مسألة وقت: كحلم قابل للتصديق

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

Normal 0 false false false EN-US X-NONE AR-SA /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin-top:0cm; mso-para-margin-right:0cm; mso-para-margin-bottom:10.0pt; mso-para-margin-left:0cm; line-height:115%; mso-pagination:widow-orphan; font-size:11.0pt; font-family:"Calibri","sans-serif"; mso-ascii-font-family:Calibri; mso-ascii-theme-font:minor-latin; mso-hansi-font-family:Calibri; mso-hansi-theme-font:minor-latin;}

نضال حمارنة *

- مسألة وقت رواية للكاتب المصري منتصر القفاش، أحد رموز الرواية غير النمطية والمنفتحة على التجديد والتجريب، التي ظهرت في بداية تسعينيات القرن الماضي. صدر له قبلها روايتان: تصريح بالغياب (1996) و أن ترى الآن (2,,2). نال جائزة الدولة التشجيعية عن مجموعته القصصية شخص غير مقصود (2,,1).

يكشف غلاف مسألة وقت عن غواية بصرية للفنان هشام نوار كمدخل للرواية، وهي صورة فوتوغرافية لمركب ورقي طفولي، يستريح منتظرا فوق بلوزة أنثوية. المركب والبلوزة لهما اللون الذهبي المصفر نفسه الذي تخترعه الشمس لنا حين تسطو على الأشياء لتفيض عليها سحرا

في المفتتح يختار الكاتب مقتطفا من ألف ليلة وليلة ، عن ملك اعتقد أن بينه وبين مدينته يومين ونصف اليوم، فقال له الشاب: أيها الملك، إن كنت نائما فاستيقظ، إن بينك وبين مدينتك سنة للمجد، وما أتيت في يومين ونصف اليوم إلا لأن المدينة كانت مسحورة .

من سحر جمالية الغلاف، إلى مدينة الملك المسحورة في ألف ليلة وليلة ، نذهب مع الكاتب في رحلة عبر 123 صفحة، تروي الواقع باللعب مع الواقع، تجمع الفانتازي والسوريالي بتوليفة آسرة، تجعل القارئ يصدق كل تلك الأحداث المتوالية، ومشهديتها المتقنة إلى النهاية.. النهاية التي أراد لها الكاتب تأويلا مغايرا لما اعتقده القارئ وصدقه طوال رحلته مع الكتاب.

لجأ الراوي للعب مع الواقع المروي عنه، ومع القارئ على حد سواء. هذه التقنية الفنية لم يكن هدفها الإدهاش والصدمة فحسب، وإنما تعدد التأويلات المفترضة في كتابة جديدة، تتوارى خلفها ذهنية منفتحة، تقترح تعددية التصور والحلول الفنية في آن معا.

المكان المروي عنه، مكان واقعي غير متخيل، لا يشت عن المساحة المحددة التي يتحرك فيها البطل في حياته اليومية، البيت.. العمل.. الأقارب. والزمن المروي عنه زمن الواقع المعاصر، الزمن الخاص بحياة يحيى في ظل الحادثة، وبعدها.

يتكئ القفاش على السرد، فيشتغل عليه بعناية حكاء عصري كتب ما قل ودل بلغة هادئة مبسطة مليئة بالسكينة، والحوار باللهجة المحكية، المروية من صميم الواقع المعيش في حياة مصر المعاصرة، حكاية بطلها يحيى، شاب غير متزوج، يعيش مع والدته في بيت صغير متواضع بالقاهرة، حاصل على تعليم أكاديمي، وأحلامه أكثر من بسيطة.. عمل ثابت.. وامرأة يحبها. ولأنه يتقن الصبر، وليس في قاموسه كلمة يأس، اعتقد أن كل المسائل المعلقة ستجد حلولا لها، ولكنها مسألة وقت ، وعادة ما تردد هذه الجملة في الحياة اليومية بمصر، بمعنى؛ ما عليك سوى الانتظار.. فالأمر سيحدث، سيحدث، لكنها مسألة وقت ، وفي كثير من الأحيان لا يحدث..! حاول استعادة علاقته مع زميلته، لكنها كانت قد حسمت الموقف، فلم يكن يحيى قد حدد أي توقيت لخطبتها أثناء عمله بالشركة، وزواجهما صار مستحيلا بعدما تم تسريحه. إمتى حييجي الوقت المناسب؟ . الوقت المناسب .. تحتل الكلمتان مساحة كبيرة من حياة يحيى، ويبدو أنهما تخصان حياة أخرى لم يبدأها بعد. كانت الكلمتان تخرجان منه بسرعة عندما يتعلق الأمر بتحديد وقت ما، خصوصا إن أصر عليه الطرف الآخر في العلاقة، لكنهما كانتا إجابته أيضا عندما تلح عليه أمه أن يزور أقرباءه (ص 19).

بعد تسريحه من العمل يتعرف على رنا، طالبة يعطيها دروسا خصوصية في الرياضيات، أول خيط في الحادثة.. كيف تركت رنا بلوزتها المقطوعة عند يحيى، بعد تواصلهما جسديا، وارتدت قميصه ثم خرجت مسرعة في الواحدة ظهرا. في ما بعد يعلم القارئ أن رنا غرقت في المعدية التي تعبر النيل من ضفة إلى أخرى، في العاشرة صباحا في اليوم نفسه، أي قبل أن تأتي إليه.

يبدأ يحيى تخبطه وبحثه عن مسألة الوقت .. التوقيت.. حسابات الزمن.. تلاعبه.. تبدل حالاته وأحداثه، مع أنه حاصل على وظيفة مسؤول الحسابات عند وكيل بضائع صينية، ومشرف على عدد لا بأس به من مندوبي المبيعات، يحفظ أسماءهم جميعا عن ظهر قلب، وما لهم وما عليهم، من دفعات ومواعيد تسلم وتسليم، دون الرجوع لملفات أو مصنفات، تظهر كل قدراته أثناء تفانيه بالعمل، كي لا يخسر وظيفته.

حادثة غرق رنا ارتبطت بحالة اختلاط الوقت لديه؛ الوقت الذي ضاع منه أو التبس عليه.. توقيت مفاصل حياته. يتمنى أن يتغير كل شيء، أن يبدل غرفته على سبيل المثال.. ولا يقوى على تغيير شيء. الماضي كذلك قابع على أنفاسه الأب الغائب، أحلام الأم، ودوام الحال يستنزفه. بلوزة رنا وصورة المعدية الغارقة كل ما تبقى لديه من الحادثة وصمته.. عدم قدرته على البوح لأحد.. سوى ناهد صديقة رنا المفترضة، مما جعله يتذكر قصة زميل لم يره منذ سنوات حين فضفض له: عن زيارات أخته المتكررة له بعد وفاتها. وأرقه المتنامي وحيرته من الوقت، عندما حدث ابن خالته. .. طلب منه يحيى أن يتخيل الوقت إنسانا نؤجل دائما لقاءه، ماذا سيحدث له؟ سينصرف عنا ويبحث عن صديق آخر أو سيبدأ في معاداتنا والتفكير في طريقة يقتص بها منا، وقد يوهمنا أنه ما يزال يصاحبنا وهو في الحقيقة يعد لنا انتقاما لا يخطر في بالنا (ص 97).

المروية.. حكاية يحيى ورنا.. أم هي حدوتة الوقت في حياة يحيى ما قبل الحادثة، وبعدها – الرتابة اليومية المنتظمة، الرتابة الأليفة التي تنفي معنى الوقت، وجدواه في حياة البشر. ثم بعد الحادثة اكتشافه، وحضوره متأخرا ليصبح الوقت لعنة تلاحق من تناساه (طلبه من المصور وضع خلفية صورة الساعات المفككة خلف صورة يحيى الطفل، في الواقع المروي عنه. وحضور صورة المعدية بمشهدية سوريالية على حائط غرفة يحيى بحمولتها وركابها باستثناء رنا، في المتخيل المروي عنه) إلى تواشج كل تلك الأصوات عبر الهاتف ومن حول يحيى في وقت واحد، واختلاط السحر عليه. هل كان المكان مسحورا ؟ كما حدث لملك ألف ليلة وليلة ، أم أن يحيى هو المسحور..! فالمسحور يظن دائما أن الآخرين هم من سحروا، خصوصا لو ظلت حياته تمضي على منوالها (ص 123).

الكاتب / الراوي لم يرد أن يفصل واقع بطله الواقعي.. أسرته، عمله وعدم استقراره فيه، أصدقاء العمل، الأقارب والضغط النفسي الهائل الملازم لحدس بطله يحيى عن لا وعيه.. أحلام يقظته.. تهويماته، فحول سرد الأحداث وتصورات يحيى إلى إحالات غرائبية، مستخدما الوجوه، تداعيات الأحلام، المواقف المتباينة، والنزاعات غير المرئية واتصالها بالتحديد برغبات يحيى ونزوعه إلى التغيير، إلى الانفكاك من الواقع، بالهروب من الحياة الواقعية، من العالم كما هو عليه. وكأن الراوي دخل إلى أعماق سيكولوجية البطل، إلى أغوار تهيؤاته وسطرها مشهديات في نقلات قصيرة من أرض الواقع الواقعي إلى التحليق مع الواقع الغرائبي، نقلات لا يحكمها ضابط معياري واقعي، تشبه إلى حد كبير نقلات سرد الحالم، لكن القارئ يصدقها.

رواية مسألة وقت تذكر بمفتتح يتكرر دائما في القصص الشعبية السلافية: حدث ما حدث.. وحدث ما لم يحدث . وما حدث ليحيى حدث ولم يحدث، يستمتع القارئ بحدوثه وبنفي حدوثه، فاللذة الناقصة في الأدب أكثر جمالا وإمتاعا من اللذة الكاملة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*  شاعرة وناقدة أردنية تقيم في دمشق

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم