سامح محجوب
فى مِزاجٍ مصري خالص خرج مصطفى إسماعيل كأحد طلائع الموجة الثانية من رواد التنوير؛ الموجة التي أصَّلت ما أسّسه الكبار الذين حرثوا الأرض المصرية فى أواخر النصف الثاني من القرن التاسع عشر لتؤتي أكُلها فى مطالع القرن العشرين، المطالع المباركة التى تنحصر بين أعوام 1890 وعام 1910 الأعوام العشرون التى ولد فيها كل من شكّلوا الوعي المصري والعربي طيلة القرن المنصرم (القرن العشرين)، الأعوام العشرون التى ولد فيهم طه حسين والعقاد والرافعي وأم كلثوم وعبدالوهاب وسيد درويش ومصطفى مشرفه ولطفى السيد وأحمد أمين وحسين هيكل ونجيب ويوسف وهبي ومصطفى وعلي عبدالرازق ومحمد رفعت وعلي محمود والعبقري الفذ ابن السابع عشر من يونيو لعام 1905 مصطفى محمد المرسي إسماعيل الشهير بمصطفى إسماعيل ابن العام الذي رحل فيه رأس النهضة المصرية الإمام المجدد محمد عبده صاحب رسالة التوحيد.
ولد إسماعيل فى قرية (ميت غزال) إحدى أعمال مديرية الغربية آنذالك -مديرية الغربية وسط الدلتا – الجغرافيا الأكثر خصوبة وإنتاجًا للمفكرين والمبدعين الذين نعيش على أطلال أعمالهم وأفكارهم وفنهم حتى هذه اللحظة، فى هذه الفترة الحركيّة فكرا وثقافة وفنا وسياسة كان ينادي الجميع – رغم تباين مشاربهم ومنابتهم وأيدلوجياتهم ودينهم – بمصرية مصر وبقدرة أبنائها على تحديد بوصلتها وتشكيل وعيها ومن ثمَّ جدارتهم على إدارة مواردها التى ظلت لعقود طويلة نهبا للوافدين والمستعمرين من الإمبرياليات المتعاقبة على قيادة العالم.
لذا تشبثت هذه الموجة من المفكرين والمبدعين والسياسيين بمقولة مصرية مصر، المقولة التى تجلّت عمليا وروحيا فى التفاف المصريين بكافة توجهاتهم حول ثورة 19 التى كانت ومازالت تاريخا مفصليا فى حياة الأمة المصرية التى بدأ يستشري فى دمها أقنوم الهوية، الأمة المصرية التي أجبرها المستعمرون والطامعون على التواري خلف هويات كثيرة لم تستطع أن تمحو -رغم المسافات الزمنية المؤبدة -المزاج المصري.
فى هذا المناخ المصري الهوى والهوية وتحت سلطة هذا المزاج الآسر كانت كل الجبهات تعمل -تقريبا – فى وقت واحد، فسيد درويش يخلِّص الموسيقى من التتريك (أمان يا لالي أمان) ويجبرها على النزول من بلكونات الباشاوات الأتراك والمصريين إلى شوارع القاهرة حيث البسطاء من العمال والفلاحين والثوار، كذلك كان يفعل عبدالوهاب وأم كلثوم وزكريا أحمد والقصبجي والسنباطي فى الغناء، ومحمود مختار فى نحته لوجوه المصريين، فى الوقت نفسه كان محمد حسين هيكل يكتب أول رواية مصرية، ومحمد بيومي يخرج أول فيلم مصري، وطه حسين يلقي بأحجاره الثقيلة فى بحيرة ما ساد واستقر من الفقه والأدب والتاريخ والأفكار، ومحمد أبوزُهرة وأمين الخولي وعبدالحميد بخيت وعبدالله دراز وعبدالمتعال الصعيدي يقفون بالمرصاد للجامدين والمقلدين من مشايخ الأزهر الشريف، بينما كان السنهوري العظيم يدستر لمصر وللوطن العربي النصوص والقوانين المنظمة لدول آخذة فى النهوض والحداثة.
كل شىء إذن كان مهيئا لسطوع نجم جديد ومختلف فى دولة التلاوة التى كان يتربع على عرشها آنذاك المشايخ الذين زاوجوا بين قراءة القرآن والغناء والعزف على الآلات الموسيقية المختلفة من أمثال: علي محمود، طه الفشني، درويش الحريري، محمد الفيومي، كامل يوسف البهتيمي، عبدالسميع بيومي وغيرهم من الكبار الذي حرثوا الأرض وعبَّدوا المقامات أمام الفتى الريفي النابه مصطفى إسماعيل، القارئ الاستثنائي الذي استطاع بموهبته الفطرية أن يرتفع بالذائقة الجمعية لمستمعي القرآن إلى آفاق لم تعرفها ولم تألفها من قبل، وهو الشيخ الذي تجمع كل المصادر – بما فيها ابنه المهندس عاطف مصطفى إسماعيل – أنه لم يتلق أى تعليم نظامي يخص الموسيقي، ورغم ذلك كان عارفًا بالمقامات الموسيقية بشكل أذهل كل من سمعه من الموسيقيين الكبار، حتى أن محمد عبدالوهاب وهو من هو فى عالم الموسيقى كان يقتفي أثره لينهل من قدرته الخاصة جدا فى تطويع المقامات الموسيقية فى مسارات جديدة بصوته المعجز على الإدراك والفهم.
كان عبدالوهاب مستمعا شغوفا بقدرة إسماعيل الإستثنائية فى الخروج من مقام إلى مقام ببراعة وإتقان من يعرف ويفكر ويطور معارفه حتى أنه كان يتمثل طريقته الفريدة فى الأداء فى بعض أغانيه، وحدث أن السنباطي سأل عبدالوهاب بعدما سمعه يغني قصيدة (أخي جاوز الظالمون المدى) كيف تغني لفظة (أخي)بهذه الطريقة الغريبة فى الأداء الغنائي، فقال له عبدالوهاب : “لطشتها” من مصطفى إسماعيل… مصطفى إسماعيل الذي أُطلق عليه (قارئ جواب الجواب) والجواب فى الموسيقى معناه أن يصل المؤدي إلى أعلى تردد فى الطبقات والنغمات الصوتية التي يكون ترددها أو مجالها الموسيقي فى أعلى نهايات سمع الأذن البشرية وجواب الجواب هو أدنى من الجواب وأعلى من القرار بقليل وذلك يتطلب مقدرة خاصة جداً على التحكم فى طبقات الصوت وهذا ماكان يفعله الشيخ ببراعة وإعجاز مازال محل دراسة لمحللي الأداء.
مصطفى إسماعيل الذي – لابد وهو يقرأ – لابد أن تتمثل القرآن أحكامًا وحوادث وشخوصا، لابد أن ترى كم كان سيدنا يوسف مخلوقا إلهيا جميلا وكريما، وأن تشم رغبة زوجة العزيز وتسمع حيرتها ولوعتها وهي المدلهة فى حب من اتخذته ابنًا ثم حبيبا، لابد أن ترى غيرة أخوة يوسف وحزن وحسرة أبيه يعقوب وانبهار ودهشة النسوة اللائي رحُنَّ يقطعن أيديهن فى حضرة وجلال الجمال الرباني، أنت إذن فى حضرة مصطفى إسماعيل الذي لا تنتهي عجائبه، مصطفى إسماعيل الذي كانت تقتفي أثره قبائل من المريدين والمحبين، مصطفى إسماعيل الذي كانت تشعله كلمة الله من مستمع فقير يبكي خشية واعتبارًا من جلال وجمال آيات الذكر الحكيم، مصطفى إسماعيل الذي قيل عنه أنه يتحول فى الساعة الثانية من القراءة – خاصة وسط الجموع الغفيرة من الناس – إلى كائن خرافي يجوب سماوات وأراضين لم تطأها قدم ولم تعرفها قواعد وكتب حتى أنه كان يضيق ذرعًا بالقراءة داخل ستديو الإذاعة ويراه سجنًا لصوته حتي أنه كان يجهر بذلك للمقربين منه قائلا: “طول ما أنا أمام هذه الحَدِيدة (ميكروفون الإذاعة) لن أجيد القراءة، أنا مصطفى إسماعيل فقط بين الناس”.
ذاع صيت إسماعيل فى سن مبكرة جدًا، حتى أنه أنفق أول أجر حصل عليه فى (ركوب المراجيح) خوفًا من أبيه وأسرته الثرية التي كانت ترى أن التكسب من القرآن عيبا، وهذا ما جعله طيلة حياته مستغنيا قنوعًا لا يحدد أجرًا لقراءته ولا يبحث عن حظوة صاحب سلطة أو جاه حتى أنه كان آخر من انضم إلى نقابة القراء فى جيله وآخر من قرأ فى الإذاعة وبدون أن يَمْثُل أمام لجنة اختبار وذلك عندما قاده حظه إلى مسجد الإمام الحسين فى إحدى المناسبات الدينية الكبيرة وكان مقررا أن يقرأ فيها القارئ عبدالفتاح الشعشاعي الذي تغيّب وقرأ مكانه مصطفى إسماعيل وكانت الإذاعة المصرية تنقل الحفل على الهواء مباشرة، فكان أن وصل صوت إسماعيل إلى كل بقاع العالم العربي والإسلامي حيث كانت الإذاعة المصرية آنذاك صاحبة الصوت الأعلى جماهيرية وتأثيرا.
ويصحو إسماعيل على استدعاء عاجل له من حكمدار الغربية الذي أخذه بنفسه لجلالة الملك فاروق الذي سمعه فى الإذاعة ليصبح قارئ القصر الأول ويحصل على البكوية حيث كان يثني عليه الملك فاروق بعد كل قراءة قائلا : أحسنت مصطفى بيه، وهذا معناه أنه أصبح من البكوات وهذه درجة اجتماعية كان يمنحها الملك فقط وكان يترتب عليها مجموعة من الإجراءات الإجتماعية قربًا وبعدًا من الأسرة الحاكمة.
ومن يومها لم يخرج إسماعيل من قصر الحاكم الملكي أو الجمهوري، حيث اتخذه فيما بعد قارئا الرئيس محمد نجيب والرئيس جمال عبدالناصر الذي منحه وسام الجمهورية والرئيس السادات الذي كان يحبه ويقلده فى طريقة القراءة حتى أنه كان يذهب معه فى معظم زياراته الخارجية وكان أن ذهب معه فى زيارته الشهيرة للقدس عام 1977 وقرأ الشيخ القرآن وتجلى فى المسجد الأقصى.
هكذا كان ومازال صوت مصطفى إسماعيل سفيرًا فوق العادة ذهب به الشيخ إلى أقصى بقاع الأرض ومازال الصوت يصل بدون جسد صاحبه – الذي فارقنا فى الثاني والعشرين من ديسمبر لعام 1978 – إلى كل الدنيا معلنا عن مقدرة استثنائية وفذة لم يتجاوزها قارئ حتى هذه اللحظة فى العالم العربي والإسلامي حيث كانت الإذاعة المصرية آنذاك صاحبة الصوت الأعلى جماهيرية وتأثيرا.