جيهان عمر
بالتزامن مع افتتاح المتحف المصري الجديد في بداية شهر نوفمبر كحدث ثقافي.. أقامت قاعة الزمالك للفن معرضا للفنان الشاب جورج فاضل تحت عنوان (الخروج للنهار) ورغم دلالات العنوان التي تشير إلى مستقبل النور.. إلا أن الفنان يتماهى مع روح الفنان المصري القديم عائدا إلى الماضي وتراث الفن المصري القديم.. حيث يبدو كمرجع أساسي ليس فقط على مستوى الأفكار والمفردات والموتيفات الفرعونية.. بل على مستوى الخامات والتقنية أيضا.
Egg Tempera التمبرا..
يقال أن خامة التمبرا كان يستخدمها الفنان المصري قديما والتي يعتبرها فاضل ساحة اكتشاف متجددة فتعامل معها باعتبارها وسيطا حيا قادر على حمل الفكرة وتحويلها لطاقة بصرية وروحية.
وبحسب الفنان: “من خلال التجريب المستمر سعيت إلى اختبار حدود الخامة إلى إعادة تعريفها لا كمادة طيعة بل كشريك في الفعل الإبداعي، لقد وجدت أن الحوار مع التقنية هو في جوهره حوار مع الذات فكل طبقة من اللون كانت مساحة تفكير وكل أثر للفرشاة كان سؤالا جديدا عن المعنى”
حرص الفنان على تدوين تفاصيل الخامات على معظم اللوحات إما أحبار أو تمبرا بيض مع صمغ عربي وأكاسيد طبيعية.. وفي أحيان أخرى زيت وأكريليك.. خلق هذا التنوع ثراءً لونيا مكثفا فجعل العرض الذي يستحضر القدم متحفا للتشكيل البصري الحديث.
أما على المستوى المفاهيمي فتسيطر على فاضل فكرة البوابات الفرعونية بمعناها المادي والميتافيزيقي عند قدماء المصريين.. فكما تعتبر البوابات عند المصري القديم تجسيدا لفكرة الانتقال بين الحياة والموت وانتقال الروح من عالم الأحياء إلى عالم الأرواح، لأن التحرر كان يحمل معنى الخطر فحاولوا أن يجعلوا رحلة الروح أثناء انتقالها آمنة عبر هذه البوابات..
يرى فاضل جورج أن كل تجربة فنية تبدأ من سؤال يتجاوز حدود الشكل واللون بل سؤال عن ماهية الوجود ذاته.
يقول: “في عملي الفني لا أتعامل مع الصورة كغاية بل كبوابة نحو ادراك أعمق للإنسان والعالم..”
هكذا ولد مشروع الخروج للنهار بوصفه رحلة وعي لا تبحث عن تمثيل الواقع بل عن اكتشاف النور الكامن فيه.. النور الذي يتجلى كلما اتسعت الرؤية واتحد الفكر بالحس والرمز بالجوهر”
من ماعت إلى ناثان دوس
هذه النافذة الرمزية التي يعبر الضوء من خلالها تتحول إلى بوابة في لوحة المعرض الرئيسية “ماعت” والتي تعتبر إعادة تمثيل لبردية قديمة.. والتي يجد المتلقي نفسه يفتح اللوحة ليرى بقية الرسم-تصل مساحتها إلى خمسة أمتار- كأنه يكشف المخفي ويساهم ولو رمزيا في عملية المعرفة حيث أن مجرد حركة بسيطة تجعلك متورطا في رحلة الكشف.
أراد الفنان أن يخبرنا أن المعرفة تبدأ من القلب فنلاحظ أن القلب يتكرر في اللوحات باعتباره جوهر الوجود المختبئ بالجسد.. لكنه يرسم لنا تفاصيله الدقيقة ككيان منفرد رغم انفصاله ظاهريا عن الجسد.. لكن هناك خطوط متقطعة تبدو كمسارات تصل القلب بكل عناصر الوجود الأخرى كما في لوحة “ميزان السعادة” التي يهديها الفنان تحية إلى النحات المصري ناثان دوس.
يظهر فيها القلب منفردا وساقطا أسفل اللوحة حيث لا جسد يحتويه بل فراشة تحلق في الأعلى كدليل على انطلاق الروح في رحلتها المعرفية.. ولفتة امتننان إلى واحد من أهم الفنانين المعاصرين..
“رأيت السعادة في نحات يكسر الحجر فعرفت أن المعنى لا يولد من الراحة بل من المقاومة.”
أما لوحة “الخروج للنهار” التي يحمل المعرض اسمها.. نجد الرجل يقف بثبات على حافة المركب أما المرأة والتي يتخذ شكل جسدها في أكثر من لوحة شكل المركب نفسه بانسيابيته الأنثوية التي تحمل معنى النجاة حيث يظل المركب رمزا للتنقل الآمن في رحلتنا بين البحر واليابسة..
القلب يتدلى هنا أيضا أسفل المركب بينما يحدق الرجل في زهرة الحياة النجمية حيث يقرر القدر مصيره..
وفي لوحة لافتة بعنوان صمت الراعي حيث يسكن الصمت ملامح الراعي يتبدل المعنى بين الحمل والحامل كأن العالم كله يبحث عن خلاص لا ينطق ولا يروى.. صمت يسبق الخلق ويمتد بعد الفداء..
يبدو الرجل هنا محملا بمعان متناقضة فنصف الجسد الأسفل مقيد بشرائط عريضة مثل مومياء لم تعد بحاجة إلى الساقين.. بينما يحمل على كتفيه حملا حيا والذي يعد رمزا للفداء.. يلتفتان إلى بعضهما الحمل والرجل وكأنهما يملكان لغة حوار خاصة وينتظران في رجاء.
الحياة
“كانت تبحث عن طريقها فاكتشفت أن الحياة ليست طريقا.. بل زهرة لا تقطف بل تُفهم”
يرى الفنان أن زهرة الحياة ليست شكلا هندسيا بل نفس الخالق حين فاض على الوجود بنبض من نظام وسكون.. في كل دائرة منها ولادة جديدة وفي كل تكرار تذكير بأن الأرواح لا تفنى بل تتبدل أماكنها بين الضوء والظل..
هي البذرة الأولى التي انبثق منها الكون.. والمرآة التي تعكس وحدة الكثرة وتكثيف الجمال في لحظة توازن.. من يتأملها لا يبحث عن معنى بل يتماهى مع الإيقاع الذي بداخلها حيث تختفي الأنا.. وتبقى الروح في انسجامها الأول كأنها تذكر أصلها قبل الانفصال حين كان كل شيء واحدا وكانت الحياة في جوهرها زهرة..











