مصائر

عمار علي حسن
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

قصة قصيرة: عمار علي حسن

مفتتح

ذات صبح مشرق، جاء ضحاه أكثر سخونة مما ظن رجلان، وصبيان، وطفلان، التقوا على رأس حقل قاحل. كان عليهم أن يضربوا بفؤوسهم أرضًا صلدة حتى تلين، وتصير جاهزة لزرع، لا يعرف ما هو سوى صاحب الأرض، الذي أتى على ظهر بغلة ورثها عن أبيه، كانت هي آخر مظاهر أيام العز التي ابتعلتها الجسور العالية الغارقة في التراب والمشي الوئيد. لما اقترب منهم نظر إليهم من عل، فانحنوا جميعًا إلا واحد، كان صبيًا متفوقًا في دراسته، قال دون أن تكون هناك مناسبة لكلامه:

ـ يا رب تب عليَّ من الشغل في غيطان الناس.

ضحك أكبرهم سنَا، وقال:

ـ ستبقى أجيرًا إلى أن تموت.

صمت الصبي برهة وقال:

ـ لن أرضى أن أكون مثلكم، ثم رمى فأسه، وارتدى جلبابه، ومضى.

نظروا إليه جميعًا، متقلبين بين شفقة وحسرة وشماتة وغيظ وإعجاب وغيرة. في هذه النظرة التي لم تستغرق سوى ثوان معدودات، رأى كل منهم ما سيجري له، وكأنه ولي انكشف له الغيب، فعرف مصيره.

أنا الراوي الذي لم أكن معهم وقتها، لكنهم أخبروني بما وقع في هذه اللحظة، فتتبعت ما جرى لهم، وآن الأوان أن أقوله للناس، متتبعًا حكاية كل منهم على حدة، فلم يكن يجمع بينهم شيء سوى القرية والحقل والفأس وانتظار المصير.

***

1 ـ الطفل الأول يسافر بلا موعد

سمعت صرخة في جوف الليل فجريت إلى الشارع الأوسط في قريتنا الصغيرة. كان شتاء مظلمًا، وكانت لهفة وحيرة وخوف، ووجوه الناس كانت مبهمة لي، لكن صراخهم كان يملأ أذنيَّ، وأنا أجري بينهم، غير عابئ بهمهماتهم، فأنا أعرف جيدًا من يقولون أنه قد غرق، فطيلة النهار كنا سويًا نلعب في شوارع قريتنا المتربة جائعين، وكان كل من معنا بطونهم خاوية، فالبيوت ليس فيها شيء سوى دعاء الأمهات ورجائهن.

اقتربت من الشارع الأخير، المطل على الحقول، ولا تفصله عن الزرع سوى ترعة ليست عريضة، ولا عميقة، لكنها في أيام الشتاء، كافية لإخافة أهلنا، فالليل طويل، وهم ينامون مبكرًا، وكل منهم يقول لأبنائه قبل أن يغط في نوم عميق:

ـ ابعد عن الترعة.

الليلة غرق محمود إسماعيل جويد، الذي كان على رأس الحقل، ليس ضاربُا فأسه، إنما جامع نجيل وراء الفؤوس التي تقلب الأرض، فالنجيل إن لم يُجمع، ويلقي إلى البهائم لتلتهمه، تنبت جذوره وتأكل الزرع. كان بارعًا في هذا، حتى أن أصحاب الأرض كان يطلبونه بالإسم، وأجره كان أكثر من أقرانه. فأصابعه الصغيرة تتحول إلى مخالب تنبش تحت جذور النبات العفي، وتخلصه من كل الحشائش التي تضره، وتفيد بهائمنا.

كنت أراه مخلصًا لبؤسه، وجهه ضامر، وثيابه مرقوعة، تمزقت حتى لم يعد بالإمكان رتقها، وابتسامة منقوعة في الرضا والأسى تعلوه محياه دومًا. أحببت هذا فيه، فثيابي كانت أقل رقعًا، وبطني كان أقل خواء، لكنني كنت مثله أندهش حيال كل ما يجري حولنا, حتى أنني قلت له ذات يوم:

ـ أنت تكره اللعب يا محمود.

صمت برهة، وقال لي:

ـ أحب اللعب لكن أخاف.

وسألته:

ـ من يخيفك؟

صمت برهة، وقال:

ـ الجوع والأذى.

عرفت في ليلة غرقه أنه يخاف من تحذير أبيه المستمر من أن يتشاجر مع أي من أقرانه في هذه البلدة، التي لا يوجد فيها أحد هو أفقر من أهله، وأنه إن لم يكدح كغيره من أخوته سيجوعون جميعًا.

ـ حالتنا أغلب من الغُلب.

هكذا كان يوصيه أباه، ويشير بيده إلى الحصير الرخيص، والأواني الصدئة الفارغة، والملابس المرقوعة النائمة في بطن السحارة، ويقول:

ـ من غير شغل نموت من الجوع.

ثرثر بهذا المحتشدون أمام الماء الفائض الساري، والليل الأخرس، الذي يلوثه نقيق الضفادع، وصراخ النسوة اللاتي يقفن على رؤوس الرجال، منتظرين إياهم أن ينتشلوا جثة محمود.

واقفًا بينهم كنت، أراه يقترب مني بعينين منكسرتين، وشفتين مقددتين من الأسى، ويد ممدودة إلى الفراغ. أقترب وأمد يدي إليها، ليموت هذا الفراغ بيننا، لكنه يتركني، ويغوص في ماء غزير، يطاردني، فأهرب منه، تاركه وحده يستسلم للموج الهادر، والأنفاس المقطوعة، والذاكرة المملوءة بالأسى، وهي تغرب عنه، لتعطيه للبراح، الذي لم يعرفه، ولم يحلم به، ولم يسمع عنه بين أولئك الذين لا يدركون سوى أن مهامهم في هذه الحياة هي تحصيل القوت كي يستمروا مخلصين لها، دون أن يعرفوا أساسًا ما هي؟ أو يتوهمون أن الطعام الرخيص الذي يملأون به بطونهم هو كل شيء.

هكذا كنت أرى محمود وهو يقبض على القروش القليلة في نهاية النهار، لأنه صارع النجيل المتوحش، كسرطان فتاك، حتى تولد فرصة جديدة لنبات القمح أو الفول أو الذرة أو البطاطس ليبقى على قيد الحياة.

الليلة أراه يصارع دوامات الماء، دون أن أراه، لكنني أتخيله، وفي الخيال رؤية. تطمره المياه، وأنا عاجز إن أفعل له شيئًا، سوى أن أدل الناس على جثته.

اقتربت منهم، وهم يغوصون في الماء حتى الوحل، وقلت:

ـ لا تبحثوا هنا، إنه غاوي السفر.

كان يقول لي ونحن نضرب أيدينا تحت النباتات الرخيصة، بحثًا عن النجيل المتوحش:

ـ عاوز أسافر.

كنت أضحك، وأقول له:

ـ أبوك لو راح بندر المنيا يحلف بغربته.

لكنه كان ينظر إليَّ ، ويتوه فيما لا أراه، ويقول:

ـ سأسافر أبعد من خيالك.

الليلة، والقرية كلها ملتاعة، والصراخ يخمد، بعد أن صعد إلى السماوات السبع، بعد العثور على جثة محمود، أدركت أنه سافر، وأن ما قاله لي على أول الحقل، بينما الرجال يخلعون جلابيبهم، ويلقونها على رأس السرائب الممتدة وعلى ضفتيها يقف القطن طارحًا لوزه الأخضر، الذي سيصير أبيض بعد أيام، لم يكن سوى وعد بالسفر.

***

2 ـ الصبي الأول يسافر داخل جسده

لم يغادر قريتنا أبدًا، إلا للمثول أمام طبيب في البندر، زاره مرات، وفي كل مرة كان جزءًا من جسده ينقص، يسافر داخل نفسه، وكان الطبيب يعرف أن تآكله سيتواصل، حتى يحل السفر الأخير.

كان الجميع يشهدون ببراعته في ضرب الفأس، إذ يرفع جانبًا منها، وينخص بالآخر جذور النجيل النابت إلى جانب الزرع، فيقلعه. ولم يكن هذا يمنعه من أن يكون في مقدمة الرجال، الذين يتسابقون أحيانًا، مدفوعين بتحفيز صاحب الحقل، حتى ينجزوا الكثير، بأقل أجر ممكن.

كنت أتردد عليه بين حين وآخر، كلما وجدت باب بيتهم مواربًا، أو دعاني أباه لقراءة نشرات الأدوية، التي لم تكن لها أي فائدة، سوى منح من حوله أملًا كاذبًا، كانوا يدفعون من أجله جزءًا كبيرًا من قوتهم.

أقترب منه محتارًا في أمره، فما كان يجري له لم يمر به أحد من قبل في قريتنا. لكن أبي قال لي:

ـ سمعت أن شابًا في قرية بعيدة راح يصغر، حتى صار رأسًا له أطراف، ثم مات.

قلت له يومها:

ـ سافر في نفسه.

صمت برهة وقال:

ـ كل يوم يلاقوه نقص، حتى اختفى.

كان هذا ما يحدث للصبي، الذي كنت أزوره. تضمر أطرافه، حتى لم يبق منه سوى جذع، راح يضمر هو الآخر، حتى أصبح رأسه أكبر من جسمه، لا سيقان ولا أذرع، إنما فم يتحدث، كما كان في الزمن الذي ولى، حين يجلس الفلاحون تحت شجرة الصفصاف، وينصتون إلى كلامه العذب.

أحد الذين كان يكدحون معه، رآه ذات يوم، فعاد إلينا باكيًا، وقال:

ـ كان زرعًا عفيًا، لكن الأيام تأكله.

لم نفهم وقتها ما سمعناه، لكنه نظر إلينا وقال:

ـ من يضرب الأرض تضربه.

سخرنا منه، فقد رأينا على مدار السنين الفائتة كثيرين ممن ضربوا الأرض فأعطتهم،  لكنه قال لنا:

ـ تعطي الأرض ألف ألف، وتأكل واحدًا.

أدركنا وقتها أن الفتى سيكون قربانًا للأرض. ورأيناه ينقص بينما كل مكان ضربه بفأسه ذات يوم يتسع.

وحين حملناه إلى مثواه الأخير، رأينا الأرض تتسع أمام أعيننا، وتمتد أمامنا، آخذة معها الجسور، حتى ظننا أننا سنمضي بنعشه إلى الأبد.

***

3 ـ الرجل الأول يسافر بعلم الوصول

لم يكن بارعًا في ضرب الفأس، لكنه كان يحلم بالسفر. قال له الذين ينحنون معه، حتى تستوي ظهورهم:

ـ اِرْضَ بنصيبك.

لكنه كان ينظر إليهم هازئًا، ويقول:

ـ أرض غير أرضكم تناديني.

ونادته الأرض الصفراء التي اخضرت. يومها جاءت إليه زوجته، متهللة بين الحقول، وقالت له:

ـ جاء الفرج.

رمى الفأس في وجوهنا، وقال:

ـ لكم الطين ولي السماء.

ودعته عيوننا الحاسدة، ونحن نتهامس:

ـ في يوم سيصبح من أصحاب الطين، ونشتغل نحن عنده.

عشرة أيام قضاها في تجهيز نفسه. ذهب معه ابن عمي إلى الترزي في قرية مجاورة، كي يُفصِّل له سروايل تصلح للمَزارع التي تجرح الرمل، وأيام أخرى قضاها في تجهيز بعض من سيأخذه إلى الذين سبقوه إلى هناك، بما في هذا كلمات سجلها لهم أهلهم، وجمعوا في يديه الشرائط، ولما سأل عن المال، قيل له:

ـ لا تقلق، فمن هناك سيتكفلون بك.

ورأيته ذات صباح، يكاد يتراقص في جلبابه الجديد، في يده حقيقة كبرى قديمة، جوانبها يمرق فيها خيط من دوبارة، وفمها يريد أن يفضح ما فيها، لولا خيط دوبارة آخر، يضمه إلى بعضه، ساترًا كل رخيص.

وقف على القنطرة المشرفة على طريق ترابي يصل إلى أول شارع في بلدتنا، ينظر إلي الناس بما لم يعهدوه منه قبلها، إلى درجة أن أحدهم همس في أذن آخر:

ـ نسي نفسه قبل أن يجدها.

في الطريق إلى المطار، نظر من نافذة عربة ربع نقل تقله، هو مع سائقها في الأمام، وحقيبته القديمة في الخلف، بها ملابسه الداخلية وجلابيب، وأشرطة تسجيل بصوت النسوة إلى أزواجهن الذين يلقون بأنفسهم إلى تصاريف الغربة، ويمدون أيديهم إلى ما في جيوبهم من دراهم.

هناك، وجد مزرعة مقطوعة من صحراء ممتدة، وسماء ليس فيها سحب، وأناس تنحني ظهورهم إلى الأرض في صمت، لا أحد منهم يضحك، أو يقف، ولو دقيقة من الزمن، ليحكي شيئًا مما يجري عما حوله، فليس حوله شيء يذكر.

غربة في غربة، وتيه ولوع وانتظار، وما يأتيه من أجر يرسل أغلبه إلى أهله، والبقية له ليعيش على هامش الحياة.

في الليل ينصرف عنه كل أحد، وكل شيء، ويغلبه السهاد، فيأتي إليه الذين كانوا معه على رأس الحقل، هنا لنا نحن الذين نراه في غربة، وهناك له في هذه اللحظة التي تضنيه فيها غربته. وحده يرانا، واقفين إلى جواره على أول الحقل، وشمس الصبح تحط على رؤوسنا وفؤوسنا، وعروقنا التي تستعد لدم سيتدفق فيها حين يحتدم الكد، وتنظر العيون إلى عين السماء باحثة عن شمس الظهيرة، كي تأتي فترفع الفؤوس، ويجف العرق.

في الليلة الأخيرة له، دون سابق إنذار، أغمض عينيه علينا، ولم يفتحهما على شيء آخر.

الذين حملوا جثمانه إلى صندوق أتى إلينا بعد أيام قالوا:

ـ سحبت روحه الفاتنة.

لم نحك لزوجته، التي لبست سروال الرجال ولا تزال تكدح في أرضه الضيقة من أجل صغارها، أنه في الليلة الأخيرة فتح باب حجرته البسيطة الواقفة عند ذيل المزرعة، لامرأة فاتنة من بائعات الهوى اللائي يسعين بين رجال المزارع المشتاقين للنساء. باعت له حبوب تلهب رغبته وجسدها. بلع الحبوب وترك جسدها باردًا، فتركته على حاله ومضت.

***

4 ـ الطفل الثاني يسافر بعلم أهله

لا يتوحش الفقر في قريتنا إلا في عمق الصيف، فلا يجد أحد أرضًا تناديه، ليكدح فيها، إنما تناديه البلاد البعيدة، فيذهب إليها، معتقدًا أنها فيها كل شيء، إلى أن تأكله شوارعها القاسية، فيهرب منها قبل أن تأتي على كل جسده وروحه، لكن الطفل الثاني، لم يتمكن من الهرب.

في منتصف يوليو، قال للجالسين عند الجميزة العتيقة:

ـ سأسافر إلى بورسعيد.

تطلعوا إليه واجمين، فقد كانوا يعرفون أن المدينة لم تعد تعطي أرزاقًا للعابرين مثلما فعلت في أيام عزها الأولى. لكنهم كانوا يؤمنون بأن كلًا منا ذاهب وراء رزقه، لهذا صمتوا، كما صمت أهله، الذين كانوا يعرفون أن عيالًا كُثر قد ذهبوا في وقت مضى وعادوا بنقود وهدايا.  لم يكن قد طالهم وعيًا بأن الزمن هناك قد تغير، وأن ألوان المدينة الزاهية قد بهتت، وأن شوارعها الحانية قد صارت مقبضة.

كان يقف على أبواب السادسة عشر تمامًا، طفل هو في نصوص القوانين، رجل عند أهله، الذين كانوا يرون الشعر النابت فوق شفتيه، ويسمعون صوته الخشن، ويقولون:

ـ صار رجلنا.

كنا نعذرهم فالأب تركه في بطن أمه، تسبقه إلى الحياة ثلاث بنات، لكننا احترنا في أمرهم، وقت أن قرر السفر، وتحاورنا حين حل المساء، عن حقيقة مشاعرهم حيال رجلهم الصغير الوحيد. أحدنا كان يعرف الكثير عن بطونهم الخاوية، وملابسهم المرقوعة، فقال:

ـ ليس أمامهم خيار آخر.

انتظروه عند آخر الصيف، لكن الخريف انتهى، وخلفه شتاء، لم يشعروا ببرودته، من فرط الشوق الحار إليه، وصار القلق العارم في الربيع، فذهبوا إلى قريب له، يبثون إليه مخاوفهم. طمأنهم مرة ومرة، ولم يجد بدًا من أن يشد الرحال خلفه.

طاف على اللوكاندات الرخيصة، وكل مكان يمكن لمثله أن يحل فيه، السوق، والميناء، والبنايات تحت الإنشاء، والمقاهي، ثم أبلغ أقسام الشرطة، وقبل أن يغادره الأمل، قال له صبي يعمل في أحد المقاهي المعزولة:

ـ كان هنا، ومشي.

ـ مشي؟!

ـ راح “مرسى مطروح”، هناك الرزق أوسع.

ولم يكن أمامه من سبيل سوى السعي خلفه، ليمضي في الدائرة نفسها، بلا جدوى. لكنه عرف هناك أن كثيرًا من الشباب والصبية والرجال يعبرون الحدود إلى “ليبيا”.

ـ هل عبر إلى الصحراء؟

عاد إلى قريتنا طارحًا السؤال، وتناثرت الإجابات من الأفواه كرذاذ المطر في عاصفة هوجاء. كل شيء يقال لا يلبث أن يطير، ليموت فوق التراب الناعم، أو على هامات الشجر العالي. 

توالت الإجابات المبتورة، التي لم تكن سوى تخمينات وتكهنات وأقاويل، لاكها الناس شهورًا، ثم خمدت. ولم يعد أحد يسأل أين راح؟

وإذا جاء الناس على ذكر سيرته بعد كل هذه السنين، يتوزعون من جديد على هواجسهم المعتادة: “اغتنى هناك وتزوج ونسي أهله”، لا.. لا “ركب البحر إلى أوروبا”، لا .. لا “أكلته السباع في الصحراء”، لا .. لا “ارتكب جريمة ودخل السجن”، لا … لا “قُتل ودفن في بلاد غريبة”.

وحده الرجل الأول، الذي كانوا ينقلون عنه وهو في غربته قوله الدائم:

ـ يعيش، وسيعود يومًا والشيب يملأ رأسه.

***

5 ـ الصبي الثاني يسافر فوق ظهر حمار الليل

لم يكن أمام الناس من سبيل سوى تصديق ما رواه الذي كان معه في تلك الليلة. سبح بعينيه في الأفق البعيد، وعاد ليقول لهم بلسان مرتعش:

ـ ركب حمار الليل وسافر.

كانوا قد سمعوا عنه من قبل في حكايات الليلة على المصاطب التي تتلاصق فوقها الأجساد، وتمتد الآذان إلى الأفواه التي لا تتوقف عن الثرثرة. لهذا لم يتعجبوا من الكلام عن الحمار الذي أخذ الصبي وسافر إلى حيث لا يعرفون.

استدعوا حكايات توارثوها عن الأجداد حول حمار غير الحمير الذي يركبونها إلى الحقول، وتسير خلفهم بهائمهم. إنه ذلك الحمار الذي لا يظهر سوى في الليل البهيم، يتراقص فوق الجسور العالية، ويرخي ظهره مغريًا السائر والساري الذي اختاره كي يركبه، ثم يطير به إلى عالم الجان.

يقول الناس فوق المصاطب أن الحل الوحيد لتفادي الرحيل بعيدًا إلى عالم غير الذي يعيش فيه الإنس، هو أن يحسن الراكب اختيار اللحظة التي يغرس فيه سكينًا أو مطواة في رقبة الحمار، ويحرص على أن يثبتها جيدًا، ووقتها بوسعه أن يقوده إلى حيث شاء. أما إن تغافل أو تهاون أو تمهل وسرقه الوقت، فإن الحمار، وبعد أن يجري به فوق الأرض قليلًا، لا يلبث أن يرتفع، فاردًا جناحيه الخفيين إلى عنان السماء، متقدمًا إلي كوكب بعيد، تسكنه كائنات أخرى. ينقسم الناس على المصاطب بين ما إذا كانت من الجن، الذين أتى القرآن على ذكرهم ولا بد لهم من الإيمان بهذا، وبين كائنات أخرى، لا يعرفون لها إسمًا.

لكن ظل دوما هناك من يشككون في هذا، ويقولون:

ـ قتله، وأخفى جثته ثم ادعى ما رواه.

بحثوا عنه في كل مكان، ولما أعيتهم الحيل، قال لهم واحد منهم:

ـ سافر إلى بلاد بعيدة دون أن يخبر أحدًا.

هناك من زكوا هذه الرواية قائلين:

ـ في بلاد ضاق بها الرزق من الطبيعي أن يهرب الناس إلى حيث يرزقون.

وأبلغ أهله الشرطة، فواصلت تحقيقها، لكنها عجزت عن إيجاد سبيل لحل اللغز, إذ لم يعثر أحد على جثته، وبرأ كثيرون في وقتها صديقه، وقالوا:

ـ لا يمكن أن يؤذيه.

بعضهم لم يلبث أن شكك فيما جزم به، لكنه بلع لسانه، تاركًا كل شيء يمضي في طريقه، لتقف الشرطة عاجزة، وتترك الأمر إلى المتاهة التي طالما ابتلعت قصصًا ناقصة، وحكايات غريبة.

وسرعان ما انجرف رأي الذين اعتقدوا أن ما جرى وراؤه جريمة ما، في سيل حكايات الذين صدقوا أن حمارًا غريبًا قد حمله إلى عالم آخر، حتى أن بعضهم كان يضرب به المثل في الحظ لإنسان معذب فقير معدم بائس أرسل له الله من حمله إلى عالم أجمل من دنيا البشر.

***

6 ـ الرجل الثاني يسافر مرتين

لم أره إلا في وقت متأخر، تحديدًا وأنا أفارق الصبا. إنه ذلك الرجل الذي قال لنا أهلنا أنه قد فارق قريتنا بعد أن ضاق به الرزق، وحاصره الوشاة. قالوا إن امرأة قد عشقته، أرملة كانت من عائلة ميسورة، لكن أهلها استصغروا مثله أن يكون لها، فضايقوه، ولم يكن أمامه بد من السفر.

قال لي رجل كان قد اصطحبه في ليلته الأخيرة، بعد أن أطمأن إلى كتماني السر:

ـ عرفوا أنه قد واقعها فطلبوا منه أن يترك القرية.

لم يذهب بعيدًا، هكذا عرفت بعد أن قابلته مصادفة في سوق البندر، وظل قلبه معلقًا بقريتنا. الغريب أنني وجدته يقول لي:

ـ أنت من رائحة الحبايب.

طالعت وجهه الضامر، وعينيه اللتين تملآنه، وسألته متخابثًا:

ـ أي حبايب؟

لم يجبني، إنما تطلع إلى الأفق، مغادرًا هامات الباعة والشراة، وقال:

ـ لا تشغل نفسك.

لكنني شغلت نفسي بالرجل الذي سافر عن قريتنا، وعرفت أنه اكترى غرفة في بيت هجره أهله، معزول عند أول الزرع، وتحت السماء الطليقة، وبين أيدي الساعين إلى الكدح بين سرائب الحقول، فكان يسبقهم جميعًا إليها.

هكذا أفادني زميل لي في المدرسة الثانوية، وقال:

ـ رجل طيب، لم أر أحدًا صبورًا مثله.

كانت القرية التي هاجر إليها تقع يسار قريتنا، يتسع فيها الرزق، فوجد ما يقتات به، وكان يمكن أن يعول امرأة، لكنه كان قد قرر ألا يلمس جسد أخرى، غير تلك التي قاسمها الارتجاف الحارق الغارق في اللذة، ولم يظن أن غيرها بوسعه أن يمنحه هذا.

صارح بهذا رجلًا صار صديقه، فنقله إلى زوجته، فحكت لأختها، التي كانت أرملة أيضًا، ولم تجرب تلك الرعشة أبدًا، فوجدها تطرق باب حجرته ذات ليلة، وتراوده عن نفسها. صدها، فهددته إن لم يحقق لها ما جاءت راغبة فيه، ستدعي أنه تحرش بها، وتفضحه. فكر قليلًا، ثم وعدها بالزواج، وقال لها:

ـ لا أستطيع خيانة صديقي، ففي بيته أكلت وشربت من يد أختك.

في فجر هذه الليلة، جمع أشياءه البسيطة، وغادر القرية مرة أخرى، لكن هذه المرة إلى مكان لا يعلمنه أحد.

وحين باحت الأرملة لزوج أختها بأنه قد وعدها بالزواج، أدرك سبب رحيله، فقد كان يقسم أمامه يومًيا، أنه لن يمس جسد أمرأة أخرى، غير تلك التي عشقته وعشقها.

***

ختام

راح الكل، طفلان وصبيان ورجلان، وبقي الحقل الذي وقفوا على رأسه ذات ضحى. توالت الزروع، مع تقاطر العرق فوق التربة اليانعة، وجرت مياه، فمد نبات ساقه وجذعه وهامته، يشاكس النسائم، فيهيج ويشيخ، وتذبحه المناجل المسنونة، فيسقط صريعًا.

أنا من رأيتهم جميعًا، وتاهت في عيني مصائرهم، حين نظرت إليهم مليًّا، لم يمسسني سوء، سوى ذاكرة موجوعة، تتراقص فيها وجوههم الضامرة، وتمور أصواتهم التي تزداد خفوتًا مع تقدم الأيام، حتى كاد ينساهم الناس.

وقف كثيرون على رأس هذا الحقل الوسيع، وكنت أمر بهم وأنا ذاهب إلى حقلنا الضيق، فإذا وجوههم تتبدل في ناظريَّ، وتصير وجوه الذين سافروا، كل إلى حيث لم يكن يعلم، وقت أن كانوا يتقاسمون الضحكات العابرة، ويجهزون ظهورهم للانحناء إلى الأرض الممتدة، بينما الشمس الحارقة تلسع رؤوسهم، التي لم تكن وقتها مشغولة بالمصائر.

………………….

*نقلاً عن موقع “صدى القصة”

مقالات من نفس القسم