مؤمن سمير
(1)
قالوا بعد أذان الفجر في ميكروفون الجامع القريب، إنه مات وقالوا تحتَ الشُبَّاك إنَّ العقرب قَرَصَه.
من كثرة ما تخيلتُ العقاربَ ورَسَمْتُها، امتلأ بيتنا بالفعل بها، وأَخَذَنا أبي ورَحَل …
(2)
مع الوقت تَربَّت لي حاسة مميزة، هي اكتشاف الآخرين قبل ظهورهم، واكتشاف كذبهم من ظِلالهم.. الظِلالُ قلَّما تخطئ، الظِلال هي الروح الخام.. ألمحُ الظِل فأحس بدرجة وحشية صاحبه ودرجة شقائهِ في حياته أو سعادته.. و الظلال من شدة حبها لي صارت لا تفارقني رغم أن أشخاصها غادروا- أو حتى نسوا أن يأتوا بالأساس – الظِلال تدخل في الحيطان والأبواب وتجلس بجانبي على السرير وتُربت عليَّ..
لكن بخشونتها المعتادة….
(3)
بدأَ خروجي ينتظم، أتنصت على البيوت الواطئة والبلكونات، سأكشف أسرارهم وترتيبات القتل وأماكن إخفاء الجثث وسأكتب كل شئ، سأصنع منشورات أربطها في أرجل الحَمام فتطير بها للسماء .. خرج الرجل من قلب ظلام البلكونة القريبة من الأرض، بهدوءٍ ماكر جعلني لا أحس به، أصلع يرتدي ملابسه الداخلية وله شَعْرٌ كثيف على صدره وذراعيه وساقيه ووجهه وعيونه .. “بتعمل إيه يا ابن مِلِّة الكلب” .. تناولت الثلاث وأربعين صفعةً و مشيت ثم عدتُ للبحث عن أسناني المحطمة، خوفاً من أن تكون سَقَطَت في مكانٍ لزج، يسمح لها بالنمو………
(4)
كنتُ وراء الشيش أراقبهم، اثنان من الفتية يضحكان، تسارع لهاثي وركَّزتُ تفكيري وأعصابي وكياني كله في إرسال دفقة غاضبة وساخنة تفسد الهواء الذي بينهما، بعد دقائق نجحت المهمة واقتربا من بعضهما .. أحدهما يُخرج مُدْيَةً ويطعن بها قلب الآخر.. غطيت نظري بيديَّ المتصلبتين لكني ضبطت نفسي أشتاق للدم.. أفسحت المجال لعيني .. امتلأ القميص باللون الساحر .. البقعة الغامقة كانت تتسع وتتسع وأنا أكادُ أُجَنُّ من الإثارة.. وعندما هرب القاتل نظر الذي كان راقداً في بركة الدماء إلى فوق، تلاقت نظراتنا وتوقف الزمن، لكنه اصطبغ بالأحمر الفاتن، الذي سيملأ بعدها الغرفة والأوراق والملابس وأعتاد أن أُغلق عليه عيوني مقطباً جبيني مرةً ومبتسماً مرةً أخرى …
(5)
لم يتملكني الحنين أبداً، إلا مرةً واحدة، يوم نسيتُ أظافري التي أحرص على التخلص منها يومياً، مرتعشا ً و متحفزاً.. بعدما قال الشيخ في إذاعة القرآن الكريم، التي تسللت خصِّيصاً إليَّ في المساء، إنها تُخفي شياطين تستظل تحتها. قصصتها بالمقص البارد ولم أقرضها بفمي مثلما أفعل دائماً. مرعوبٌ من أن يستولي عليها أحدهم ويزرعها ويحولها سهاماً تصطادني لأنها تحفظ رائحتي … أين أخفيها .. أين .. ؟ أموتُ شوقاً ولا أنسى المذاق الذي يجرح حلقي ولن أسامح نفسي على نسيانها حتى صارت بيتاً للشياطين.. و أنا في الطريق المظلم تساءلتُ عن سبب طولها المفاجئ، لابد أن شيطانها تثاءَب بصوتٍ عالٍ أو أصابتهُ التخمةُ من مصِّ دمي.. عندما سأصل سأبتلعها أو سأجرح نفسي وأغرسها في اللحم، المهم أن تعود إلى جسدي لتنمو وتنمو وأنهشها كالعادة، لأُحِسَّ بمدى عنفي وقوتي الضارية…
(6)
من المخدرات، التي أزرعها في غرفتي منذ سنوات طويلةٍ تعلمتُ أن أضحك. أضحكُ بنَزَقٍ وبما يُشبِهُ البَلَهْ على أي شئ أتخيل أنهم قاموا به .. قبل ذلك،عندما كان صديقي يضطرني للابتسام على أفعالهم كانت شفتايَ ترتجفان وتصطكُ أسناني وتتأرجح عضلات الوجه بين الانقباض والانبساط وتسقط أكتافي ويتساقط جلدي قطعةً قطعة لأبدو أبلها .. أقصد عارياً.. قبضةٌ من الفولاذ كانت تظهر لتدوسَ الضحكات إلى الداخل، حتى تنعجن وتضيع ملامحها في عيني .. و كلما خرجت مرتعشةً لتتنفس، لا تعود ثانية لمقرِّها الأسود، بل تنطلق في الهواء وتختفي.. أما الآن، ومنذ اليوم فأنا أضحكُ بأعلى صوت، وبانطلاق لا يحدهُ حدود، لأعوض ما فات.. نجَحَت التميمةُ التي خَلَّقْتُها بنفسي في إطلاق روحي وفك عُقَد الأنسجة والخلايا والتربيت على كتف الحَفَّار العجوز الذي يُوَسِّع قُطْر المسام ……..
(7)
تَكَفَّل السمك بغذائي .. كيف أقترب من الثلاجة الضخمة التي لا يفارق قلبها النور القاسي، و التي تشبه الدب الكبير الغبي، أو من الموقد التنين الذي يرمي لَهَباً.. عندنا حوض لسمك الزينة، آخذ بضع حبات من طعامه وأفركها في الماء فأشبع.. الظاهر أن هذا هو سبب تلك الحراشف التي تظهر في ظَهْري و وَجْهي.. و الأغلب أن الله خلق السمك بلا رموش ولا حواجب وساب عيونه مفتوحةً دائماً من أجل أن يراقبَ السارقين ويدهنهم برائحته ويبعث لعناته…
……………….
* غذاء السمك، مؤمن سمير، الذهبية للنشر والتوزيع – مصر2019