مختارات من “ناس وأحجار”

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 78
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ياسر عبد اللطيف

دنيا خلف البحر

إذا تذكرت كيف كانت تُلقي لك بفتات اهتمامها

تحت مائدة جسدها،

وأنت كيف كنتَ كجروٍ صغيرٍ

تنسكبُ على قطرات فاضت من وعاء اللبن لعقا،

وعند رحيلها،

 كيف ألقتك من على سلم الطائرة

كبرغوث طال الانتظار عليه،

مخلفةً في شرفة الوداع

مناديل سوداء ترفرف بحنين لمجيئها الذي لن يأتي،

وكفاً باردة تلوح لذيل الطائرة وهو يشق قرص الشمس؛

لاستطعت بقوة الموضوعية وحدها

أن تنحّيها خارجك.

وبإيمانك القديم أن الدول تحمل أسباب فنائها في ذواتها،

ستراها هناك، بين الثلوج، كمدينةٍ تعاني من الوحدة،

كلما هبط الليل عليها بشاربه الكثيف،

هرب الحب منها متسلقاً عمودها الفقري،

فتفتح حوضها لقرقعة العظام،

والطفرة الحضارية،

وتستعيد استمناءات طفولتها.

بينما أنت في إحدى غرف الغابة الصغيرة

تُطفأ كسيجارة في منفضة وسخة

على طاولة لا تتسع لكتابة القصص القصيرة،

تحاول محادثتها في حبل سُري يوصل بين عالمين؛

فلا يحضرك سوى صورة منها تحمل ابتسامة تشَف،

وصوت لجملة قالتها فيما مضى

كأغنية فرت بين موجات الإذاعة.

وبما يشبه الاستسلام تلم تجسداتها من المنافي القريبة،

كاسراً لديهن دهشة الغربة،

فيهدونك الورود الصغيرة،

وعبارات الاعتذار عن اتمام الجميل.

تحيا لا يبارحك وجع الفطام الثاني،

وتتحلل على أوراق لا يتغير لها مسار التاريخ،

ولا تنتهي أبدا بعلامات التعجب.

 

بداية الحمى

 

بينما كانت حرارتي ترتفع،

كنت أتجول في دهاليز نفسي،

مميزا من بينها:

دهاليز المدرسة، ودهاليز الجامعة،

دهاليز مترو الأنفاق، دهليز مقهى “ركس”،

ومقهى “فتحي”، وممر “زهرة البستان”

دهاليز حياتي التي قضيتها في الدهاليز..

 

وحدة الوجود

 

قطعة بيتزا دخلت رأسي بين النوم واليقظة،

وقصاصة جريدة، وسماعة هاتف؛

هكذا تسللت المعرفة..

وبينما كان الجبن يسيل على وجهي

طامساً ملامحه؛

وجدتني اتحول تدريجيا إلى شريحة جبن كبيرة،

تسيل بدورها على فطيرة بيتزا عالمية..

 

من شرفة العمل

 

أن أقفز من الدور الثامن

حالماً بأربع ثوان من الحرية

ولتنفجر رأسي بعد ذلك

وليحدث ارتطام جسدي بالأرض

كارثة إدارية

وليتجمع المارة حول جسدي

ويدثرونني بالجرائد

ويلمحون في كل ذلك لحظة ضعف غير مفسرة

أموت مطويا على سرها

ولا يدرك أحد كيف احتوى ذلك

على قدر من الشجاعة لم يتوفر لإيكاروس

لحظة ضعف – لحظة حرية

آه..

 

مدينة ماكس إرنست

 

قادم لتوي من دنيا الرمد والزكام

بجفنين ملتهبين وأنف محتقن

“المدينة بأسرها” عند أقدامي

قبة حمراء حولها الزهور الذابلة

ضريح قضيب ثبت لحظة قذف إلى الأبد

قادم لتوي من عالم لا يعوزه المورفين

صديقي… كيف رأيتها مثلي؟

 

العطلة

 

عجوز تنقل السكر من العلبة إلى الكوب

في رحلة الملعقة.

وعندما تتناثر بعض الحبيبات على الطاولة

كاحتياط غذائي للنمل،

سترتج الجدران لذلك الحدث.

حينئذ ستعرف العجوز أنها ليست “إلينورريجبي”،

وأنها لن تخلد في أغنية،

ولن يقام لها تمثال في أحد ميادين ليفربول.

تلك العجوز فكرة ظننت أنها ستنفخ فيّ من روحها،

فاستعارت لذلك منفاخ دراجة ولد الجيران

الذي فرَ من المدرسة، رمزاً للتمرد.

أرأيت خطورة تجسد الأفكار؟

تعلم إذن أن بين هذا الركام

تتولد الهلاوس الكافية لصنع نبي.

 

أنا الآن في القاهرة،

أسيرُ بين اقراص الطعمية.

أتلفت يمنة ويسرة، وأتذكر انسكابي من علٍ

لفضاء تسكنه القصائد الحزينة والتأوهات العاطفية.

أتذكر رهافتي بالأيام الماضية،

وقسوتي الفطرية التي فقدتها.

(يلزم للتراجع اكتساب قسوة جديدة

جربت نفسها في فطرات سابقة وهزائم مختلفة)

 

اللجوء من سراب لآخر تعليلاً للحياة.

جملة آخذها من آلاف الألسن وأصيغها بقلمي الخاص،

كشاب عمره ربع قرن قاهري له ظروفه الخاصة.

كطفل مدلل تشتري لي أمي كل صباح علبة سجائر،

فأذهب إلى العمل بقلب رجل، والطول المناسب لذلك.

بينما روحي الطفلة منسية في حقيبة المدرسة،

بجوار شطائر الجبن الأثيرة، والمجلات المصورة،

وأقلام الرصاص.

هناك، في قاع الحقيبة تقبع

كمجاز قابل دوما للاستدعاء.

لهذا كلما شممت رائحة الأدوات المكتبية

عاودتني الذكرى:

صفعة في الفصل..

أثداء المدرسة الشابة ترتج على إيقاع الطباشير..

آلاف القصص القصيرة المحصورة بين جرسين..

فكيف لي أن أُفَصل الذكرى لأحاسيس تتجاور،

دونما تصور لذلك النهر الجاري

الذي حفرت مجراه في هذه الفيافي

تعثرات روحي، وتيهها الدائم

بين الداخل والخارج.

آركيولوجي

 

بلاطة بيضاء وبلاطة سوداء،

تتشكل أرضية الردهة.

بنعومة يطؤها الخف المنزلي

 إلى حجرة المطالعة.

مكتبٌ خشبي عتيق

 سطحه من الجلد الأخضر الخشن،

تعبره الأصابع، وهي تقلب الأوراق،

فلا تنتبه لملمسه.

وباب الضوء على الحديقة، وسلم صغير،

درجتان او ثلاث،

ومكنسة من القش مهملة على العتبة.

نخلة قصيرة هي كل إرث الحديقة،

ومساحات نجيل منحول

هنا وهناك…

 

وينشق المكان عن صحراء

تموت بها اثنتا عشرة بقرة عجفاء؛

فينمو صفٌ من نخيل،

وتقوم جامعةٌ إقليمية مرصوف الطريق بحذائها،

ويتسع لمطريش وحيد أن يسير منعماً بدفء الحكمة.

ومع هبوب الخماسين، يفكر في جماليات للموت.

تلك سكرات تدوم عقوداً قبل أن يقرأها المفكرون

وينظمونها نظريةًللحياة..

الراقصون بجوار البحر،

والأجساد الأنثوية المغسولة بالبيرة والليمون؛

وحدي، مستقبلاً البحر،

أوليتهم ظهري، أدخن.

حتى في النزهات الخلوية يكون الموت حاضراً لنتأمله.

جميعاً، وكل منا بطريقته.

 

خارجون عن البيوت، بحثاً عن موت مؤجل.

فحكايا الموت خارج جدرانها،

أقل بكثير من حكاياه داخلها.

البيوت التي تخيلناها:

عُلباً للنوم، والجنس، والقراءة.

أفعال نتجاوز بها المكان.

البيوت التي لم توجد إلا لنتجاوزها.

البيوت غير موجودة إذن.

 

بيت قديم بشارع تاريخي،

علاقتي به تشبه الحسرة.

أقف على الرصيف المقابل

أتأمل الأفاريز والنوافذ،

وتغور عيني بزخارفه الباقية.

حبل غسيل شهد تعاقب أجيال من الملابس،

والأصابع التي عزفت على مشابكه لحن صعود المجتمع.

البيت الذي لو سكنته يوماً

لما رأيته كما أراه الآن.

فالبيوت كالأوطان والأصدقاء،

لا توجد إلا في افتقادها.

 

سأخرج إلى الصحراء كهارب.

وتحت شمس تذيب الجماجم،

ستنصهرُ حياتي الماضية؛

فأرى مستقبلي كسراب،

أو كفتاتين تردان الماء لأبيهما،

من بئر سورها من طين.

سأحرسهما من خلف،

وأرقب انعكاس الشمس الغاربة على حرير ثيابهما.

الأزرق والنبيذي:

بقعتا لون في بحر الرمال.

فرجتان أسفل الثوبين ـ في حركة بندولية ـ

تنفرجان عن السيقان البدوية.

أبوهما الشيخ سيحادثني في الميتافيزيقا،

فيزوجني الصغيرة صاحبة القدمين الصغيرتين،

وسراً أضاجع الأخرى…

عشر سنوات أرعى له قطعانه،

أذوق خلالها حباً رعوياً.

عشر سنوات أعود بعدها إلى المدينة،

حاملاً اتساع الصحراء بصدري،

وجديراً باختراق القانون الذي فررت منه..

 

الصراخ

 

عن العالم إذا ينشرخُ أمام الحدقة مباشرة.

عن وحيد وسط أكف تصفق،

يبدو في نهاية الرقصة الشعبية.

عن دجاج ضخم يتحدث في السياسة.

عن الصمت، والمقعد ينبض بدلاً من قلبك.

عن كل ما كتمنا عنه الصراخ، فتراكم صرةً

نحملها فوق صدورنا،

ولا ينحل رباطها، إلا إذا

خبط النوم رؤوسنا كمطرقة.

فينداح

 مصحوبا بأزيز الطائرات المجلوب من ذاكرة أفلام الحروب،

وأثر الصدمات الكهربائية في جلسات العلاج العصبي،

والروح المطمئنة التي ترجع…

 

الضحك

 

الابتسام الأسيان

والدموع التي تثلج بمآقيك

أعقاب القهقهات السوداء.

آخر درجتين أسفل السلم.

الضحكة التي شطرتها صفعة الباب،

وتقاسم زمنها ردهة البيت والسلم،

حيث تجوفت كأي ضحكة تتردد في العزلة.

 

كيشوت

 

أستطيع أن ابتدع دعابات يبكي الحجر لسماعها.

وأكرر أني أستطيع.

ولأنني رحيم كإله ناقص؛

سأتعمد غموضها حتى يتعذر فهمها على غيري.

وسأكتفي بتخيل بكائه

أمام ضحكي المتخيل بدوره.

وسيكون ذلك كافياً لتطهيره أمام عيني،

فأراه نظيفاً من ضعفه،

وأعرف أن ضعفي أقوى مما يتخيلون..

 

بعد قليل

 

أسقط على سطح بحيرة النوم

قطرة في وضع الجنين.

كالغوص في طينة الذات السوداء.

جملٌ مبتورةٌ وإطراقةُ رأس تنهي الكلام.

يا أبي أجل حديثنا فأنا الليلة متعب،

خرجت عند الغروب، دونما طعام.

وبللت الريقي الجاف بخبز يوحنا.

بنظرة واحدة أشرفت على الضاحية كلها،

من فوق جسرها القديم.

لملمت أجنحتي مترنحا بين عربات القطار

الهابط إلى المقاهي.

حضرت مراسم طلاقي وجرح بركبتي ينزف.

كانت زوجتي تصلي لي فاغتبط.

تقدم جسدها قربانا على مذبح ذكورتي،

فيسقط العالم بيننا كصنم للتوسط.

الآن أعود متخففاً من كل هذا،

ومثقلا بذكرياته.

خطوة أخرى

وأستطيع الحب..

ــــــــــــــــــــــــــ

1995

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم