محمد فرحات
عند قراءة ديوان الشاعر خالد السنديوني “مرارًا وتكرارًا”، يجد القارئ نفسه متورطًا في تجربة شعرية ذات طابع حداثي، لكنها تمتد بجذورها إلى إرث شعري متعدد المشارب، فتغدو النصوص أشبه بجسر بين تقاليد الشعر الغربي والعربي، تجمع بين التأمل الفلسفي والصورة الشعرية المتدفقة.
يتجلى هذا الامتزاج حين يلمح القارئ ظلال ت. س. إليوت في البنية الحداثية والتناص الثقافي، لكنه في الوقت ذاته يسمع صدى الرومانسيين الإنجليز مثل كيتس Words are like leaves; and where they most abound,
Much fruit of sense beneath is rarely found، وكولريدج في استبطان الحلم وتأملاته العميقة، تمامًا كما يجد في لغته العذبة التي ميزت شعراء الرومانسية العربية مثل ناجي وأبي شادي، حيث الشوق والاغتراب يتقاطعان مع أبعاد وجدانية غائرة.
نصوص السنديوني تستدرج القارئ إلى فضاء شعري تتماهى فيه الأحلام مع الواقع، فتبدو الحدود بينهما واهية، كما لو أننا في مشهد من قصيدة كيتس “نشيد العندليب” Ode to a Nightingale:
“Was it a vision, or a waking dream?
Fled is that music:—Do I wake or sleep?”
فهنا تتبدى ذات الشاعر بين وعي شفيف يحاول القبض على لحظة الجمال الخالص، وبين يقظة مؤلمة تفرض قسوتها على المشهد. ويكاد هذا الإحساس نفسه يتردد عند السنديوني، إذ تتلون قصائده بمزيج من الغنائية الحالمة والانكسارات الواقعية، وكأنه يسير في خطى إبراهيم ناجي حين قال:
“يا فؤادي، لا تسل أين الهوى
كان صرحًا من خيالٍ فهوى”
مع كل قصيدة، يتعمق القارئ في متاهة من الدلالات، متأرجحًا بين نشوة الشعر ومرارة الحقيقة، حتى يصل إلى القصيدة الأخيرة، حيث يتلاشى الحلم تمامًا، ويجد نفسه في مواجهة واقع جاف لا فكاك منه. لحظة الإفاقة هنا أشبه بتجربة الانعتاق القاسي في نهاية “الأرض الخراب” لإليوت، حين ينتهي كل شيء بصوت متهدج يكرر:
*”Datta. Dayadhvam. Damyata.
Shantih shantih shantih”
بهذه البنية المتشابكة، ينجح السنديوني في خلق تجربة شعرية لا تقتصر على الانفعال اللحظي، بل تتسرب إلى الوعي ببطء، ليظل أثرها ممتدًا حتى بعد إغلاق الديوان، كأن القارئ قد استيقظ لتوه من سكرة الشعر، متورطًا في واقع أكثر قسوة مما كان عليه قبل القراءة.
عند مقاربة التجربة الشعرية لخالد السنديوني، نجد أنفسنا أمام بنية لغوية تتجاوز حدود التلقي التقليدي، إذ يتحرك خطابه الشعري ضمن مساحات نصية تفاعلية تستدعي مفهوم “التعدد الدلالي” Polysemy، وهو ما يمنح القارئ حرية التنقل بين مستويات النص المختلفة، وفقًا لآليات القراءة التأويلية Hermeneutics.
تُشكّل نصوصه فضاءً ديناميًا يتقاطع فيه “النص المتناهي” Finite Text و”النص اللانهائي” Infinite Text، وفقًا لمفهوم رولان بارت، حيث لا يتوقف المعنى عند حدود محددة، بل يتوالد باستمرار عبر انفتاح النص على تأويلات متعددة. وهكذا، فإن تجربة القراءة أمام هذا الشعر لا تستقر عند دلالة بعينها، بل تتسع في فضاء تداولي يجمع بين الانزياح الشعري والتموج الدلالي، مما يجعل النصوص أشبه ببنيات مفتوحة، تتولد فيها المعاني وفقًا للحالة الإدراكية للقارئ.
إن الطابع التوليدي Generative nature لقصائد السنديوني يعكس وعياً شعرياً يتحدى المألوف، إذ يعتمد على تفكيك أنساق الخطاب المعياري، ويعيد تشكيله في ضوء رؤى تتقاطع مع السرد الشعري Narrativity، دون أن تفقد القصيدة هويتها ككيان جمالي مستقل. وبهذا، يتحقق للنص بُعده الحواري Dialogism، الذي يسمح بتداخل أصوات متعددة داخل بنيته، مما يمنحه بعدًا تداوليًا Pragmatic يتجاوز أفق التجربة الذاتية إلى أفق التأمل الكوني.
بهذه الديناميكية، يقدم خالد السنديوني تجربة شعرية تتحدى التوقعات، متكئة على الوعي النقدي الذي يجعلها قابلة لإعادة القراءة وفق منظور لا نهائي من الاحتمالات التأويلية، حيث تنشأ جدلية بين القارئ والنص، تُعيد تشكيل معناه باستمرار.
يتميز خطاب خالد السنديوني الشعري بحركية داخلية تجعله قابلاً للتأويل المتعدد، فهو لا يقدّم نصًا مغلقًا، بل يترك فجوات دلالية تسهم في تفاعل القارئ مع النص، تمامًا كما أشار إيزر إلى دور “القارئ الضمني” في تشكيل المعنى. هذه الطبيعة التفاعلية تجعل قصائده أشبه بمرايا تعكس حالات وجدانية متباينة، فتارةً يجد القارئ نفسه في أجواء التأمل الفلسفي التي تستدعي روح ووردزوورث حين قال:
“Fill your paper with the breathings of your heart.”
وتارةً أخرى يتوه في متاهات الحلم والتداعي الحر التي تحمل صدى الرومانتيكية الحالمة عند كولريدج.
لكن ما يميز تجربة السنديوني حقًا هو قدرته على خلق “النص المتجاوز” الذي يجمع بين التراثي والحداثي، حيث تتجاور الغنائية مع التجريب، ويشتبك الحلم مع الواقع بطريقة تجعله قريبًا من حساسية الشعراء الرمزيين. ففي بعض قصائده، يتشكل النص عبر صور مشهدية متراكبة، أشبه بما أبدعه رامبو في قصيدته “المركب السكران”، حيث ينجرف المتلقي مع تيارات الصورة الشعرية، فلا يدري إن كان يطفو على سطح الواقع أم يغرق في لجج المجاز.
ومثلما نجد في شعر ناجي وأبي شادي نزوعًا إلى البوح العاطفي الممتزج بتأمل الوجود، نجد عند السنديوني إحالات واضحة إلى هذه النزعة، ولكنها تأتي في سياق أكثر تركيبًا، حيث يصبح الشعور مجرد مدخل إلى شبكة دلالية أوسع. إن قصيدته الأخيرة في الديوان تمثل لحظة انكشاف مؤلمة، لحظة سقوط الأقنعة وبقاء الحقيقة وحدها، وهو ما يعيد للأذهان إحساس كيتس في “قصيدة إلى الخريف” حين يخاطب الزمن قائلاً:
“Where are the songs of Spring? Ay, where are they?
Think not of them, thou hast thy music too.”
هكذا، يمضي القارئ مع شعر السنديوني بين نشوة التأمل وغصة الإدراك، بين حلاوة الحلم ومرارة اليقظة، حتى يجد نفسه، مع آخر سطر في الديوان، في مواجهة ذاته، متسائلًا: هل كان كل هذا حلمًا؟ أم أنها الحقيقة التي تأخر في رؤيتها؟
…………………….
*هذه الكلمات مأخوذة من نهاية قصيدة “الأرض الخراب” لـ ت. س. إليوت، وهي مستوحاة من “الأوبنشاد” (النصوص الفلسفية الهندوسية). يمكن ترجمتها كالتالي:
Datta: “أعطِ” (إشارة إلى العطاء والتضحية).
Dayadhvam: “تحلَّ بالشفقة” (إشارة إلى التعاطف والرحمة).
Damyata: “تحكَّم” (إشارة إلى ضبط النفس والسيطرة على الرغبات).
أما “Shantih shantih shantih”، فهي تعني: “السلام، السلام، السلام”، وهي خاتمة تقليدية تُستخدم في النصوص الهندوسية والبوذية، تعبيرًا عن السكينة والطمأنينة الروحية.