وحيد الطويلة
بحشرجة خفيفة تستمر خمس دقائق وأحياناً عشرة ـ كأنه أفاق من النوم لتوه ـ يبدأ مصطفى اسماعيل ليلته.
تلك الحشرجة التي أبعدت عنه الكثيرين من مشجعي الدرجة الثالثة، الذين جروا وراء الصوت الحلو للشيخ عبد الباسط عبد الصمد، إذ يرتفع من أول آية حتى النهاية، يجري ساخناً من أول دفقة حتى آخر نقطة، حتى وصل أفغانستان، في وصلة على نغمة واحدة، سهلة تشد السامع خاصة حين لا يكون عربياً، لكنها في عرف العارفين قراءة على وتيرة واحدة تقريباً.
حشرجة أبعدت عنه أيضاً الجماهير التي تجري وراء صوت الطبلاوي وعديد المقرئين، بقراءة تنتهي دوماً عند آخر كل آية ب” اييييييييييييييييين”.
سرعان ما تختفي، كأنه مسحها أو أدخل شريطا جديداً “لتسليك” الزور.
ويبدأ التصاعد شيئاً فشيئاً في مقامات موسيقية متعمدة وغير متعمدة، يبدأ من نقطة أولى عند سطح الكرة الأرضية، من حافة الماء، يرتفع إلى النقطة العليا في نصف دائرة القوس، عند أبعد نجمة، بعد ذلك يعود، يهبط هبوطاً حنوناً في قلب الماء.
حتى وإن كنت لا تعرف المقامات لكنك لن تجد أبداً جملة نشازاً أو في غير موضعها، تهبط عليك رقراقة منسابة كمن يهبط من ذرى بهدوء وتناسق تحسه وتلحظه، ثم يصعد.. يصعد، حتى لحظة النيرفانا يصعد، حتى يظن أنه أمسك بمنتهى تلك الليلة – بشواشيها-، والناس من حوله يكادون يقطعون هدومهم.
حينئذ ينظر لصلاح منصور بطل الزوجة الثانية النظرة المعتادة، والممثل العظيم لا يرفع يده إلا عندما يوقن أن الحكاية قد استوت، وأنه طائر فوق الغمام، حينها يومئ بأن الملائكة هبطت وأن الشيخ قد بلغ ذروة التحليق، فينصرف لغيرها.
كثيرون طاروا وراء مصطفى إسماعيل في كل مكان حط به صوته .
قال جدي ونحن في الطريق أنا وأبي لمسجد بيلا :
الليلة ليلة المعلم.
وابتدأت الليله .
مشايخ كفر الشيخ وبيلا بربطة المعلم في الصفوف الأولى، يتوسطهم قارئ المسجد في المنتصف، عندما وصل الشيخ إلى الحاقة، وأخذ يروح ويجيء ويطلع وينزل، وقف أحد المشجعين بأعلى صوته وزعق:
يا مهندس.. يا مهندس.
مرت، والليلة على منوالها، حتى دخل الضحى، فوجئنا بالقارئ إياه يخلع عمامته المزيتة التي أكلت عليها الأيام والآيات، وبقوة يقذفها في وجه الشيخ مصطفى وسط ذهول الناس ويصرخ:
ـ هبلتنا، الله يهبلك
في لقطة نادرة، انفجر مصطفى إسماعيل ضحكاً، ورفض أن يكمل القراءة.
خرج من الحالة ودخل في مسالك أخرى.
في طريق العودة، قال جدي بعد صمت طويل، كأنه كان في غلالة:
ـ ربنا نزّل القرآن علشان الشيخ مصطفى يقراه.
مثل الكتاب العظام، لا يكتب جملة كتبها من قبل، ولا يقارب طريقة استخدمها سابقاً، كل ليلة بجديد.
لهذا فإن مصطفى اسماعيل عند الكثيرين بقامة كبار الفنانين وأسبق، كل ليلة بقراءتها، لا يسمع نفسه، ولا يستمع لقراءة سابقة قرأها، نهر ابنه بشدة حين وضع شريطاً مسجلاً في حفلة سابقة، حتى لا تسحبه القراءة لتقليدها، أو تجور على نزعته الدائمة للتجديد.
تسمع كأنك ترى، صاحب القراءة التعبيرية، تنطبق عليه العبارة أولها وآخرها. .
قال محمد عبد الوهاب بعد أن سمع ربعاً من سورة التحريم : الحمد لله أن الشيخ “مثتفى” ماطلعش مطرب.
مطرب، لا يقرأ من دون جمهور، جمهوره.. جمهور الدرجة الأولى- متجاوزاً الثانية والثالثة، لا يقرأ في الأستوديو، ما من قراءة مقعولة فيه، أفلتت منه سورتا الإسراء والنحل فقط …لكنها ليست قراءته وسط ناسه.
الزعيم يحتاج جماهير والمطرب والفنان الفذ يحتاج جمهوره، وهم حوله أينما ذهب.
حوالي مائتين أو ثلاثمائة خلفه في كل مكان، أينما حط حطوا، حواريوه .. واحد يقول: جننت العالم والله، وآخر يبدو أنه على خلاف مع أخوته على الميراث يردد:
ـ والله أول ما آخد الدار لأبيعها وأجيبك.
على رأسهم الشيخ أحمد أبو خليل، الوحيد الذي ستعرف اسمه من شرائط الشيخ مصطفى، يجلس تحت رجل الشيخ تماما، تسمعه فجأة وهو يكاد يعتصر: ياسلام على الرجّز.
الرجل العاشق يعرف المقامات، ينادي عليه السامعون من حين لآخر:
يا شيخ أحمد.. يا شيخ أحمد يابوخليل .
يسألونه – بغير إلحاف- أن يعيد الشيخ مصطفى إحدى الآيات، لا أحد يجرؤ أن يُخرج الشيخ من مقامه، أو ينادي عليه مباشرة، وهو يرد بكل ثقة :حاضر.. حاضر
ثم يستدير ناحيته، بصوت متعطف غير ملحاح : والنبي .. والنبي، من نفس المقام واتصرف زي ما انت عايز. ..
وحين يرد له الشيخ تحيته بأحسن منها، لا يلتفت لآهات الإعجاب، ينتظر حتى تهدأ الهوجة ثم يقول بصوت يكاد يعصر نفسه، ويخرج من قاع رجله:
آه ………..آه يابن الكلب