أمل سالم
“كل شيء يا صديقى مشروع في الحب وفى الحرب”، لم تكن عبارة عادية وردت في رواية، لكنها جاءت بمثابة قانون، قانون في الحياة، وقانون في هذه الرواية؛ نقرأه بين سطورها، ونجده مضمر بين أحداثها، ثم يتحكم في كتابة خاتمتها بدقة مفرطة. ففي روايته “جرَّاح وكاتب أغانٍ” الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، ضمن سلسلة أصوات أدبية، للعام 2023، يحاول الكاتب تقديم عددا من الأفكار الكبيرة أولا، ثم طرحها للنقد والمراجعة، عبر عدد قليل من الصفحات، ذلك عن طريق التماس السردي معها، وتحويلها من مفهومها السياسي والاجتماعي الجاف إلى بنية سردية سهلة البحث ثم التقبّل والتلقّي؛ فالرواية التي تقع في خمس وتسعين صفحة تتناول قصة طبيب جرَّاح ماهر يهوى الكتابة، وينتظر عبور الحاجز المادي للتفرغ للكتابة، ولهذا الجرَّاح صديق كاتب غريب الأطوار، معاق على المستويين؛ البدني، والعقلي. وكان الجرَّاح في زيارة لصديقه المعاق عقب تعافي الأخير من آثار حادثة سيارة. وكان الهدف من الزيارة تسجيل الجرَّاح لكل ما حدث لهذا الكاتب المعاق؛ بغية استخدامه في صياغة إحدى القصص التي يرغب أن تكون غير عادية.
هنا نجد أن الرواية أتت في مقطع واحد؛ فلا فصول فيها، ولا مقاطع تفصل أحداثها عن بعضها. إنما هي مقطع واحد، متراتب، تأتي أحداثه تترى عبر التداعي الحر؛ حيث تم استخدام التعبير بالسرد عن محتويات الوعي دون أي رقابة تذكر –الانتقالات بين الأحداث تشير بجدية إلى انتفاء الرقابة- لمعرفة وإدراك واستخراج العمليات الحادثة في اللاوعي. وهذا حسب التحليل النفسي لفرويد وما ورد في كتابه “تفسير الأحلام” لتبيين التداعي الحر.
وقبل الدخول إلى عالم الرواية وجب أن أشير إلى غرابة في العنوان؛ يتضح عند قراءة المقطع التالي من الصفحة الخامسة في الرواية، إذ يقول الجرَّاح واصفا غريب الأطوار: (وقال يهجونى: “جرَّاح وكاتب أغانٍ، ومجروح وجراحه شكل تاني”). ويتضح أن المقطع بالعامية المصرية، فمن المفترض إذن، وحفاظا على القافية، أن تكون: (جرَّاح وكاتب أغاني، ومجروح وجراحه شكل تانى”)، ويذكرنا هذا التصحيف –من العامية إلى الفصحى- بواقعة المجموعة القصصية الأولى ليوسف إدريس، وهي: “أرخص ليالي”، والتي رفض تصحيحها لتصبح: “أرخص ليالٍ”.
-السرد المتضمن
برغم أن الرواية تتبع البنية الخطية، التي هي أقرب إلى بنية القصة القصيرة من بنية الرواية، حيث تُقوم الرواية على سارد واحد، وهو هنا سرد على التوازي عبر قصتين؛ الأولى: قصة الجرَّاح وتعليقاته التي مثّلت الانتقاد الحاد لقناعات الكاتب غريب الأطوار. الأخرى: وهي، الأهم والأعم، قصة الشخصية المحورية، الكاتب غريب الأطوار، وفيها أجاد رسم الشخصية على المستويين؛ الخارجي: فقد وصّف البنية الجسدية تماما، من حيث السن، وتأثير انحناء الرقبة، وتيبس العمود الفقري. والمستوى النفسي: من حيث الخلل النفسي والعقلي، كما دعم تردي الحالة الصحية بأسماء الأدوية الصحيحة، وكذلك جرعاتها حسب وصف الطبيب وتطورات الحالة، وهذه دراسة طبية تحسب للكاتب. إلا أنه استخدم أيضا سرديات ما بعد الحداثة، فهناك السرد الضمني الذي جاء في مجموعة الكراسات/ الأجندات التي كان يقرأها الجرَّاح أثناء نوم/ غياب الشخصية المحورية وهي الكاتب غريب الأطوار، وهناك مصفوفة للسرد نجدها في الحكايات التي يتطرق لها السارد أثناء قراءة مدونات الكاتب عن قصة إصابته وأشياء أخري، وجميعها خدمت أحداث القصة كثيرا، وخلت تماما من فائض الكتابة. وأحد هذه المصفوفات السردية ما يمكن أن نطلق عليه “السرد الورائي”؛ إذ نعتبر وجود خطاب يتمركز حول فرضيات مسبقة، وهذا الخطاب لا يسمح بالاختلاف معه، كما أنه لا يعطي الفرصة لتعدد الآراء ووجهات النظر، ويُقصر هذا الخطاب المعرفة والحقيقة على ذاته فقط، هذا ما ناقشته الرواية في أكثر من موضع، فحين يقول السارد، في صفحة 25، على لسان الكاتب غريب الأطوار: (وأرغب في تحطيم التاريخ الرسمى، وأحاول كتابة تاريخ للأفكار الفلسفية … كذلك أرغب فى الإشارة إلى البداهات ومعارضتها الدائمة للحقائق الوجودية… وأرغب كذلك في تمييز الأوهام عن الحقائق، وتمييز السحر عن العقل والأحلام عن الكوابيس.) فهذا مثل واضح على نسق من الأنساق المضمرة التي تتماس مع محاولات الاشتباك مع السرديات الكبري، تلك التي تقف خارج الزمن، وتقاوم التغيير والنقد والمراجعة، مثل هذه السرديات التي تتسلل إلى الوعي الثقافي وتشكل المعرفة القبلية للمجتمعات.
ناقشت الرواية ذلك عبر السرديات الجانبية؛ نذكر منها قصة الفتاة الإفريقية صاحبة واقعة النصب عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وكذلك مراجعة الطبيب في جرعات العلاج وعدم إلتزام الكاتب غريب الأطوار بتوصيات الطبيب، وقد اتضحت هذه السردية النقدية حتى في عناوين الأجندات؛ فمثلا: “الحكمة بأثر رجعي”، “وأحلام تحت الحراسة”، فالحلم في حد ذاته -طبقا لمفهوم الرواية- تجلٍ فائق على الحقيقة المبهمة الرافضة للمراجعة.
-مراجعة الأنموذج
إن فكرة استدعاء الأستاذ لم يكن الهدف منها تبجيله بقدر ما هو مناقشة التقنية، وإعادة استخدامها، وتدويرها دون الوقوع في منطقة التناص؛ فهناك شرح لكتابة الأحلام عند الأستاذ، هذا الشرح جاء متضمَّنا احتوائها على رسائل أيديولوجية وصفت تلك بأنها خلاصة تجاربه في الحياة، بالإضافة إلى احتوائها على الأفكار المستمدة من دراسته الفلسفية، وإن الأحلام التي يكتبها الكاتب غريب الأطوار: مجرد ترهات، هذا كان رأي الجرَّاح، بينما استباح الكاتب غريب الأطوار استخدام تقنية الأحلام دون شعور بتعدّيه على الأستاذ.
كما أن اختلاف التلقي بين الإشادة بأحلام الأستاذ تارة، والإشادة بأحلام الكاتب غريب الأطوار تارة أخرى، يكرس فكرة: “دحض فكرة الأنموذج” في الكتابة. ودليل على ذلك العبارة التي وردت في صفحة 18، وهي (آفة العلم النسيان)، وهي جملة نسبت للنسابة البكري الجاهلي، وهي معارضة صريحة لعبارة شبيهة في فكرتها وردت في رواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ، وهي: (لكن آفة حارتنا النسيان).
وهنا يجدر بنا الإشارة إلى أنه لا أسماء حقيقية مطلقا في هذه الرواية، فلا ذكر لاسم الأستاذ، وتم تركه للقارئ يستنتجه هو، ولا اسم الجرَّاح، ولا اسم الكاتب غريب الأطوار؛ مما يعني قصديّة التعميم، وعدم حصر القضايا المطروحة للنقاش في وجهة معينة، والاسم الوحيد الذي ذكر هو اسم شهرة؛ كما يبدو من لفظه، وهو: “الجنتل”، وقد اختير بعناية لوصف رجل يفتقر تماما لهذه الصفة حسبما رُسمت الشخصية عبر أحداث الرواية.
يذكر أن مناقشة ضمنية لطريقة التفكير السلفيّة تطرقت لها أحداث الرواية؛ وأعني هنا طريقة التفكير التي تعمل على ابطال العقل، والتخلي عن إعماله، والإيمان بالموروث دون مناقشته، والانتهازية المضمرة في الإيمان به، وختاما فهي مورثة من الأب للجرَّاح؛ ففي صفحة 17، يقول على لسانه: (أنا دائمًا ما أؤيد كل مواقف الدولة؛ لأن الدولة ورجالها كثيرًا ما يؤيدوني. ولدى أمل كبير…أن أترقى فى عملى، حتى أصل إلى أحد المناصب الكبيرة … كانت آراء صاحبنا المعارضة للحكومة والنظام، تثير حفيظتى … وأنا دائمًا ما أجد نفسى فى موقف المؤيد لسياسات النظام والحكومة، هكذا علمنى أبى رحمه الله)
-استدعاء الأحلام
يمكن أن نقول بحرفية الروائي في هذه الجزئية، فطرحه لفكرة كتابة الأحلام، التي بدأها الأستاذ، ثم مارسها –حسب الرواية- خمسة كتّاب بعد ذلك هي بمثابة المدخل لعالم التداعي الحر في السرد، الهدف الظاهر منه: مناقشة تقنية معينة من تقنيات الكتابة، والهدف الخفي: استدعاء ما يمكن مناقشته من أفكار ثابتة، عبر الرواية كما سنري بعد قليل، ووضعها تحت المساءلة والنقد والمراجعة.
-مساءلة الخطاب
وإذا أمّنّا أن الخطاب هو منهج في البحث في المواد المُشكَّلة من عناصر متميّزة ومترابطة سواء أكانت لغة أم شيئا شبيها باللغة، ومشتمل على أكثر من جملة أوليّة، أو أيّ منطوق أو فعل كلامي يفترض وجود راوٍ ومستمع وفي نية الراوي التأثير على المتلقي، أو نص محكوم بوحدة كلية واضحة يتألف من صيغ تعبيرية متوالية تصدر عن متحدث فرد يبلغ رسالة ما، فإن الرواية تشتمل على أنماط مختلفة من الخطاب، وضعت تحت المساءلة بشكل تفصيلي، وكان الهدف منها: النقد الموجه لقناعات المجتمع غير المنطقية.
فتناول موضوع الجوائز بدأ مع بداية الرواية منذ الصفحة الأولى، ثم عُرِّج عليه أكثر من مرة، وفي نهاية الرواية تم تعريته كاملا؛ ففي صفحة 93، يقول الجرَّاح بعد خسارته جائزة الدولة التشجيعية، وفوز الكاتب غريب الأطوار بجائزة التفوق: (إن هذه الجوائز المحلية إما أنها تعطى على سبيل المجاملة والترضية، وإما أنها تعطى لمرضى العقل، وأصحاب العاهات الفكرية والجسدية. أو أنها تتم كنوع من تبادل المصالح.)، وفي هذا نقد لظاهرة تم تداولها بالانتقاد كثيرا في الأوساط الثقافية والإبداعية.
كذلك تناوله لمسألة الجمعيات الأهلية، والانحراف بها عن مسارها المفترض، الذي هو خدمة المجتمع في مناح معينة، إلى خدمة افراد بعينهم، يسيطرون عليها؛ فرئيس الجمعية الذي ظل يشغل موقعه لمدة تزيد على ثمانية عشر عاما هو مثال للاستئثار بالسلطة، والتمسك بمقعده منها، والصراع من أجله. ثم أن هناك الصراع بين أفراد هذه المؤسسة، التي هي مثال لمؤسسات كثيرة من أجل استغلالها للمصالح الشخصية، كل هذه ينطوي تحت النقد الاجتماعي.
أما عن ظاهرة التعاطف الاجتماعي مع المخطئين؛ بدعوى التسامح وعدم التسبب في ضرر الآخرين، فنجد أنها تكررت كثيرا؛ فنجد أن أمين الشرطة سلَّم السائق الذي ارتكب الحادثة رخصة القيادة، رغم كونها منتهية الصلاحية، وهذا مخالف للقانون تم تمريره تحت غطاء ديني في غير محله! هذا ما انتقده السارد كثيرا.
الأكثر من ذلك أن حدثين في مترو الأنفاق تمّ توظيفهما –وبأسلوب تصاعدي- لمساءلة العديد من القناعات المجتمعية؛ فالحدث الأول: هو تبرع بعض الركاب لمساعدة الكاتب غريب الأطوار دون سؤاله ذلك أو احتياجه. والحدث الثاني: هو تتبع حالات التسوّل في المترو، وكيفية احتيال المتسولون على الركاب لاستعطافهم. ويحكم هاذين الحادثين قاعدة جاءت على لسان السارد؛ ففي صفحة 16، يقول: (وأضاف قائلا إن الأمر بهذه الصورة يجعل من هؤلاء البسطاء، وهم الغالبية العظمى من الشعب المصرى، ينقادون بسهولة لأغلب محاولات التضليل التي يتعرضون لها من مختلف القوى. سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو حتى دينية).
ثم أن السارد اسهب كثيرا في استعراض محاولات التضليل تلك، ثم أنه حللها وأرجعها إلى أسبابها الأولية، ففي صفحة 78 يعود تارة أخرى إلى البسطاء، فيقول🙁 إن الشباب البسطاء الذين يتعاطفون مع هؤلاء المتسولات، يتصفون بالعاطفية المسرفة والرومانسية… وإلى جانب ذلك يتميزون بمشاعر دينية عميقة… لذلك يصبح من السهل تضليلهم تحت مظلة الشعارات الدينية التى تستخدم بسوء نية)، وقد اُستخدمت مفردة “البسطاء” في الرواية خمس عشرة مرة، كانت في جميعها تؤسس، وفي عملية تصاعدية، للوصول إلى تأويل لظواهر سلبية ترتبط بمفهوم ديني موظف في غير محله، وبصورة خاطئة وانتهازية.
يتبقى أن الصراع الضمني بين الشخصيتين –الجرَّاح، والكاتب غريب الأطوار- يفوز به الكاتب غريب الأطوار، لما له من مجموعة أفكار تعتمد مساءلة الواقع والموروث، والدليل فوزه بجائزة التفوق، وأيضا زواجه من المرأة، التي تصارعا على حبها، بعد فسخها للزواج العرفي من الجرَّاح.