مصطفى سعيد ينقش جدران الحب

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

الهام ملهبي *

يطل مصطفى سعيد على القارئ عبر شقوق شعره المجبول من طينة الحب . يطل باسم جديد/شكل جديد للحب. الحب حين يصبح بوابة نحو العالم، و يصبح طريقا يفضي إلى الكون بكامله، طريق في حاجة إلى تعبيد ، إلى براعة مهندس/شاعر يرسم معالمه و يصمم جنباته و تفاصيله .

- قلبي المشرعةُ أردافُهُ من كلِّ الجهات..

- مسيجٌ بحضنكِ..

- مسيّجةٌ بأطرافي..

- حولنا أسلاكَ شائكة..

- مجدٌ خرسانيٌّ مُسيج ..

كل ما قد يبدو لنا هنا من سياجات و حدود و أسلاك و جهات ، هي ليست من أجل وضع الحدود للحب و تسييجه،  بل من أجل ان يكون شاسعا بلا حدود . من أجل ان يكون  بحجم هذا الكون :

– نُهندسُ أجسادَنا ..

نُعيدُ هيكلةَ الروحِ..

نهندسُ خارطةَ الكونِ

و يصبح للحب معناه الكوني الشامل ، و عبقه الفلسفي :

– كلُّنا سيهذي..

كُنا في هذا الكونِ.

سنهذي بالأمسِ..

بالملكوتِ.. بالإربِ..

سنهذي..

حين نخلعُ أثوابَنا اللحميّة

عن أرواحِنا..

– أحبكِ لأرتقي لحدودِ اللاوجودِ

و ليس اختيار عنوان هندسة الحب مجرد اعتباط ، ليس فقط لأنه عنوان إحدى القصائد بل  نجد  كل مساحة داخل الديوان تزخر بقاموس هندسي ( ان صح التعبير) ،  جهات و اطارات و مسافات  وطرقات دائرية أو معبدة و أشكال هندسية: 

– احفري فيَّ

لأساساتِكِ

لبنائكِ الأزليّ..

 

– فحدودُكِ برزخان

وعرضُكِ مقدارُ الكونِ

وضعفان..

 

– المنحدرُ المُعتقُ تحتَ رقبتِكِ

منحدرٌ يتفرعُ من طريقٍ دائري..

طريقٌ بنافذين..

صُكَّ عليهما..

سُلالةُ المعذبين..

سُلالةُ الأولين..

 

– وأطلقُ أناملي..

لتعبرَ حافةَ الكوكبِ المقوسِ كالهلالِ

الفضاءُ رحبٌ مثلَ صدري..

النجومُ ثابتةٌ

مصابيحُ بأيدِي الملائكةِ..

 

 

  واليومَ أصبحَ العالمُ كلُّهُ زاوية..

 

الحب في ديوان هندسة الحب له طعم آخر و قيمة أخرى و وزن آخر . يأخذنا مصطفى سعيد لنكتشف معه الحب حين يصبح يقينا ، حقيقة مطلقة لا تختلف عن حقيقة وجود الكون ، أو وجود الله . حقيقة لا شك فيها و لاتحتاج الى جدال .

في قصيدة عجينة الله يخاطب الشاعر الحبيبة قائلا :

– لما أيقنتُكِ متأخراً

ضيّقة كانتِ السنينُ

حالكةً بلا طين..

انه وصول الى اليقين. الحب يقين كان غائبا و تجلى واضحا نقيا ساطعا. يقين مكمل لليقين بوجود الله ، كانت العبادة ناقصة و كملها الحب :

– عِندَ جنباتكِ يكتملُ الصراطُ

بينَ عتباتكِ أُكمل دينيَ المبعثر

يا عجينةَ اللهِ..

لكن القصيدة تقودنا إلى منحى آخر ، هذا اليقين بدل أن يشد الحبيب نحو حبيبته قاده نحو الله ، تحولت مناجاة الحبيبة الى مناجاة الله ، و تنتهي القصيدة بهذه العبارات و كأنها كانت قصيدة دينية :

إلهي..

أنتَ جاهي..

أركعُ لكَ في القعرِ..

أومَـن ألهـمَني سـواكَ

سماؤكَ لاتتسعُ للتائهين..

مذاقُ الجنةِ ثمين..

إلهي..

ثم في قصيدة ” المؤدلجون نحوك” يخاطب الحبيبة بنفس نبرة العبادة و نبرة الخشوع أمام المعبود ، بل و التسليم  للمعبود بأنه سبب الوجود:

جسدي

أنبتَهُ الحنينُ لكِ

وروحي سجدَتْ في المشيمةِ

قبلَ أن تراكِ

و في قصيدة ” بين برزخين” مازالت الحبيبة تحمل نفس الصفات، صفات المطلق ، و الحقيقة،  و الوجود :

وروحُكِ

غذاءُ البشرِ

المنسكبِ بآنية الله..

 الحب اذن حقيقة مطلقة  ، بحلوه ومره ، بألمه و أمله ، هو سبب من أسباب الوجود ، يقودنا نحو الكون ، يقودنا نحو أنفسنا ، و يقودنا نحو الله .

و الديوان بكامله لا يحمل شعرا في الغزل ، برغم بعض المفردات التي تصف جسد المرأة و التي  قد يعتبرها البعض مفردات غزلية لكنها ليست كذلك (  شفاهك – نهديك- أردافك…) . و لكن الحب هنا يظهر في مطلقيته و صفاءه و فلسفيته .  و بين كل سطر و سطر نستشعر ألم الحب أكثر من فرحه ،  مما يجعل القصائد كلها اغان كتبت ببراعة ، لا تحكي حكايات حب ، بل توقظ داخلنا حزنا جميلا و دافئا يدفعنا للبحث عن قيمة الحب و عن صفاءه.

مصطفى سعيد اذن لا يهندس الحب ليبنيه ، بل إن الحب هنا صرح ثابث لا يتزعزع كل ما يفعله الشاعر  هو التعبد في هذا الصرح  و نقش جدرانه و تزيينها بأبدع الكلمات و أسمى المعاني ، و تلك قمة الخلق و الابداع.

ـــــــــــــــــــ

* شاعرة مغربية

[email protected]

 

مقالات من نفس القسم