مروان علي .. خمس لوحات مشمسة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 46
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

رشا أحمد

 “كلهم مرّوا فوق جبالنا العالية

 كلهم ذهبوا وبقيت الجبال”

بكتابه الثالث الصادر عن منشورات المتوسط ودار السويدي بالإمارات العربية المتحدة، يقدم مروان علي تجربة تخيلية للقارئ ليصبح كرديا ولو لخمسة أيام فقط. يحلق مروان علي الشاعر الكردي السوري المقيم بألمانيا ببساطه السحري في  مدن كثيرة، بدءا من حلب ودمشق وبيروت والقاهرة  ثم امستردام وآيسن وبرلين.

يسافر ويكتب ويحلم ويضع القارئ في حيرة: كيف تشكل اللحظة الإنسانية حياة كاملة في خمسة أيام، كيف يكون المكان الأول أيقونة للحب والأمل والحلم؟! .. لكن مروان علي الذي لا  يتخيل الحياة بدون شعر، هل وصل للبيت الأول الذي هو ملاذه وحلمه الدائم عبر خمسة أيام، هل نصل لعالم ووجود إنساني كامل عبر تلك اللحظة؟

لوحات مروان علي الخمس،  كما أحببت أن أسميها، أدخلتنا عالما إنسانيا بكل ما فيه من مرارات وأحزان، فتراءى أمامنا  كشريط سنيمائي مليء بالندوب والهزائم بالبيوت الطينية والسيارات الشيفروليه وأصوات الرعاة والفلاحين ورائحة البيوت الطينية القديمة التي تفوح والجبال البعيدة  والقمح والشاي الثقيل وعمي جميلو الذي أحببناه كأننا نراه، والذكريات والضحك والسخرية والحرب،  وصوت الأغاني والأحلام الكردية الممنوعة والبلاد الكردية الممنوعة أيضا.. مشهد كامل لحياة الأكراد، من كرصور، ملاذ الطفولة الملاذ الآمن، ولحظات الألم والانكسار والحلم، مرورا بالقامشلي وحلب”.

 “أستيقظ في الصباح الباكر

طريقي طويل إلى فرن أبو صباح

 ضباب قليل وهواء بارد

ولكن ما إن أتجاوز البيوت الطينية

 قرب قبور السريان

 ومن الطرف الآخر لنهر الجقجق

أرى الجامع الكبير وكنيسة السريان

أأسرع قليلا كيلا أتأخر

عن رائحة الخبز فيّ أيضاً”

إنها التفاصيل اليومية لإنسان كردي بسيط، ونبوءة أبيه متكئا على مشهد شعري وسردي مكتنز وعفوي، يروي من خلاله طفولته ورؤاه وموقفه من الحياة والعالم: مَن هو الكردي،  كيف يعيش، هل يكتب مروان سيرة ذاتية أم يوميات، هل قصد مروان التعدد عبر الجنس الأدبي، وهل تحرر بكتابه هذا  من قيد وصف هذا الكتاب فقدم الشعر والسرد والقصة القصيرة من خلال، تماما كما تفعل أمه التي ي يستعيد حضورها الرائق في هذه اللقطة  قائلا:

“نظفت أمي باحة الدار من آثار القصف

 وعلقت من جديد صورتي

التي سقطت عن الحائط

ولكن رائحة البارود

 ظلّتْ تذكر بالغائبين”

 نصوص مفتوحة، على الداخل والخارج، على الحضور والغياب يكشف بها عن معاناة الأكراد ومأساة أن تكون كرديا في مجتمع عربي. كتابات مروان علي التي تتحرر من سطوة موسيقى الشعر التقليدي بموسيقى خفية، لا تخطئها عين ولا يغفلها قلب، يطرق بها وجعه، مثقلا بألم يجمع المتناقضات ويقارن بينها .

على امتداد نصوص مروان علي لا يقدم معنى شعريا واحدا بل معاني شعرية متعددة ومختلفة مؤمنا بأن الشعر مفتوح على كل شيء، من الخوف والقلق والألم والعزلة والخيبات، تجربة لا تتكرر نفسها.

يمسك مروان تفاصيل المكان وشخوصه (عمي جميلو/شيركو /كردستان /محمد شيخو) وتجلياته بلا زيف ولا ادعاء ليؤكد انتماءه وهويته، عبر تخوم الشعر والسرد المفتوح على الدهشة والمغامرة يقتنص اللحظات،  وعلى سطح  لوحات خمس يعري جسد الحياة، ويرمم ثقوبها ويواجهها بحثا عن الحلم والمطلق ليحيا بالشعر كما يحب، يكتب ليبقى على قيد الحياة، عبر صراع الذات الشاعرة مع العالم والأشياء المؤسسة له، نكاية بالحرب والألم والغربة، مؤسسا  عبر فعل الكتابة عالمه، توقا لحياة ووطن متجاوزا خيبات الذات منتظرا الخلاص بالشعر والحلم الذي يعيشه  لرؤية وطن يتغير في زمن إنساني، لا يكف عن التشوه والصراعات، حلم يشبه الحقيقة وحقيقة تشبه الحلم،  يعيد فيه حياة منشودة مفتوحة على مطلق الذات الشاعرة ومطلق الوجود، متشبثا بطاقة التمرد  في داخله  المتشابكة الأغصان والرؤى، لتجسد معاناة الإنسان ومصيره المجهول عبر أبعاد بصرية للصورة الشعرية والسردية، لا تخلو  من نبرة الصرخة  الموجعة الخلاقة، حتى ولو ارتدت إلى الحنجرة:

“تحت هذه الأنقاض آمالنا

سنبكي طويلا قربها

ربما تنبت ثانية “

…………

“لأن صرختي لن تصل

 ستعود إلى حنجرتي”

 يبق لمروان علي حنينه إلى “كرصور” التي نأت بعيدا، ولا يزال صداها عالقا بحبات عَرقه وخطاه ، دون غضب، أو خذلان، ليختار طريقته للحياة غير مستسلم للحدود الجغرافية ولا للغرباء والمؤامرات وجوازات السفر ومحطات القطار .

 لكن هذه الحنين يظل ممسوسا بمكابدات الاغتراب،  فلا مكان آمنا تتشبث به الذات الشاعرة وسط  ظلال الخيانة التي أصبحت تحاصرها هنا وهناك..  فعلى أرصفة عالم  كل شيء عبثي إلى حد الجنون ، ولا طعم لأي شيء حتى الهواء، التي أصبح  بمثابة لص يجب اتقاء شره: 

“أترك باب الخزانة مواربا

وأغلق النوافذ والأبواب

الهواء خائن”

وعلى ذلك ، تتارجح الصورة الشعرية  في الديوان ، ما بين الماضي والحاضر ، ما بين  حضور يشبه الغياب ، وغياب لا يشبه سوى ما يخلفه من أسى ومرارة .. هنا تقفر الذات الشاعرة ، فوق أسوار الذاكرة والحلم، تستعيد صورتها في مرآة الصبا والطفولة، وتنكش عن التفاصيل الصغيرة الحميمة  المخبوءة في روح المكان . وهو ما يطالعنا في نص بعنوان ” طفل ” يقول فيه الشاعر:  

“أحبُّ البيوت الطينية والوحل والمطر والطرق الترابية وسيارات الشيفروليه القديمة وأصوات الرعاة وقطعان الغنم وعواء  أحب الذين ينتظرون في محطات القطارات والجوازات وعند حيطان المستشفى الوطني … أحب أكياس النايلون التي تطير في شوارع القامشلي، أحب ذلك الطفل الصغير الذي ركض في شوارع كرصور كثيرا ونام في حضن أمه وحين استيقظ وجد نفسه وحيدا وكبيرا في امستردام..”

 يعي الشاعر أن التنقل في الحلم، هو نفسه تنقل في الذاكرة والمكان، وقبل كل شيء تنقل في اللغة التي تبدو وكأنها ثمرة من ثمرات الطفولة.. فالمكان دائما يرتبط بالأرض، والذاكرة  هي التي تمنحه ببصيرتها  امتدادا في الزمن والوجود.. يقول مجدا هذا  قي صورة تتسم بإيقاع المشهد .    

 

“حين أضع حقيبتي على الأرض وأسند ظهري لإلى جدار بيتنا الطّينيّ في كرصور، سأعرف أنني وصلت

قبل ذلك سأبقى غريباً في بلاد الآخرين”.

لا تقتصر رمزية المكان على فضاء الجغرافيا فحسب، بل  تتحول في كثير من النصوص،  إلى شكل من أشكال المعرفة ، معرفة الذات والعالم معا.. كما أنه طاقة  حافزة على التخييل، والتعاطي مع الواقع  في ثوب الأسطورة. وهو ما يبدو لافتا في وصف مفردات المكان، ومحاولة آنسته، في جمل حوارية خاطفة.. مثلما يقول في نص بعنوان “كردستان”:     

“الطريق إلى كردستان بعيد. يا بني قالت جدتي كوجوي وهي تمسك بيدي. حدود وجندرمة وأسلاك شائكة وحقول ألغام .ولكن في النهاية أشجار توت قبل قلعة ماردين وثمة فارس نائم وقربه امرأة جميلة مم وزين.الطريق طويل يا بني يبدأ من قلبك وينتهي في قلب أرارات” .

 تحت وقع الحرب بمأساتها وكوارثها تفارق الذاكرة الحلم، وتتسع المسافة بينهما، فالذاكرة كائن حي والحلم أيضا.. لكن في الحرب، من العبث أن تنتظر وردة  تنمو في فم قذيفة، أو شمسا تشرق من أشلاء الضحايا.. الحرب لا تربح سوى جوعها ولا ذاكرة لها سوى الخراب.. وهو ما يجسده الشاعرة في لقطة شديدة الحساسية والشعرية قائلا :    

 “حديد الدبابة التي قصفت هذا البيت

ربما تمر قربه بعد سنوات ولن تتذكر شيئا

تلك ذاكرة الحديد”.

 

 

مقالات من نفس القسم