لا يعقل أن ألجأ الى معجمية الأخلاق وأنا أعيش سمّ المواخير حتى التخمة، كذب لجوئي الى المفردة المداعبة الهامسة وأنا أعيش جحيم المجزرة! قبيح بي وأنا أعيش هذا الذل العربي الحاكم، ألا ( ترقى ) مفرداتي الى هذا الدرك اللغوي وخيانة لجوئي للصمت في وجه العهر والقمع، رغم أن ( العثة في بلد العسكر تفقس بين الانسان وثوب النوم وزوجته تقرر صنف المولود ) فعلى قدر الوجع تكون الصرخة، وعلى قدر التردي يكون التردي، ونحن نعيش البذاءة ممارسة بآلاف الأشكال، نعيش القهر، وبالألوان على شاشات الفضائيات … نعيش العهر الصامت أو الصمت العاهر على أحدث طراز، فأي لغة تريدون؟ أعلي ّ أمام شاشات الدم ومشهدية السقوط، أن أتلهى بالبحث عن لطف العبارة لئلا أخدش من يحزنني من الوريد الى الوريد؟ ‘.
ومظفر النواب يجسد في قصائده تجربته داخل السجن، فيكتب عن معاناة التعذيب والتشرد والترحال ويعبر عن مشاعر الشوق والحنين الى وطنه بلد النخيل، العراق…فيقول في وترياته:
في العاشر من نيسان بكيت على باب الأهواز
فخذاي تشقق لحمهما من أمواس الليل
أخذت حشائش برية تكتظ برائحة الشهوة
أغلقت بهن جروحي لكن الناموس تجمع في الفردوس المشدود
كنذر في رجلي
ناديت: اله البر سيكتشفونني
وسأقتل في البر الواسع
والريح على أفق البصرة تذروني
ويد الطين ستمسح عن جبهتي المشتاقة نيران جنوني
في العاشر من نيسان نسيت على أبواب الأهواز عيوني.
ويعبّر مظفر النواب عن اغترابه ووجعه، وينتقد من كان وراء هذا التشرد وهذا الوجع، ويبكي جرحه في كفه، فلا يستطيع أن يعالج الجرح وحده ويتركه ينزف، ويحكي ويحكي ويتمنى:
صار يكفي …
كل شيء طعمه طعم الفراق
حينما لن يبق وجه الخراب
وجه الناس قد تم الطلاق
حينما ترتفع القامات لحناً أممياً
ثم لا يأتي العراق.
وقصيدته ‘ سفينة الحزن ‘ ثقيلة جداً بحزنها، مثقلة بالمرارة .. بغبار الرحيل .. بأتربة المنافي.. بآمال وهموم الوطن وجراح الأمة، لكن الربان مظفر النواب يظل حريصاً على ألا تغرق السفينة في البحر مهما تلاطمت الأمواج … فلا يتوه عن الدرب ولا يضيع البوصلة:
أيها الجند بوصلة لا تشير إلى القدس
مشبوهة..
حطموها على قحف أصحابها.
و’ سفينة الحزن ‘ ثورية تحريضية تفضح صمت النفط وتعرّي سكوت الأمراء، و ملأى بالحزن، وفي الوقت نفسه ملأى بالثقة الكبيرة بالجماهير والأمة.
إن أكثر ما يشغل مظفر النواب في شعره هو قضية الأمة العربية .. الوحدة والثورة العربية للعمال والفلاحين وفقراء الشعب . ويتجلى ايمانه بالثورة في صعود متواز مع النزعة والروح القومية والعروبية والطبقية لقصائده، هذه الروح التي تؤكد أن تجدد الأمة العربية يقوم على أساس التجديد في الدور القيادي للطبقة الثورية المسحوقة والكادحة ووصولها الى مواقع السلطة، بحيث انه الضرورة الفاعلة الوحيدة التي تقود الى ملكوت الحرية التي ينشدها النواب.
ومظفر النواب صاحب النبرة الحادة التي تتميز بالشتيمة السياسية ‘ صافعة الأنظمة العربية بالأحذية ‘ يعرّي حالة التفاهة السياسية والتخاذل العربي والبؤس الفكري والحضاري للحكام العرب.. فيقول:
الآن أعرّيكم
في كل عواصم هذا الوطن العربي قتلتم
فرحي
تعالوا نتحداكم قدام الصحراء العربية
كي تحكم فينا
أعترف الآن أمام الصحراء
يأتي مبتذل وبذيء وحزين كهزيمتكم
يا شرفاء مهزومين!!
ويا حكاماً مهزومين!!
ويا جمهوراً مهزوماً! ما أوسخنا!
ونكابر!!! ما أوسخنا! لا استثني أحداً
هل تعترفون؟
ثم ينتقل من حالة النقد الى حالة الاستنهاض والثورة وشن الهجوم المعاكس:
ألا ينهض المعدمون الصعاليك، قد أوغل الأغنياء
لقد منعوا دفن طفل من اللاجئين لئلا
تدنس مقبرة بغريب عن الشام .
وأخيراً، مظفر النواب شاعر سياسي وطني وثوري رافض، غير متصالح مع الواقع، يعاني المرارة والألم، ويحمل الهموم العربية الكبرى، وهو بركان هادر متفجر على الوضع الشائن وغاضب على الأحوال العربية الرديئة والواقع العفن المخذول. إنه صاحب الشعر الصادق الذي تصل كلماته الى شغاف القلوب فيعود صداها رجعاً في فؤاد وعقل القارئ، فلا يشبع ولا يكتفي بقراءتها. وقصائده مترعة بالوجع والحنين والغربة والحزن المؤرق والغضب الثوري اللاهب والمتمرد على الواقع العربي الذي يتسم بالضعف والانحطاط والهرولة الاختيارية .