المهدي سليمان
أعتقد بأنني قابلت مستر اكس البارحة. لست متأكدا. هذا ما أقوله دائما، ولا أحدا يمكنه أن يعترض على ذلك. وإذا كنت أثرت اهتمامك فعلا، فأغلب الظنّ أن ما ترغب في معرفته من أنا حقا، وكيف انتهى الأمر بمستر اكس ميتا قرب النهر، وكلّ هذا اللغو الذي تعودنا عليه في القصص الكلاسيكية. ولكني لا أشعر برغبة في فتح هذه الموضوعات، فأنا لا أنوي رواية سيرتي الذاتية اللعينة، كما أنك ستصاب بنزيف حادّ لو أخبرتك كيف انتهى الأمر ب مستر اكس مهشم الرأس.
على أية حال، كل ليلة خميس كنا نلتقي في الزكراوي، والزكراوي هذا ليس أكثر من حانة عفنة تقع قبالة الميناء. في البدء نتحدث عن النساء، ثم عن نتائج دوري الأبطال، وفي النهاية نكشف عن خططنا المستقبلية.
من ناحيتي لا أعلم ما فعله في الماضي أو ما الذي يعتزم فعله في المستقبل، ولا السبب الذي يجعل الجميع يتحاشون الاقتراب منه. كنا أصدقاء، أو على الأقل هذا ما أعتقد.
وإذا ارتدّت ذاكرتي إلى مجرى الزمن، أستطيع القول أن مستر اكس لم يكن شخصا متفائلا. وبالمقابل – وهذا ما جعلني أقترب منه- لم يكن متشائما أبدا. ومع ذلك، فقد حاول قتل نفسه مرتين، غير أنه لم يستطع القيام بذلك بالطريقة الصحيحة. إنه يذكرني بنفسي عندما بلغت العشرين: محبطا ومتجهما.
بعيدا عن هذا، السياسة لم تكن مادة حواره المفضلة. كان يؤكدا دائما، أن الديمقراطية تنمو داخل المجتمعات الهشة، وأن المجتمع التونسي خليط من الحمقى والمندفعين عاطفيا وزد على ذلك أنّ الأشخاص
الغير واقعيين هم الأغلبية، وهذا ما سمح أن يكون رئيس الحكومة عجوزا طيبا تجاوز التسعين.
الفوضى هي الحلّ. وهو جادّ عندما يقول أنه مع الفوضى ومع أي حدث يدفع العالم نحو أقصى نقطة للدمار. ولن يخطر ببالك أبدا أنّ رجلا هادئا كهذا يمكنه أن يكون متعصبا إلى هذا الحدّ.
قلت “نعم” وأنا أقول نعم كثيرا لأن لغتي ضعيفة للغاية. في الحقيقة، إنه تعبير سخيف إلى حدّ ما، معقد قليلا، لكني أحبه. وأنا أعني “الفوضى” إن التبس عليك الأمر.
لم أكن أشعر برغبة في مناقشة هذا الموضوع. سكبت كأسا آخرا. ثم سألت عن رأيه في مسألة أن أصيركاتبا يوما ما. دون أن يفكر مرتين، كأنه مستعد منذ الأزل “لا تتزوج” رمقته بنظرة جانبية. لم أقل شيئا.
ساعتها لم أكن متأكدا أنني فهت عن أيّ شيء كان يتحدث. هناك لحظة ذكية في حياة المرء ليقرر مصيره إلى الأبد. هززت رأسي لأنه كان ينظر إلي مباشرة.
لم يقل شيئا لفترة طويلة. من الواضح أنه كان متألما جدا لأنه تسبب في صمتي، ولهذا فقد أخذت أثرثر لبعض الوقت. قلت إنني أبله حقيقي، وأنّ الحياة خراء وما شابه ذلك. وشرحت له كيف أن معظم الناس لا يقدرون صعوبة أن يكون المرء كاتبا. ومضيت لنصف ساعة أخرى، على هذا النحو من الحديث الفارغ.
لكنه لم يكن يصغي لما أقول. من النادر أن يصغي لما تقول. ثم غيّر الموضوع قائلا “أكره قول هذا، الناس يحاولون دائما أن يفسدوا كلّ شيء. يمشون حولك ويتعاملون كأنهم يعرفون معنى الحب. لا أحد يعرف حتى يشعر بالكره اتجاه كلّ شيء”
هذا الرجل، كره نفسه وما زال يفعل. أنا أقصد، يكره نفسه حقا. بسبب هذا، صدقته عندما همس: أحبك. لم يكن أمامي خيار، نهضت وتعانقنا. ولك أن تتخيل كم كنت حزينا لموته المفاجئ.
بطريقة أو بأخرى يجب أن أشكره، ولكن من يستطيع أن يشكر رجلا ميتا، لا أحد.
ثم حدث شيء لا أحبّ حتى أن أتحدّث عنه. حسنا، سأخبركم، ولكن بحذر.
سحب مستر اكس المقعد المواجه وتكلم بنبرة غريبة. كانت الدهشة تعتريني دائما بشأن قدرة هذا الرجل صاحب الخمسين عاما على تغيير نبرة صوته بهذه المرونة، ولكن هذه المرّة كان يتكلم على غير عادته، وكأنه يدفعني إلى رؤيته في صورة جديدة تماما.
قال: آه، أودّ سؤالك عن شيء. ليس عليك أن تجيب إن لم ترد ذلك، ولكني أرغب في سؤالك وحسب. لن تغضب، أ ليس كذلك؟
– لا، لن أغضب.
– إنه سؤال غريب نوعا ما، ولكني لا أحمل أي دافع خفي من وراء سؤاله. أريدك أن تفهم ذلك.
أنا شخص فضولي قليلا. ولكن بعض الناس تثور ثائرتهم لدى سؤالهم عن تلك الأشياء.
– لا داعي للقلق، نحن في النهاية أصدقاء.
– هل أنت واثق؟ ذلك ما يقوله كل شخص، وبعدئذ يتحولون.
– أنا مختلف تماما.
– هل تعرضت يوما للتحرّش من رجل؟
– لا، لا أذكر ذلك. ولكن لماذا؟
وكانت الإجابة على شكل أصابع تهرش رأسي ببطء. يد إنسان. وقد أربكني ذلك كثيرا. وكانت تلك اليد هي يد مستر اكس، وهو يداعب رأسي اللعين.
قلت “ماذا تفعل بربك؟”
– لا شيء.. إنني بكلّ بساطة أبدي إعجابي ب … “
كان يحاول أن يبدو عاديا وهادئ الأعصاب، ولكنه لم يكن كذلك، وأرجو أن تصدقني عندما أقول ذلك.
كررت قولي “ماذا تفعل بربك؟”
لم أكن أعرف ماذا أقول. كنت شديد الارتباك.
” ماذا لو خفضت صوتك؟ إنني بكلّ … أنا آسف .. آسف”
آسف- هذه كلمة بغيضة، لأنها مزيفة. أكاد أتقيأ في كلّ مرة أسمعها.
أخذت نفسا عميقا وتناولت الرشفة الأخيرة من الكأس. ظل مستر اكس يراقبني وأنا أغادر، متكئا بذراعيه على الطاولة. قبل أن أتوارى عن أعين رواد الحانة كان قد تأبط ذراعي وكأن شيئا لم يكن.
وقد اتفقت الأقاويل الأكثر تداولا أنّنا خرجنا سويا من باب الحانة. وأنا آخر ابن زانية شوهد رفقة مستر اكس مساء 7 جويلية 2012.
لا تستطيع أن تمنع الناس من قول ما يرغبون في قوله. إنهم يقولون ما يروقهم دون أن يعوقهم عائق. لا أعتقد أنني سأغفر لهم أبدا. ما كنت لأتكلم عنهم هكذا لو أن أحدهم كان القاتل. حقيقة ما كنت لأفعل ذلك.
الأمر واضح الآن، لقد اتهموني بقتله، وهذا أمر مضحك. أعني أنني لم أكن أنوي قتله.
عندما بلغنا منتصف الجسر الخشبي أعلى النهر، أبدى مستر اكس رغبته في مضاجعتي، لا أعني أنه أراد أن يدخل شيئه في مؤخرتي، بل طلب مني، بعفوية تامة، أن أمصّ حيوانه.
لا شيء يختلف عمّا تقرأه في الصحف القذرة. لقد اخترت اليوم الخاطئ لأثرثر مع مستر اكس، لكن أيّ يوم سيكون خاطئا لهذا. مهما يكن، حاولت الابتعاد عنه، ولكنه أمسك سترتي وأرغمني على الجلوس.
وبالرغم من أن الضوء كان شحيحا في تلك الأنحاء، إلا أنني تمكنت من ملاحظة أنه كان يعاني من تساقط الشعر. خمنت أنه سيغدو أصلعا بعد عامين على الأكثر. لم يكن وسيما، بل كان عجوزا جدّا.
أنت لا تعرف الشخص المسمى مستر اكس. أعني أنه متين الجسم وغير ذلك، ولكنك تستطيع أن تستنج أنه لا يملك القدرة على مضاجعة مقبض الباب. كان واضحا أنه ثمل.
بمجرّد أن أنزل سرواله حتى الركب، أغمضت عيني، واندفعت نحوه صارخا. على الإنسان أن يصرخ عندما يكون خائفا.
لم أعرف في أي ساعة حدث كل هذا، ولكنهم احتجزوني في مركز الشرطة لأكثر من أربع وعشرين ساعة، ريثما يصلهم تقرير الطبّ الشرعي. في الأثناء، كنت قد فقدت شيئا فشيئا كل ما نعمت به من احترام لذاتي وثقتي بنفسي ودهمني اكتئاب عميق. بتّ أشعر على نحو متزايد بأنني أشبه بحشرة علقت في قعر جرة زيت، وربما لهذا تشبثت بكلمتين لا غير “لقد سقط”
وحتى إن بلغ عدد الكدمات من أثر اللكم والركل، عدد ندبات الحرق الناجمة عن إطفاء السجائر في جسدي لم أكن لأنطق بكلام آخر.
مع نهاية اليوم الثاني، صحوت بعد الظهر وقد ظهرت على رسغي علامات تشير إلى أنني قد كبّلت تكبيلا شديدا. على كل حال، أخبرني الحارس أنّ مستر اكس نجح أخيرا.
في البدء لم أفهم. كان الصوت يتردّد، أتذكر الكلمات جيدا لأنه كان يرددها بشكل تلقائي وبكلّ إصرار “رجوعا إلى تاريخه الشخصي وإستنادا على نتائج تشريح الجثة، يبدو أنّ الرجل قد قفز من أعلى الجسر”
ومثلما كان الحال في الكثير من القضايا، لم يستطع رجال الشرطة إدانتي و وضعي تحت طائلة القانون. فلم يشهد أي كائن ضدي والمتضرر المباشر في عداد الموتى. زد على ذلك، أن الرجل سبق وحاول قتل نفسه. وفي نهاية المطاف، لم يكن هناك مناص من اعتبار الوفاة انتحارا.
والأرجح أنّ هذه أسوأ خاتمة يمكنك قراءتها، لكنني ضجرت ولم أستطع التفكير في شيء آخر.