مدخل لمحاولة كتابية حول تجربتي الشخصية

تغير العلاقات تحت شجرة العائلة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أمجد ريان

     نشأت في أسرة متواضعة من الطبقة المتوسطة الصغيرة، فقد بدأ والدي مدرساً للغة العربية، في مدرسة “سراى القبة” الثانوية للبنات، وظل يترقى، حتى صار موجهاً للغة العربية في مديريات التربية والتعليم بالصعيد، ثم موجهاً أول، حتى حصل على منصب موجه عام اللغة العربية في وزارة التربية والتعليم.   

     كانت أسرتنا فقيرة ـ كحال طبقتنا كلها ـ أو بمعنى أدق، مترددة بين الفقر والاكتفاء، وبخاصة في بداية نشأتي طفلاً، ثم بدأ الحال يتغير تدريجياً ولكن ببطء شديد، ولكن لم نصل أبداً إلى حال الثراء أو الرفاهية، وبالرغم من ذلك كان للقيم الأخلاقية مكان أساسي صارم في حياتنا، والحياد عنها يوجب العقاب القاسي، وكان أبي بشكل عام نموذجا للرجل التقليدي المحافظ، وبخاصة في الجانب الأخلاقي: ولهذه الصرامة بالطبع إيجابياتها وسلبياتها.

     كان أبي شاعراً وقد ورث عن أبيه (جدي) مكتبة كبيرة قيمة من كتب التراث الأدبي والديني، ورثتها من بعده، بعد أن تخرجت من قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة القاهرة وحصلت بعد ذلك على درجتي الماجستير والدكتوراه. ويبدو أن التحاقي بتلك الكلية كان تواصلاً واستمراراً لكون أبي متخرجاً من القسم ذاته والكلية ذاتها. وكان قد تتلمذ على يد الدكتور طه حسين، وورث عنه ـ ككل تلامذة د. طه – عزة النفس الشديدة، والتقديس للعلم والأخلاق، والنزوع للتجديد في حدود رؤية العصر. 

     ونشأت أنا في القاهرة، في حي منشية البكرى، وحصل والدي على ترقيته ليصبح موجهاً للغة العربية شريطة أن يقبل النقل لمديريات التربية والتعليم في الصعيد في أكثر من محافظة حتى انتهى بنا المقام فى محافظة قنا، قبل أن يعود عودته النهائية للقاهرة . وقد تربيت التربية التي عهدها أبناء جيلي جميعاً ـ بين القيم التقليدية المحافظة من ناحية، والحلم بالحرية والتحقق الإنساني الحر من ناحية أخرى ـ وكان عليّ أنا وأبناء جيلي أن نتحمل النتائج القاسية لهذا التضاد . 

     حياتي كلها وحياة أبناء جيلي مبنية على التضاد، والمفارقات الاجتماعية الحادة، على كافة المستويات: اقتصادياً وثقافياً وأدبياً. ومن الأمثلة شديدة الوضوح على ذلك، أن والدي رباني ـ مع إخوتي ـ تربية تقليدية وكان منها أنه أشربني التراث العربي في مجال الشعر، عندما لاحظ ميلي للأدب وللكتابة الشعرية، وكان يقضّي معي سهرات يشرح لي فيها معلقة “طرفة بن العبد” أو يقرأ لي واحدة من قصائده شارحاً مضامينها وجوانبها الجمالية. ومن جانب آخر (مضاد) تعرفت في هذا التوقيت نفسه بالشاعر “ممدوح بدران” (المسئول الثقافي بقصر ثقافة قنا) والذي سيمثل الوجه الآخر العكسي لما قدمه والدي، فقد كان حداثياً مفرطاً في حداثيته، وتجمعنا حوله أنا وثلاثة شعراء شباب من قنا، “حمدي منصور” و”عطية أحمد” و”محمد عبده القرافي الأبنودي”، حيث فتح لنا باباً جديداً غيّر وعينا الثقافي تغييراً كاملاً، فعرَّفنا بالسريالية، وبالشاعر اللبناني “أدونيس”، وبالفنان التشكيلي “بابلو بيكاسو”. وأنشأنا مع “بدران” جماعة أدبية صغيرة، وقد جننت أنا وزملائي بهذا الجو الثقافي الجديد.   

     وقد تصادف في التوقيت نفسه أنني كنت أقلّب في مكتبة والدي، فوجدت كتاباً صغيراً مهملاً بشدة، ويبدو أنه قد اشتراه من باب سعيه لاقتناء كتب الشعر بشكل عام، ولكن هذا الكتاب غيَّر حياتي وعقلي ومعارفي وكل ما أنتمي له، وهو ديوان “عشرون قصيدة حب، وأغنية يائسة” لـ”بابلو نيرودا”، وقد أثّر فيّ هذا الديوان تأثيراً هائلاً جعلني أتمرد على نمط من الحياة والثقافة والشعر، وأبحث عن ذاتي من خلال نمط آخر شديد الاختلاف. 

     انتقل والدي بعد ذلك إلى القاهرة، لينتظم في عمله بوزارة التربية والتعليم، وتقدمت أنا بعد امتحان الثانوية العامة إلى كلية الآداب بجامعة القاهرة، لأدرس في قسم اللغة العربية، وقد درّس لي أستاذ جامعي مرموق هو الدكتور “عبد المنعم تليمة” الذي أحس بحماستي غير العادية للأدب وللشعر العربي – تراثاً وحاضراً – في أثناء دراستي. 

     وبعد أن تخرجت من الكلية، دعاني لأحضر ندوته الأسبوعية في بيته بالدقي، وقد انتظمت بالفعل في حضورها، وظلت الصداقة مستمرة إلى النهاية، وقد درّس لي أيضاً الدكتور “جابر عصفور”، والدكتور “عبد المحسن طه بدر” والدكتور “نصر حامد أبوزيد” قد كان وقتها معيداً، ومن قبلهم أستاذتهم جميعاً الدكتورة “سهير القلماوي”، وقد درّست لي المادة التي أحببتها لدرجة العشق:”الأدب المقارن”، وقد ساعدتني د. “القلماوي” بشكل كبير وأنا أعدّ لرسالة الماجستير. 

     بدأت أوسّع نشاطي الثقافي، وعرضت قصائدى على الشعراء والمثقفين في مقهى “ريش”، فعرَّفوني بالناقد “فاروق عبد القادر” الذي انبهر بآخر قصيدة كتبتها في هذا التوقيت، وكان اسمها: “المسبحة”، ونشرها في الملحق الأدبي لمجلة: “الطليعة” التي كان يرأس تحريرها: “لطفي الخولي”، وقد اشتهرت هذه القصيدة كثيراً بين أبناء جيلي ومثقفيه، وقد فوجئت في العام الماضي بأن الشاعر المجايل لي: “شعبان يوسف” يحفظ مقطعاً طويلاً منها. ثم تقدمت في هذا التوقيت للمثقف الكبير والروائي: “عبد الفتاح الجمل” وكان يشرف على الملحق الثقافي لجريدة المساء القاهرية، وكان هذا الملحق في ذلك التوقيت، يمثل قبلة لكل مثقفي مصر، وتقريباً لا يوجد مثقف أو مبدع جاد في هذه الفترة لم يقدمه هذا الملحق للحياة الثقافية له.  التقيت بـ”عبد الفتاح الجمل” في مكتبه، وقدمت له قصيدة للنشر

في “المساء” ولكن الرجل ـ بالمعنى المصري: “ما ادانيش وش” ـ وطلب منى أن أترك القصيدة أمامه على مكتبه ويبدو أنه استصغرني في العمر، وقد كنت وقتها بالفعل لم أكمل عشرين عاماً، وخرجت من عنده غاضباً حزيناً، لأنه لم يهتم بي، ولكن في يوم صدور الملحق الثقافي للمساء كان معي “قرش صاغ”: إما ان أشتري الملحق أو أتعشى ففضلت ـ كالعادة – أن أشتري الملحق وليس في ذهنى على الإطلاق أن تكون قصيدتي قد نشرت. ولكنني فوجئت بالأمر المذهل: قصيدتي منشورة بامتداد الصفحة وعنوانها مانشيت ببنط كبير كثيف، فذهلت.. وظل هذا الذهول ملازماً لي في حياتي، كلما تذكرته. ونشر لي بعد ذلك “الجمل” مجموعة من القصائد في ملحق المساء.

     وتعرفت بعد ذلك بالشاعر “صلاح عبد الصبور” رئيس تحرير مجلة: “الكاتب”، وقد نشر لي فيهاً عدداً كبيراً من القصائد، وقدمني في البرنامج الثاني بالإذاعة المصرية (البرنامج الثقافي حالياً) متحدثاً عني قبل أن اقرأ قصائد لي في حلقة مطولة، والتقطنى “كمال ممدوح حمدي”  و”شوقي فهيم” لأعمل معهما في البرنامج الثاني (البرنامج الثقافي حالياً) شاعراً وكاتباً لبعض البرامج الثقافية.

    وأهم تعارف لي في هذه الفترة كان بالشاعرين المرحومين: “علي قنديل” و”حلمي سالم”، وقد جمعتنا لقاءات كثيرة وقد كنا نلتقى عبر أوقات أطول بكثير من وجودنا مع أفراد أسرنا، وأقام المركز الثقافي السوفيتي (المركز الحالي) ندوة شعرية ضمت ثلاثتنا، وفوجئنا عندما دخلنا إلى قاعة الإلقاء بأكبر جمهور شعري لندوة من ندوات الشعر الحداثي فقد كانت القاعة السفلى مكتظة بالحاضرين الذين ظل عدد كبير منهم واقفاً لامتلاء المقاعد عن آخرها، وكذلك الشرفة العليا كانت أيضاً كاملة العدد، ويذكر كثير من أبناء جيلنا هذه الندوة المهمة التي كانت في سبتمبر عام 1976، والتي عدّها بعض النقاد الإشارة الأولى لبداية تدفق الشعر السبعيني الحداثي في مصر. وظللت أنا والشاعران الكبيران، نحلم بإصدار مجلة شعرية قادرة على التعبير عن تجربتنا، وتجربة شعراء جيلنا. 

     لقد بدأت الثقافة في هذا التوقيت تتبنى الحداثة، وطرح السبعينيون معنى التعدد فى السياسة وفى الفكر والأدب، وكان التعدد هو منطق العصر، فعلى المستوى السياسي، كان هناك تعدد للأحزاب، وعلى المستوى الفلسفي كانوا ينادون بحرية التأويل، وعلمياً احترم العلماء تعدد النظريات العلمية في تفسير الظاهرة الواحدة، وهكذا. وعلى هذا فالتعدد الشعري كان مطلباً يتوافق مع ظروف المرحلة بكليتها. 

     كان المثقفون والمبدعون في السبعينيات يتبادلون الرفض مع السلطة الثقافية، التي كانت ترفض كتاباتهم، وكان الحل الذي يمثل رد الفعل الطبيعي المباشر، هو تكوين الجماعات المستقلة لأنها ستكون فرصة لحماية إبداع الشعراء فكرياً وجمالياً، واشتهرت في هذه المرحلة جماعتا (إضاءة وأصـوات) الشعريتان. كما اهتم المبدعون بالأيديولوجيا وأعلن شعراء مجلة “إضاءة 77” في مقدمة العدد الأول من مجلتهم: إنه على الشاعر أن يكون صاحب موقف أيديولوجي محدد، ولكن يعبر عنه من خلال قانون الفن الشعرى بالأساس. وحدث في هذه الحقبة أن سافرت للصعيد لألتحق بالخدمة العسكرية، وبعد أن عُدْت بعد سنوات للقاهرة شاركت في تحرير مجلة إضاءة بداية من العدد الثالث، ونشرت بها مجموعة من قصائدي ودراساتي.

     الرؤيا الحداثية تتجاوز الأحادية الفقيرة، وتخلق نوعاً من الحوار مع التراث العربى والإنسانى. وكانت هناك استفادات واسعة من فكر “ماركس” ـ “بيكاسو” ـ “سان جون بيرس”. ولم يعد شعراء السبعينيات يحتاجون للأوزان الشعرية التى صارت تسبب هذه الحالة من الترهل الشعري، وكتبوا قصيدة النثر الجديدة ذات المرجعية العربية والتراثية، وهي تختلف عن قصيدة الشعر المنثور التي كتبها “حسين عفيف”، وتختلف عن قصيدة النثر التي كتبها شعراء جماعة شعر في بيروت ذات المرجعية الغربية. إذن ليس هناك معنى واحد لقصيدة النثر، ولكن هناك قصائد نثر عديدة. وفي عقد “الثمانينيات”، بدأت الذات بالمعنى الشخصاني ـ في الإبداع الشعري تؤكد نفسها، وبعض تجارب شعراء هذه الفترة كانت لديهم خصائص جمالية يمكن أن تنتمي للمرحلتين السبعينية والثمانينية معًا.

     وبداية من “التسعينيات”، حدثت التغيرات الجمالية والشعرية الجذرية، في إطار التحول الاجتماعي والفكري كله، حين بدأنا ننتقل إلى دنيا جديدة، في عالم الإعلام والإعلان والتقنية والنـزعات الاستهلاكية.  وأصبحت الرؤى الجديدة  تستوعب ثقافة الماضى بكافة تشكلاتها وتياراتها، وثقافة الحاضر فى الوقت نفسه، لذا فالشاعر وقتئذ يمكن أن تتجاور فى كتابته معطيات رومانسية وواقعية وحداثية ومابعد حداثية فى الوقت نفسه. 

     والكتابة الجديدة اليوم ترفض الأيديولوجيا، والحكايات الكبرى، بعد أن صار كل معطى يتسع ويتمدد، حتى ينفجر وتخرج مكوناته الصغيرة، التي تبدأ في الاتساع بدورها ثم تنفجر لتخرج المكونات الأصغر (وهكذا إلى مالا نهاية). وهي ظاهرة تتجسد أيضاً في كافة مجالات الحياة والفكر والثقافة. ومن هنا نفهم بداية الاهتمام بالجزئي والنسبي في الفكر وفي الإبداع، وكذلك الاهتمام بالعابر وبالمعيش وباليومي. 

     وفي دراسة منشورة لي أخيراً تحدثت بالتفصيل عن أنه بالتدريج بدأنا نصل إلى القضايا المرتبطة بالنص الشبكي الجديد أو النص المفتوح Hybertext، وبدأ مايسمى ببرمجة الأدب:

لكي يتعامل الإبداع مع الكمبيوتر، فيحدث هذا التمازج بين الأدب والتكنولوجيا، ليضاف عنصر رابع إلى تاريخ الأدب: (الكاتب – القارئ – النص، وأضيف: الحاسوب). وبدأنا في المرحلة الأخيرة نتعرف على قضايا رقمنة المعرفة، وبالتالي رقمنة الفن والأدب، ورقمنة النقد، في زمن تنتهي فيه أية ظاهرة، وتذوب لتختفي إذا لم تندرج في البرمجة الإلكترونية. 

…………………..

*تنشر هذه الشهادة بالاتفاق مع مؤتمر قصيدة النثر المصرية ـ الدورة السادسة

مقالات من نفس القسم