مختارات من .. “فن التخلّي”

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الله ناصر

 

تاريخٌ آخر

 

 

ارتدّت الرصاصة التي تزن عشرين غراماً وتبلغ سرعتها خمسين ميلاً في الدقيقة بشكل مباغت إلى صدر القاتل. واستدارت الدبابات النازية من طراز ليوبارد زاحفةً عن عمد لتطبق حصارها على مدينتها الأم برلين. وعادت القنابل الذرية أدراجها في رحلة شاقة من هيروشيما وناجازاكي لتقصف واشنطن ونيويورك. والتفّ المنجنيق يرشق بسهامه المشتعلة دون هوادة جحافل الجيش المغولي ثم سقطت الصخرة الكبيرة، التي كان يحملها قابيل، لتشج رأسه بدلاً من أخيه الغارق في النوم.

 

ــــــــــــــــــــــــــ

   

الحالم

 

تقع أحداث حياته الحقيقية في الحلم، أما اليقظة فأحداثها الواهية لا تعنيه أبداً. كان يعيش في مدينةٍ أخرى تبعد آلاف الكيلومترات عن مدينته التي لم يغادرها قط. قضى هناك طفولته السعيدة والتقط من مقاعد الدراسة صديقه الأبدي مما لا يجعله متذمراً من الوحدة وسوء الحظ في أوقات الصحو الخادعة فيبددها في الغالب على السرير عوضاً عن الذهاب إلى المكتب. وحالما يُطرد من العمل، كما هو متوقع، لن يكترث على الإطلاق، لم يكن في الأساس بحاجةٍ إلى أي وظيفة طالما يحتفظ بمنصبٍ هام هناك. حتى عندما ينتقل إليه الإيدز لن يشعر بالخوف أبداً، مادام في الحلم، يخلص لزوجته التي عندما يداهمه الأرق ويتأخر في النوم تقف هناك قلقةً في انتظاره.

 ____________

 

شيخوخة

 

 

يمشي فيبدو كما لو كان واقفاً، تسبقه الشوارع والأرصفة، وتنحني أعمدة الإنارة في طريقها تحت إبطه، وتكاد تلامس كتفيه المباني الضخمة وهي تعبر بجانبه بسرعةٍ شديدة كقطارٍ عملاق. يمشي فتطمرهُ نسائم الربيع بالثلوج، وحين يتوقف قليلاً لينفضها عن جسده يبدو شبيهاً بحوض أسماك مهمل، تعيش بداخله بيوض البق والجداجد. يمشي وعندما لا يستطيع، يجلس ويتشبث بذراعي الكرسي فيهوي لأيامٍ وأحياناً لشهور في البئر الذي لا نهاية له، حتى يسقط على الجانب الآخر من الكرة الأرضية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

انفصال

  

عندما تظاهر أحدهما أو كلاهما بالنوم لأول مرة ـ لأسبابٍ عظيمة أو تافهة ـ كان الشرخ الصغير جداً قد شق طريقه تحت الملاءات البيض، وعلى الرغم من الصلح الذي قاما بإعداده مع الإفطار إلا أنه بقي على الفراش منذ تلك الليلة، لا يزيد طوله وعرضه أيضاً عن مللميتر واحد، قد يبدو تافهاً لولا أن وحدة القياس تلك من شأنها أن تباعد بين حرفين متشابكين في كلمةٍ ما لتلحقهما بكلمتين متجاورتين ومختلفتين تماماً. لقد انفصلا إلى الأبد كما يحدث لفتات الخبز الذي ما عاد بمقدوره أن يعود رغيفاً دائرياً.

 ____________

  

رزنامة من يوم واحد

 

 كان الحفاظ على الروتين موهبته الوحيدة، وقد قام بصقلها بغريزة آلية لا تتسامح أبداً مع الشكوى أو الشعور بالسأم. كانت قهوته السوداء هي القهوة التركية واللاتيه والاسبرسو مع اختلافات طفيفة في المكونات وطرق التحضير. كانت ألف ليلة وليلة هي الإلياذة والشاهنامة والكوميديا الإلهية بشكل أو بآخر. كان بحر مدينته هو البحر الأحمر والميت والكاريبي مع فروقات بسيطة في درجات العمق والملوحة. كان الصيف والشتاء فصلاً واحداً باسثتناء الحاجة أو عدم الحاجة إلى المعاطف الثقيلة. كان الصداع هو الانفلونزا وقرحة المعدة والروماتيزم مع آلامٍ وطرق علاج متغايرة. كانت حياته يوماً طويلاً بلا مفاجأت، وكان هذا سر طمأنينته عندما يستيقظ في السادسة صباحاً بلا منبه كما يستيقظ أحدهم من قيلولة.

 

 ــــــــــــــــــــــــــــــ

فارق هائل في التوقيت

 

 

كان عجولاً إلى درجةٍ تجعله يبتعد كثيراً عن ظله، حتى أقداره كانت تواجه صعوبةً في اللحاق به. أما المصادفات فلم يكن يسمح لها بالحدوث، كان يباغتها على الدوام مثلما يقع المرء على هدايا عيد ميلاده قبل أيام فلا تفاجئه مجدداً. لم يشكُ يوماً من فوات الأوان، لأنه ببساطة يستبق الأشياء فكأنها قد حدثت منذ زمنٍ بعيد، وإن لم تحدث حتى الآن. يمكن القول أنه ردة الفعل في قانون نيوتن الثالث لفعلٍ لا وجود له في الأساس، أو سرعة القذف دونما انتصابٍ أو نشوة. كان استعجاله الشديد يُفقِد الأشياء منطقها ودورتها الضرورية. يكاد يختنق مثلاً في موعده الغرامي الأول كما لو أن هذه الفتاة أنجبت للتو طفله السابع وباتت الحياة في بيته لا تطاق. كان يعيش حياته بفارقٍ هائل في التوقيت ـ تسع ساعات تقريباً كما لو كانت حياته تقع بعيداً هناك في المكسيك أو السالفادور ـ والمصيبة أن هذا الفارق يتسع يومياً وتتراكم تلك الساعات لتغدو أياماً وأسابيع مما يعني أن حياته تقع الآن في دولةٍ بعيدةٍ على كوكبٍ بعيد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قاص سعودي

 

 

مقالات من نفس القسم