“مطر على بغداد” جسر بين الرواية والتاريخ

مطر على بغداد
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. عـزة مـازن

في روايتها “مطر على بغداد” (2010)، تمد الروائية هالة البدري، الحاصلة على التقديرية في الآداب هذا العام (2023)، جسراً بين الرواية والتاريخ. ففي طَرقات على ذاكرة الصحفية نورا سليمان، الشخصية المحورية في الرواية، والتي تتماهى خطوطها العريضة مع شخصية الكاتبة، تقدم هالة البدري سجلاً لتاريخ العراق حتى بداية الثمانينيات من القرن العشرين. على مدى أربعمائة وثلاثين صفحة من القطع الكبير تعبر الروائية الجسر ذهاباً وإياباً بين خطوط درامية متشابكة ومتقاطعة وبين تاريخ لبلاد الرافدين استخلصته من أبحاث وقراءات خاصة وخبرات صحفية وحياتية على شاطئ دجلة، امتدت منذ منتصف السبعينيات وحتى أوائل الثمانينيات، حيث عملت مراسلة صحفية لمجلة مصرية حين كانت مرافقة لزوجها هناك. وهي الظروف نفسها التي أحاطت ببطلتها نورا سليمان. ومن ثم استطاعت هالة البدري بذكاء روائية قديرة أن تقدم جانباً كبيراً من تاريخ ذلك البلد الذي عشقته، معجوناً بعرق البشر وتفاصيل حياتهم اليومية، فأفصحت عن كثير مما سكتت عنه سجلات التاريخ الرسمية.

   يُستهل الجزء الأول من الرواية “بثلاث طرقات” سرعان ما يدرك القارئ أنها الطرقات الثلاث التي تتجدد بطول السرد الروائي والتي تأذن بها الكاتبة لشخصيتها المحورية نورا بأن تغوص في أعماق الذاكرة لتحكي شذرات متناثرة من حياتها هناك، تتقاطع وتتداخل مع كثير من الشخصيات المصرية والعراقية والعربية، تتفاعل جميعها على خلفية من تاريخ العراق، بل والمنطقة العربية بأسرها في تلك الفترة. تتكرر الطرقات على مدى عشرة أيام، هي فترة مؤتمر عن ثقافة النساء بعد محو أميتهن في العراق دُعيت إليه نورا بعد عودتها النهائية إلى مصر بفترة وجيزة. وربما خوفاً من أن يضيع القارئ وسط شذرات الحكي المتناثرة في أنحاء السرد لجأت الكاتبة إلى لازمة تبدأ بها الأربعة: “ثلاث طرقات على باب الذاكرة أعادت إلى الحياة أيام كانت تتلكأ، وهي تستدير ميممة شطر الاختفاء الأبدي. شددت طرف خيط الزمن الذي اعتاد أن يدجن الجبال والبشر. انهمرت الأيام وسقطت على قلبي. حاولت أن أوقف المتون تدفقها، وأنتبه إلى ما يحدث حولي، لكني لم أستطع. في داخلي دبيب يسعى لاستعادتها، ويستشعر لذة الألم التي لم تستوعب اللحظة، وأنا أحمل حقيبتي إلى المطار في طريقي إلى بغداد، ولا أصدق أني بالفعل رتبت ترك ابني ذي الأشهر الستة عند حماتي في مغاغة التي تبعد ساعتين ونصف الساعة عن القاهرة”.

وهنا ينفتح السرد على لازمة أخرى تتكرر على مدى أيام المؤتمر العشر. فبين الحين والآخر تشعر نورا بحاجتها الملحة لإفراغ ثديها الممتلئ باللبن، في إلحاح شديد على مدى تمزق المرأة بين مشاعر أمومتها وواجباتها وبين طموحها العملي. ومن ذلك قولها: “توجهنا… إلى عرض مسرحي من فصل واحد…. خطفني هيثم من بين المتفرجين، على الرغم من أنني أفرغت ثديي قبل قليل. أحاول إبعاد صورته عن خيالي. يأتيني باحثاً عني والدموع في عينيه. نظراته محتارة تنقلب ورائي، أهش الدموع وأحاول الإندماج في المسرحية. ينتبه صدري لنغبشته في صدري ويتمدد، فأتوجع. لابد أن الوجع يأتي من الروح…”

  حفلت الرواية بحشد كبير من التفاصيل التاريخية مما قد ينوء به عمل أدبي واحد. ومن ثم اختارت الكاتبة أسلوب الراوي وسرد الذكريات، معتمدة في ذلك على منطق التداعي الحر، الذي يتيح لها حرية الحركة بين الأزمان والأماكن ولقاء أكبر عدد من الشخصيات. ولتخفف وطأة أحداث التاريخ لجأت الكاتبة إلى الفكاهة والأغاني والأهازيج الشعبية المصرية والعراقية، معتمدة في ذلك على موهبتها السردية وأسلوبها الرشيق. أضف إلى ذلك أنها استطاعت أن تحتفظ بقارئها حتى النهاية، بأن ألقت إليه خيطاً من التشويق الدرامي يتمثل في البحث عن زميلتها الصحفية العراقية أنهار خيون، والتي كانت تنتمي إلى الحزب الشيوعي العراقي واختفت وسط الصراعات السياسية.

  اكتظ العمل بالعديد من الشخصيات، التي وظفتها الكاتبة في حوارات تكشف عن أحداث وتفاصيل تاريخية، فجاءت تلك الحوارات، إلى جانب موضوعات نورا الصحفية وكتبها، من أبرز التقنيات السردية المستخدمة لتصفح أحداث التاريخ. وربما حال ذلك دون الغوص في أعماق كثير من الشخصيات وأصاب القارئ غير المتمرس بشيء من التشتت، زاد من وطأته غياب خط سردي واضح ومستقيم للرواية. ورغم تمحور السرد حول نورا الصحفية وذكرياتها، إلا أن شخصيتها جاءت مفرطة في النمطية، بالغة المثالية تعيد إلى الأذهان شخصية البطل السوبرٍ في الأدب الكلاسيكي. فهي صحفية ناجحة وأديبة وباحثة، من أسرة ميسورة، تعيش حياة زوجية هادئة مع زوج محب حنون يقدر عملها ويعينها عليه؛ وتَلقى كل العون والتشجيع من أسرتها في رعاية ولديها وتحقيق طموحها العملي؛ وهي فوق ذلك أم حنون تعرف واجباتها، وصديقة مخلصة محبوبة من أصدقائها وزملائها ومعارفها!

   وكأنما استشعرت الكاتبة ثقل الحشد التاريخي على القارئ غير المتمرس، فضمنت روايتها روافد درامية متعددة تلتقي وتتقاطع مع الخط الدرامي الأساس. فإلى جانب قصة اختفاء زميلتها العراقية أنهار خيون، تحكي نورا عن رئيسها، الكاتب الكبير حلمي أمين المنتمي إلى اليسار المصري، فتتشابك خطوط حياته الأسرية مع سجل حياته السياسية.

يرتبط حلمي أمين، الكهل الأرمل والأب لثلاثة بنات، بقصة حب مع مرؤوسته الشابة أنهار خيون. ومع أن الصحفي الكبير يملي مذكراته على نورا، استعداداً لنشرها في كتاب، إلا أن الكاتبة لا تفصح سوى عن الخطوط العريضة لمواقفه السياسية في مصر. وهي مع ذلك تفاجئ القارئ، قرب نهاية العمل وبعد رحيل حلمي أمين وإختفاء أنهار خيون، بدفتر مذكرات لكل منهما، تعثر عليه في صندوق البريد الخاص بالمكتب. في مذكراته المكتوبة لا يحكي حلمي أمين عن دهاليز حياته السياسية، بل يغرق في سرد رحلته مع الجسد وبداية تعرفه صبياً على جسد المرأة، وتفاصيل علاقته الحميمة مع حبيبته التي التقاها بعد خروجه من سجن الواحات. وفي موضع آخر من تلك المذكرات يسرد حلمي أمين أدق تفاصيل علاقته الحميمة بمرؤسته أنهار خيون.

أما الدفتر الآخر الخاص بأنهار خيون، فيحكي في جزء منه مأساة فتاة من إحدى قرى العراق وما عانته من قسوة التقاليد، أما سائر المذكرات فتتناول التفاصيل الدقيقة لعلاقتها الحميمة بحلمي أمين. في ذلك الجزء الخاص بما يمكن أن نسميه “ذكريات الجسد” استخدمت الكاتبة صوراً وعبارات صريحة لا يتوقعها قارئ احتشد لقراءة عمل جاد يجمع بين الرواية والتاريخ، وربما يرى البعض أنه كان بإمكانها أن توظف موهبتها اللغوية في عبارات جزلة موحية تلمح ولا تصرح.  وقد يتساءل القارئ المتمرس عما إذا كانت الذكريات المرتبطة بالجسد قد ألقت بصيصاً من الضوء على خط السرد الرئيس في الرواية أو أضافت إليه؟!

  “مطر على بغداد” رواية تكشف عن حقبة تاريخية مهمة وتفاصيل سياسية واجتماعية لبلد عربي شقيق. توظف الكاتبة موهبتها الروائية وقدراتها الصحفية والبحثية لتخرج عملاً قد يختلف القارئ مع بعض جوانبه، ولكنه يبقى في النهاية عملاً إبداعياً مثيراً للجدل وتجربة روائية جديرة بالقراءة.

مقالات من نفس القسم