حاوره – أمير زكي
لم يمنع الدور الرابع الذي يسكن فيه الكاتب مصطفى ذكري من تسلل صخب حي حلوان، ذلك الحي الذي يسكن فيه، نستمع إلى صوت طلقات رصاص فيتساءل إن كان فرحا أم معركة، عندما نستمع بعدها إلى الأغاني الشعبية نتأكد أنه فرح.
كان ذكري أطول نسبيا مما كنت أتوقع، يرتدي ملابس منزلية، ولكن الألفة حدثت بسبب نظارته السميكة وصلعته المشهورتين في صوره، كانت إضاءة المكان ضعيفة جدا تصدرها أباجورتين، جهاز كمبيوتر تشغل سماعاته أوبرا ما، على الحائط لوحة فرعونية، وعلى مقعد بجانبي سجادة صلاة، قبل أن أسأله عنها يقول: “أنا لا أفعل شيئا هنا، فهذا بيت أهلي”.
سألته عن الأوبرا وهل اكتفى بالموسيقى الكلاسيكية، قال: “كنت أستمع إلى أشياء عديدة، ولكنها تراجعت، حتى الجاز والبلوز”.
أغلق الأوبرا عندما بدأنا الحوار. مصطفى ذكري الكاتب الذي ينتمي إلى جيل التسعينيات والمعروف بانعزاله أصدر من أسابيع قليلة كتابه الثامن، وهو الجزء الثاني من يومياته وحمل عنوان “حطب معدة رأسي”. تلك الجملة التي ذكرت في إحدى يوميات الكتاب.
ربما بسبب عزلته تجد أحيانا على وجهه ابتسامة في غير مجالها، أو تعبير يد عصبي مواز للحديث، ولكنك تشعر بارتياحه التام عندما يتحدث عن شيء يحبه، كعودته المتكررة للحديث عن جيمس جويس وروايته المفضلة لديه “يوليسيس” أو عن دوستويفسكي أحد أدبائه المفضلين.
يتحدث ذكري عن عنوان كتابه الأخير: “العنوان كان تشبيها لطاقة القطار الذي يعمل بالبخار، هذه الطاقة التي تؤكل وتُحرق في نفس الوقت، وهي مثل مادة كتابتي، فالمادة التي أستخدمها لا أكتفي بالتفكير فيها بل آكلها أيضا”.
ولكن مع ذلك فالعنوان يظل معقدا وغير مريح بالنسبة للقاريء على الأقل بالنسبة للعنوان الأبسط الذي حملته اليوميات الأولى “على أطراف الأصابع”. يقول: “لديّ مزاج أحيانا يجعلني أختار عنوانا غريبا مثل كتاب (هراء متاهة قوطية)، ولكني في العموم ليس لديّ هاجس العنوان، وغالبا ما أضع أول عنوان أفكر فيه، وفي رأيي أن قوة الكتاب تبلع العنوان”.
العناوين أيضا كانت سمة هذا الكتاب بالمقارنة بالسابق الذي اكتفى فيه ذكري بترقيم اليوميات. “أنا أحب الأرقام ولكني هذه المرة لم أستطع الاستغناء عن العناوين على اليوميات”.
تنوعت كتب ذكري السابقة بين الرواية والقصة القصيرة، بالإضافة إلى إسهامه بكتابة فيلمين سينمائيين: “عفاريت الأسفلت” و”جنة الشياطين” اللذين أخرجهما أسامة فوزي، ولكن يبدو أن سنوات مرت وهو أكثر تكيفا مع صيغة كتابة اليوميات.
يقول ذكري: “لقد أخذت جرعة عالية من هذه الكتابة، ربما أعود لشكل آخر فيما بعد، ولكني في العموم ليس لديّ طمع كبير في الدرامي، وأحب أن يكون تائها في وسط الفلسفي ولا يكون قائما بذاته”.
يوميات ذكري قد تتنوع مجالاتها بين الحديث عن الفلسفة والأدب والسينما واللقطات اليومية البسيطة التي قد لا نلتفت إليها، يكتفي ذكري بتحليل مشهد من فيلم سينمائي يعجب به، أو التعليق على نظرية فلسفية، أو إعادة صياغة مشاهد سينمائية في يومياته وكذلك قصص أدبية كما فعل مع قصة كافكا “استعدادات حفل زفاف في قرية” أو حتى إعادة صياغة مقال كتبه الكاتب يوسف رخا عنه. ولكن بالمقارنة مع يوميات كتاب كبار يذكرهم ذكري بنفسه في كتابه مثل كافكا وبيسوا، يبدو ذكري أكثر ميلا للقصدية وربما للتعقيد في كتابته.
يقول ذكري: “لم أستطع التخلص من هذا، ما زلت أكتب يوميات مع سبق الإصرار والترصد، لم أستطع أن أكتب شيئا وفي ذهني أنه ليس للنشر، أكثر ما يميز فكرة اليوميات هي العفوية وأنا أفتقد العفوية تماما”.
يوميات ذكري كانت تنشر في جريدة روز اليوسف وملحق “شرفات” بجريدة عُمان. “ولكنها تحولت من تمرين للكتابة إلى أن تكون هي الكتابة الحقيقية”.
عندما سألته عن أداء كتابة اليومية أجاب: “غالبا ما تبدأ بشيء انطباعي جدا كمشهد في فيلم، ثم أنطلق من هذا المشهد إلى مقولة أو إلى حكم قيمة”.
يشير ذكري أنه قد يظل يعيد كتابة سطرين في اليومية أكثر من مرة قبل أن يكمل بقية الفقرة بدون إعادة، ذكري يكتب حاليا على الكمبيوتر، بعد معاناة طويلة مع الورقة والقلم: “كانت لديّ قيود كبيرة بالنسبة للورقة والقلم، واختيار قلم بعينه وورق بعينه، ولكن كان آخر كتاب أكتبه بالقلم هو (مرآة 202)”.
مرآة 202 صدر عام 2003 عن دار ميريت، أشار ذكري أن الكمبيوتر لم ينتقص من القدرة على الكتابة بل على العكس ساعده اكثر، أراني بعض مسوداته، فهو كان يكتب الجمل بعناية فائقة وبخط منمق: “لم أكن أشطب على جملة، إن أردت التعديل كنت أعيد كتابة الصفحة من البداية، تعودت على الكمبيوتر بسرعة وخلال سنة تقريبا لم يعد هناك فارق”.
لا يقرأ ذكري الكتابة الحالية في مصر، وبالتالي لا يكوّن رأياً في كتابة الكتاب الشباب. سألته كيف يمكن أن يستقبل كاتب قد يعتبره أستاذه بشكل ما: “أفرح بوجود مثل هؤلاء وبعدها لا أكمل معهم”. يتحدث ذكري على جحوده تجاه هؤلاء فهو يأخذ منهم ما يرضي نرجسيته ثم لا يبادلهم الاهتمام، هذا يتحول بالتدريج إلى عداء من الطرف الآخر.
يضيف ذكري: “أفضل أن ينتمي الكاتب إلى ذائقة أدبية أو سلالة أدبية لا أن يتتلمذ على يد كاتب بعينه”.
كنت مترددا مع ذلك في أن أسأله سؤال في غاية التقليدية كنصائحه للكتاب المبتدئين ولكنه مع ذلك أجاب: “الكتاب الشباب عليهم أن يصدقوا ذائقتهم الأدبية، عليهم أن يكونوا أشرار بقدر الإمكان، أن يكون جاحدين لأعراف مهنة الكتابة، ألا يخشى الواحد منهم أن يقف في مكان وحده، فبلا شك سيجد الواحد منهم من سيتعامل معه”.
سألته هل الأفضل يقرأ الكاتب الشاب أم يكتب، فأجاب: “دوستويفسكي بكل عظمته كانت قراءاته محدودة، ربما ما قرأه جديا أقل مما كتبه، ولكن أنا أفضل أن يقرأ الكاتب أكثر مما يكتب، إلا لو كان مثل دوستويفسكي”.
وأضاف: “عليهم أن يهتموا بالأسلوب أولا وثانيا وثالثا، فشرف الكتابة كله في الأسلوب”.
في يوم 25 يناير 2011 بدأت مظاهرة كبيرة في ميدان التحرير، تم تفريقها بواسطة الشرطة، حدثت ردود فعل متباينة من معلقين عديدين، ولكن كان من الغريب أن يظهر الكاتب المنعزل الذي لا يحمل موقفا سياسيا مصطفى ذكري ويكتب على حسابه على الفيسبوك: “تسقط الكتابة وتحيا الثورة”، كان هذا مدهشا جدا في سياق اللحظة وربما ساعد آخرين على المشاركة في الثورة. يعلق ذكري: “يومها كانت هذه أقصى عاطفة أستطيع تقديمها، لقد صدقت ما حدث، ورأيت أن هذا هو يمكنني تقديمه”. ولكنه يضيف: “لقد كرهت الثورة بعدها بشهرين، عندما شعرت أن هناك فيها اتجاه إسلامي”
لقاؤنا تلا بدقائق خطاب لرئيس الجمهورية محمد مرسي، هذا الخطاب الذي لم يكن مرضيا لمصطفى ذكري: “إذا كان الاختيار بين الفاشية العسكرية والفاشية الدينية، فأنا كنت أفضل الفاشية العسكرية.. الفاشية العسكرية كانت ستترك لك حريتك الشخصية طالما ابتعدت عن السياسة، أما في الفاشية الدينية فلن تحصل فيها على هذا أو ذاك”.
لا يبدو ذكري متفائلا بالوضع السياسي في مصر، وخاصة لتأثيره السلبي على الأدب، يقول: “سيكون هناك تشكيك في النوع الأدبي كله، وسيتم تحوله أيضا للاتجاه الإسلامي”.
أما عن رؤيته عن المستقبل فيقول: “الثورة راحت، على أقل تقدير سنكون مثل باكستان”.
مصطفى ذكري من الأدباء المنعزلين القلائل في مصر، فلا تشاهده في وسط البلد، أو ضمن دائرة أدبية، أو منتم لأي من المؤسسات الثقافية، “أنا لا أحب من يمارس حياة فنية تشبه الكتابة، لقد مارست الأعراف المهنية على فترات متقطعة ولم أحبها وتجعلني أكره المهنة”. ولكن هذه الارتباطات المهنية ليست بالنسبة للكثيرين مجرد أسلوب حياة بل هي فرصة للارتباط بعلاقات قد تتيح وجود دخل مادي، وعندما يأتي الحديث عن كاتب منعزل يأتي السؤال كيف يعيش؟ “أنا أنتمي لطبقة متوسطة مستريحة قليلا، هذا إلى جانب أن مصاريفي قليلة جدا وتكون دائما داخل حدود بعينها، لا أدفع إيجار للشقة، ولست متزوجا لأنني أكره شكل المؤسسات”.
رغم ذهنية مصطفى ذكري وحسابه لعواطفه إلا ان حياته لا تخلو من قصص حب ومن وجود المرأة، “أكثر فترة أثرت علاقة فيّ كانت تلك العلاقة التي ظهرت في كتاب (الرسائل)، هذه أكثر مرة كان هناك أمر شخصي ضاغط على الكتابة إلى هذا الحد”. ذكري ليس متعدد العلاقات، وفقا لكلامه فالعلاقات تسير دوما في الاتجاه العادي، ويذكر أنه كثيرا ما استطاع العيش بدون علاقة.
لا يصف ذكري روتينا محددا لحياته اليومية، “أحيانا أحتاج إلى الخروج من المنزل فقط من أجل الضوء الطبيعي الذي أفتقده هنا”. عندما سألته عن الموعد المفضل لكتابته قال: “بعد الاستيقاظ.. سواء كان صباحا أو مساء”. يضيف أنه أحيانا ما يضيع أوقات طويلة في التحضير لطقس الكتابة سواء في تحضير القهوة أو الإفطار هذا الذي يأخذ ساعات طويلة.
ذكري الغائب عن السينما لسنوات طويلة يكتب حاليا سيناريو فيلم سيكون من إخراج أسامة فوزي مخرج فيلميه السابقين، التزامه بالعقد سيجعله ينهيه في سبتمبر. “كتابة السيناريو أصعب من الأدب، هناك قواعد لا أستطيع اختراقها، فهناك التزام درامي بالشخصيات وبناء الفيلم”.
ثمانية كتب وفيلمان هم رصيد مصطفى ذكري الفني حتى الآن، عندما سألته عن تقييمه لتجربته، قال: “راض عن تجربتي، فعلت ما أريده، لا يوجد قيد تم فرضه عليّ، ولم أتعرض لابتزازات المهنة والرغبة في وجود قراء أكبر وشهرة أكبر”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقلاً عن مدونة Boring Books