاصيل عن المكان، وما يهمنى كان بث صورة حية لفترة جميلة ماضية».

 

 

نهايات حزينة

هذا ورغم مأساوية النهايات التى ارتبطت بشخوص وسط البلد إلا أن ما جرى للأماكن كان أكثر مأساوية، فيكفى أن تعرف أن مكان الخطوط الجوية الكويتية كان مرقصا جميلا يسمى «مولان روج»، ومكان طلعت حرب مول كان فندق «ناسيونال» الذى اشتراه «الريان» وحوله إلى «جاراج» سيارات ثم إلى هذا المول، وأن كافيتيريا «الأمريكين» قد تأسس مطلع الثلاثينيات ليكون ملتقى طبقة الأفندية الذين لا تساعدهم ظروفهم المالية على دخول محال جروبى أى أنه «للبروليتاريا»، وأنه كان هناك مقهى للطهاة به أول تليفون يدخل لمقهى، ومقهى باسم مقهى الكلاب، وآخر للخرس، ومقاهى كثيرة للكتّاب كمقهى «الحرية» والندوة الثقافية، وسوق الحميدية وزهرة البستان وغيرهم.

وفى كل هذه الأماكن لا يمكن اعتبار ماقيل بشأنها رصدا مجانيا وإنما تأريخا وتحليلا متواريا، ورثاء كذلك لمنطقة وسط البلد التى كانت مركزا للعديد من الأحداث الثقافية والسياسية والاجتماعية الأهم على مدار القرون الأخيرة.

تبقى الإشارة إلى رسوم الفنان «عمرو الكفراوى، التى أكملت نص هذ الكتاب، ورغم أن عمرو من الأجيال الأحدث التى اختلفت شكل علاقتها بمنطقة وسط البلد وأماكنها وشخوصها إلا أنه نجح وأجاد كما يؤكد مكاوى سعيد فى رسم الشخوص والأماكن كأنه يعرفهم:

«أتابع عمرو الكفراوى وإبداعه فى فن الأغلفة منذ فترة، ورحبت بأن يرسم الشخصيات والأماكن، لكنى لم أقدر موهبته حق قدرها إلا بعدما رأيت الكتاب فى صورته النهائية، وأنه تفوق على نفسه وأصبح فنانا تشكيليا لا يشق له غبار.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

*شاعرة وصحافية من مصر

مقالات من نفس القسم