البشير الأزمي
تحركت السيارة في اتجاه ضريح الولي الصالح “سيدي أحمد الشيخ”. لم يمتثل أبي لتوجيهات “الفقيه الودراسي”، بل أمي التي رفضت أن تزور الولي الصالح سيدي علي بن حرازم. أقسمت ألاَّ تطأ قدماها أرض المزار. واشترطت أن لا يصاحبهما سي علي في رحلتهما إلى “سي احْمَشيخ”[1]. خوفاً من أن يودعها مرة أخرى بين جدران “مايوركا”.
أربع ساعات تقريباً تفصل بين تطوان وضريح الولي الصالح “سي احْمَشيخ”. تطَوَّع عبد الله، ابن أخت أحمد النفاح، لمصاحبة أبي وأمي في رحلتهما نحو الخلاص. أقسم ألاَّ يتقاضى أجراً مقابل مصاحبة والدي لزيارة الولي الصالح. الشرط الوحيد الذي اشترطه. أن يكون السفر الاثنين، لأنه يوم عطلة بالنسبة إليه. ويستطيع خلاله الاحتفاظ بالسيارة التي يعمل بها سائقاً لدى الحاج عبد السلام. وأقسم أن يتطوع كذلك بدفع ثمن الوقود. فالحاج وللا رحمة لهما مكانة متميزة في قلبه.
راقب محرك السيارة وعجلاتها. بعد صلاة الفجر مباشرة، ودون تناول وجبة الفطور، انطلقت السيارة في اتجاه مدينة القصر الكبير، اقترح أبي على السائق أن يتوقفوا بالعوامرة؛ بين العرائش والقصر الكبير، لتناول وجبة الفطور. بعد استراحة قصيرة تابعت السيارة رحلتها.
عبرت السيارة مدينة القصر الكبير واتجهت نحو الطريق المؤدية لشفشاون. ليُكَسِّرَ السائق جدار الصمت، التفت نحو أبي قائلاً:
– سنترك الآن مدينة القصر الكبير. لم يتبق لنا سوى ست وثلاثين كيلومتراً تقريباً، خمس وأربعون دقيقة ونصل إلى “سي احْمَشيخ”، سنعبر قرية “تَطُّفْت”، ستكون المسالك وعرة. آمل أن لا تتعطل السيارة.
كانت المسالك وعرة حقاً، بانتباه حذر وببطء سلحفاة كان السائق يقود. يداه الاثنتان تمسكان، بقوة، المقود. ويد ثالثة، اختلقها خوفه، على القلب. بين الفينة والأخرى يرمي أبي بصره عبر المرآة يسترق النظر إلى نصفه الآخر.
كانت أمي داخل السيارة وخارجها في آن. جسد حاضر وعقل يحلق في أماكن أخرى ويفكر في أشياء أخرى. لكن هل مازال لأمي عقل حتى تفكر؟ لو كان لها عقل لأغنت أبي عن مشقة الرحلة.
قبل الوصول إلى قرية القُلَّة انعرجت السيارة نحو اليسار لتشق المسالك الوعرة التي تفصل أمي ومصاحبيها في رحلتها نحو قدرها الجديد.
- صعبة هي المسالك الآن..
قال عبد الله.
- صعبة هي مسالكي أنا..
قالت أمي.
التفت أبي صوبها، حاول التخفيف عنها قائلاً:
- كل شيء سيكون سهلاً بمشيئة الله، هي سحابة صيف..
لم تنتظر أمي أن يتم الحاج كلامه، أردفت:
- بل هي سحابة شتاء برعدها وبرقها.. أغرقتنا.. أغرقتنا. الحمد لله على كل حال.
حلَّقَ فوق الرؤوس صمتٌ للحظات. ها هم يطوون الطريق طياًّ، ويكتوون بلظى شمس تركت مكانها، واقتربت من رؤوسهم حتى ليخَيّل للمرء أنه باستطاعته أن يخرج يده من نافذة السيارة، ويرفعها قليلاً ليلمس الشمس، يقطفها ويرمي بها إلى بركة ماء ليلطف من روعة الحر.
- هل سبق لك أ الحاج أن امتطيت دابة عند تنقلك؟
سأل السائقُ أبي.
دون مساحة تفكير ردّ أبي:
- هي الدواب التي امتطتنا؛ نعم يا سيدي، امتطتنا دواب الدهر، الحياة دابة مفترسة، افترستنا الحياة.. افترستنا الحياة..
ابتلع السائق لسانه، صام عن الكلام. خشي أن يسأل من جديد، ويُخرِج أبي أفعى لسانه ويلذعه بألغازه.
أحس أبي بما يخفيه صمت عبد الله، وقال:
- ماذا عن دوابك؟
أعاد السؤالُ الاطمئنانَ للسائق، أرسل ابتسامة لا لون لها، وقال:
- اقتربنا من مربض الحصان الحديدي. هنا نهاية الرحلة الحديدية. ما تبقى من مسافة علينا أن نقطعه مشياً على الأقدام، أو نمتطي الدواب؛ دواب مخصصة للكراء. عشرون دقيقة تفصلنا عن الضريح.
بدت قرية جَهْجُوكَة في الأفق بحوماتها الثلاث الرئيسية؛ حومة الشلوشيين وحومة الحدادة والحومة الفوقية. انفكت عقدة لسان عبد الله وحمد الله على سلامة الرحلة. بدت علاماتُ الانشراح على محياه، وبدأ الحديثَ عن هذه التجمعات السكنية:
- انظر سي أحمد، هؤلاء الناس الآدمو البشرة إنهم من أهل حومة الشلوشيين، لون بشرتهم يميزهم عن أهل حومة الحدادة، هؤلاء يعرفون بالكرم. الحومة المتبقية هي المعروفة بالحومة الفوقية بها يوجد “سي احْمَشيخ” هو ذاك، عند شجرة التين الكبيرة. حافظت هذه الكرمة على نضارتها وقوتها. انظر كم هي باسقة. هل ترى السلاسل أسفل جذعها.
انتبه، فجأة إلى زلَّة اللسان التي أوشك أن يقع فيها. حوَّلَ مجرى الحديث وساقه تجاه الأحوال الجوية المنقذة؛ كلما التقى شخص شخصاً آخر لم تسبق له معرفة به، كانت الأحوال الجوية المقدمة والجسر الذي يبني عليها الطرفان حديثهما. اقترب من سي احمد قليلاً وهمس بصوت، اجتهد كي لا يصل إلى أذن للا رحمة، وأتم الجملة التي بقيت عالقة بين شفتيه:
– هي ذي الشجرة التي يربط إليها المجنون، اكتشف الزلة التي فاه بها، في حق الزوج وزوجته، أو انفلت من لسانه، لم يحترم مشاعرهما، استدرك:
– أريد أن أقول المريض؛ يربط المريض إلى الشجرة ويظل هناك لمدة تطول أو تقصر، حسب حالة المصاب واستعداده للشفاء. هل أنت مستعد لتظل بصحبتها إلى أن تشفى؟ كل شيء متوفر هنا أ سي احمد.
نعم، كل شيء متوفر هنا؛ الشجرة الكبيرة التي ستوثق إليها للاَّ رحمة، والسلاسل المهيأة لإحكام القيد حول رجليها ويديها. ولهيب الحرارة التي ستسلط على جسدها وتحول بشرتها.. كل شيء متوفر هنا. جئت بك إلى هذا الخلاء، للا رحمة الوهابي وسأعود بك وأنت للا رحمة أخرى. لن يتعرف عليك أبناؤك. سآمر “المقدمة” لتبقيك يا للاّ رحمة في الغرفة بعيداَ عن لسعات الشمس، وإن سنحت لك الفرصة ليكن أقصى مكان تصلين إليه تلك الشجرة القابعة في الساحة. لا ضير في أن تحكم القيد حول كوعيك، ففي تقييدهما فائدتان؛ الأولى استجابة لطقس العلاج والثانية كي تحافظي على بياض بشرتك وأنت تنعمين بظلها. لن يتعرف عليك أبناؤك ، عند عودتك، يا للاَّ رحمة. أكيد سيتهمونني بإجلائك بين الجبال عمداً والعودة بزوجة جديدة. سيقولون ملَّ أبونا الحياة إلى جانب امرأة لم تعد تنعم بلذات الحياة.. ملَّ أبونا الحياة مع امرأة سقط عنها لسانها، وعُقِل عقلها لمدة غير محدودة.. ملَّ أبونا الحياة مع امرأة أضحت تقضي سحابة يومها، وأحياناً فترات من الليل تذرع شوارع المدينة بحثاً عن طيف ابنتها.. سيقولون تخلص منها لينعم، ما تبقى من حياته، إلى جانب “شلوشية” أوقعته في شباك حبها. سيقولون: كم كان أبونا ماكراً، اختار “شلوشية” جميلة، ببشرتها بلونها الأبيض وعيونها الزرقاء مثل تلك الاسبانية التي كان يحدثنا عنها يوم قادته الأزمنة الصعبة للمغامرة بحياته في اسبانيا إلى جانب جيش “فرنكو”[2]؛ تلك المرأة التي ضحت بأسرتها ودينها من أجل الظفر ب”محمد”[3]، ولم يكن محمد إلا جندياً عبر إلى الضفة الأخرى، سعياً للفرار من شبح المجاعة الذي بسط يديه على جسد بلده وبطش بقوة.
ترجل أبي وأمي وعبد الله عن الدواب التي حملتهم، تحت هذه الشمس الحارقة، إلى المزار. تكفل أبي بالشريفة، خارج الأسوار المحيطة بقبر “سي احْمَشيخ” في انتظار أن يعود عبد الله الذي سعى لتهيئ مكان للإقامة.
لم يتأخر عبد الله في العودة وهو يوجه الكلام لأبي وأمي:
- خذوا معكم حاجياتكم، قد حصلت على غرفة ستقيمون بها طوال المدة التي ستستغرقها الزيارة.
أخذ أبي الحاجيات البسيطة التي حملها معه من تطوان، دخل وأمي من الباب الشرقية كما طلب منهم عبد الله الذي كان يتقدمهم بخطوات، التفت نحوهم وقال:
- إن الدخول من هذه الباب عنوان فأل..
استقبلتهم “الْمَقَدْمَة”؛ المشرفة على توفير البيوت للزوار مرحبة وهي تصلي على النبي. كانت امرأةً بَضَّة، بلباس تقليدي وبلْغَةٍ جلدية. كثيرة الملاحظات والأسئلة. دخلوا الفِناء وصعدوا الأدراج المؤدية إلى الغرف بالطابق العلوي. كانت كل غرفة مخصصة لأسرة.
- إن أكثر الغرف مأهولة هذا اليوم،
قال أبي.
- بل هي كذلك طوال السنة..
ردَّت “المقدمة”، زوارنا كُثْر. الناس يثقون، بعد ثقتهم في الله، بالولي الصالح..
فتحت “المقدمة” باب غرفةٍ، دخلت أمي وخلفها أبي. تفقدا المكان. كانت الغرفة كبيرة وغير مؤثثة. جدرانها شبه متآكلة، رائحة الرطوبة تجهز على الفرد وهو يلجها. نافذة يتيمة وصغيرة قريبة إلى السقف كأنها صممت عمداً حتى يتعذر على ساكن الغرفة الإطلال منها ومعرفة ما يجري في باحة المزار، وما يجري خلف الغرف. خرج أبي وبعد برهة، عاد حاملاً بعض الأفرشة والأغطية، وبعض أواني الطهي. طلبت “المقدمة” من أبي أن يضع أواني الطهي بالقاعة المخصصة لذلك بالطابق الأرضي.
أطل أبي من النافذة، رمى بصره صوب الفضاء الشاسع المنبسط أمامه. حيث يرقد أهل العالم الآخر. تأمل قبور الراقدين هناك بالمقبرة الواقعة قرب المسجد، همس لنفسه قائلاً:
- ترى هل يحس أهل هذه الديار بما نحس به من معاناة؟
أجابه ضجيج الصمت.
إلى جانب المسجد بئر كبيرة؛ “بئر لِمْراح”. وتعرف لدى السكان ب “بئر الفهامة”، يعتقد السكان، وترسَّخ لدى الناس، أن من شرب منها أو سبح في مياهها يغدو سريع الاستيعاب للأشياء؛ يغدو حذقاً. تأسف أبي لعدم معرفته الأمر من قبل؛ يوم كان في مقتبل العمر، لو كان الأمر حصل، لَعَبَّ من مائها واغترف منها غرفاتٍ عديدةً وَلَسبَحَ في البئر حتى يتخَلَّص مما لحقه من شوائب الزمن.
ترك أبي للا رحمة في الغرفة لتستريح من تعب السفر. أوصى “المقدمة” أن تمكث إلى جانبها إلى حين عودته. خرج، اقترب من البئر تأملها وحاول أن يربط بينها وبين اسمي “لمراح” و”الفهامة”، لم يجد قاسماً مشتركاً بينها، اعترف حينها أن هناك مسافة شاسعة بينه وبين ” الفهامة”.
على بعد أمتار من البئر يوجد مسجد. تذكر أبي الحكاية التي حكاها له عبد الله من قبل؛ حين كانوا يتناولون وجبة الفطور بالعوامرة. بعد أن عبَّ عبد الله من كأس الشاي قال:
– إلى جانب المسجد كانت توجد دار يجتمع فيها أفراد الفرقة الفنية “جهجوكة”[4] يتدربون على عزف أغاني شعبية محلية، مستعملين الطبول والمزامير. حدث مرة أن كان الطلاب، بعد حفظ الأجرمية، يتلون القرآن، فاختلطت أصوات قارئي القرآن بالموسيقى.. لاحظ الفقيه أن بعض الطلاب بدأوا، بطريقة غير شعورية يتمايلون استجابة لنداء الفن القابع داخل النفس الإنسانية، اشتاط غضباً، ترك المسجد واتجه نحو الدار، طرق الباب وما كادت تُفْتَح حتى انقضَّ على أحد أعضاء الفرقة.. تشابكت الأيدي والألسن. ولولا لطف الله وتدخل بعض سكان القرية لانتهت الليلة بما لا يحمد عقباه. رعد الفقيه واشتاط، وخرج عن وعيه ووقاره. تلفظ بكلام لا يليق بمقامه، وهو العاقل الحافظ كلام الله. وختم على قلب أعضاء الفرقة خاتم الكفر.
ظل هذا الحدث سائراً على ألسنة الناس لفترة غير قصيرة. لكن سرعان ما تبخر تحت وطأة حرارة الشمس الحارقة، إلاَّ أن تبخره جاء متأخراً لأن الفقيه غادر القرية بعد صلاة فجر يوم ماطر، لم ينتبه السكان لذلك إلا بحلول وقت صلاة الظهر. انتظروا بالمسجد قدومه وانتظروا.. ثم قدَّموا للصلاة إماماً جديداً وأنقذوا الموقف.
سمعَتْ أمي طرقات متتالية وخفيفة على باب غرفتها. تعبُ السفر جعلها لا تقوى على النهوض من المكان الذي كانت ممدة فيه تسترجع أنفاسها. سألت بصوت العليل:
” من الطارق؟”
أجابها صوت “المقدمة”:
” أنا الشريفة.. المقدمة يا للا رحمة. افتحي الباب.”
بتثاقل نهضت أمي، فتحت الباب، فسحت المجال للمرأة للدخول. رحبت بها وطلبت منها إن كان لديها استعداد لتناول كأس شاي. اعتذرت “المقدمة” معللة أن لا وقت لديها. وأنها جاءت لتبدأ معها حصة العلاج. لم تكن الحصة سوى ربط الشريفة بجذع الشجرة.
حاولت أمي في البداية أن ترفض الأمر. لم تستسغه. ما خطر ببالها، قط، وهي التي نعمت طوال حياتها بالتحليق في سماء الحرية، بين جدران بيت أبويها، ولاحقاً بين أحضان ودفء الحاج أحمد، أن رحلة حياتها ستتوقف يوماً عند محطة القيود والأَسْرِ. ظلت واقفة في مكانها لحظات لم تعرف مدتها. تقدمت منها “المقدمة”، وضعت يدها على كتفها وسارتا نحو الشجرة.
………………………
*مقطع من رواية ” لعنة المرايا”، الصادرة عن مؤسسة الثقافية بالمغرب، 2020
…..
[1] – إدغام للكلمات المكونة لاسم” سيدي أحمد الشيخ” بهذه الطريقة يلفظ أهل المنطقة اسم الولي الصالح
[2] – الجنرال فرنسيسكوفرانكو رئيس الجمهورية الاسبانية الذي قاد ثورة ضد الملكية في إسبانيا
[3] – كان الاسبان ولا يزالون يطلقون على كل مغربي اسم محمد وعلى كل مغربية فاطمة
[4] – فرقة فنية شعبية تستعمل الطبول والمزامير. طافت عبر العالم وعزفت مع أشهر الفنانين العالميين، منهم Jimi Hendrix