مختارات من ديوان “حياة مبيتة”

مختارات من ديوان "حياة مبيتة"
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

علاء خالد

وبعد شرائه

وقع العسل على الأرض

ورأيته،أمامى، يسير فى طرق الذباب.

 

لم أحزن،

وقارنت بين تجربة الفقد هذه

وبين تجارب أخرى

فقدت فيها أصدقائى وأبى وملابسى الجديدة،

وأضفت هذه التجربة الصغيرة

إلى تجارب أخرى قادمة

سأفقد فيها كل ما أحرص على نقائه

وسيسير رغما عنى فى طرق الألم.

 

بعد عشرين عاما

بعد عشرين عاما،

سأقابل امرأة عجوزا

وسأخلع ملابسى أمامها

وسأريها الغابات المحترقة تحت جلدى.

 

عندها سأكون أقل توترا من الآن

وأكثر ثقة بجسدى

سأنيخ لها ذكرياتى

لتختار بوابة يفيض منها الحنان

لاشك أنها ستسألنى عن أمى

وعندها ستكون أمى قد ماتت

وسأحتار فى الإجابة

وسأترك لها أن تحفر فى جسدى

 

عندها سأكون فى الخمسين من العمر

وحاملا لخبرة عميقة فى اصطياد الأمومة

من أوجه العابرين

وستأخذنى بين ذراعيها

وستفتح لى بوابة أخرى من الحنان

وستنيخ لى ذكرياتها لأركب

وأعدو فيها بحثا عن ابن احترف الكتابة صغيرا.

 

 

 

 

ثقب فى جدار بارد

من يأتى لينقذنى من هذا الليل.

من ياتى ليُنضج محبة متفحمة

قليلة اليأس.

 

من يأتى ليقف بالقرب من باب البيت

ويسرق مفتاح وحدتى.

 

من يعلم أن سلالم البيت

سكين صاعدة بمحاذاة الجسد المهيأ برماد السرير.

 

من يعلم أن المفتاح ظل قرونا

يستجيب ليدى ولثقب فى جدار بارد

ولم يعطله غياب الباب.

 

من يعلم أن الحزن سينضج هذا المساء

وأكثر من مساءات ماضية

أنفقتها فى اليقظة.

 

من يعلم أن الألم يبدأ كخطوة أولى

تنتظر وراء الباب

وخلفها ليل الحركة لشوارع

ودعتها بآلام حقة.

 

من يعلم أن الله، مثل أى مساء،

يعاد خَلقُه على طاولة الكتابة.

طاولةٌ على فجرها

أُرخى مساء رأسى الهابط

فى بحيرات مُرة.

 

فى الشارع

 

أشياء

اتركها ورائى حية

بعد مغادرتى البيت فى المساء؛

لمبة الصالة

جرس الهاتف

صوت الراديو

وعلبة سجائر بها سيجارة واحدة

 

أشياء أتركها حية فى الشارع

بعد عودتى إلى البيت؛

طاولة الكتابة فى المقهى

وكف صديقتى.

 

مقايضة

بيأس احتفظت به حيا تحت جلدى،

تحت مصباح

شارك بضوئه فى مقايضات ليلية كثيرة.

اجتمعت وكلبا ضالا

لم يمر عليه إنسان خائف منذ سنين.

 

وبشفقة

تركت له

إحدى ساقىَ

ليريح عليها أنيابه الدامعة.

 

مع ياسمين

 

قضيت طوال النهار مع ياسمين

فى خلق عروسة من القماش.

 

فى البداية صنعنا القلب

من بقايا جرح فى الطفولة،

وعندها سألتنى ياسمين:

لماذا دائما القلب أحمر؟

 

صنعنا قلبا أبيض

بقليل من الثلج.

 

وجاءت اليد اليسرى للعروسة اقصر

من اليد اليمنى

وضحكنا كثيرا لهذه المفارقة

ثم بترنا، بدون شفقة، كثيرا من اليد اليمنى

فجاءت أقل من أختها.

وهنا سألتنى ياسمين:

لماذا يكون للعروسة يدان؟

 

فتخلينا عن اليدين

ثم عن القدمين

ثم عن الرأس

وأعدنا الجرح إلى طفولته

واحتفظ  كل منا بعروسته فى داخله.

 

موهبة

 

عادة

أثناء سيرى فى الشارع

أحفظ أرقام السيارات المسرعة

لحدس

أن جريمة ستقع

وان عينىّ ستتعثران بعد عدة خطوات

بعينى جثة مجهولة.

 

نقيض القلب

 

سنحتفى بأصابعنا فى مقاه خافتة.

قهوتكِ، كما هى،

ودائما ماتعلق بذيل لسانك، المتآكل من البن.

وقهوتى، تنحنى عامدة على ملابسى،

كى تفضح ارتباكى العميق.

 

وأصابعنا على الطاولة، صراع بين أنداد يائسين.

أصابعكِ التى فشلت فى أن توجه حنانى الهارب،

وأن تدفع القهوة، مثل سائر أحزان الجسد،

إلى حديقة الروح، وبعيدا عن ملابسى.

 

لأن السلطة، عادة، تختفى وراء الأصابع

وأصابعى، بعضها، مازال معلقا على باب العاشرة مساء.

 

لأن القلب، عادة…..

 

كنت أحب أصابعكِ، تحت حلبة أسنانى

ملوحة براياتها الحمراء

لأنى أحبها ندا لدمى.

 

أصابعكِ الذكورية،

وكما سميتِها : نقيض القلب.

سأكتب عن شقائى بقربها،

عن الأصابع الأخرى التى تمنيت أن تقف بجانب بكائى.

 

وعن عرى لم يأنس لأصابعك

لأنه يحتاج لأكثر من الأنثى ليزيل عنه الطبقة

الفاسدة من الحس.

 

سأكتب، ولن اطلعكِ، فى ليل المقهى،

وخلافا لعادتى، على هذه القصيدة،

لأن أصابعك الآن يتيمة

ولا أحد لها فى العالم

لتحتفل معه بالفشل.

 

ولأنها غصة فى جسدك

وتعذبك فى خلوات عديدة

عندما يكتمل العرى

ولايحتاج سوى لمفتاح ليحرر ظلمته.

وتودين لو كانت على الضفة الأخرى من الجسد.

 

صداقة حرة

 

سأعقد للقهوة صداقات

خارج فمى

سأدعها تلوث الصفحة المفتوحة أمامى

من رواية ” ثلج الربيع” لميشيما

وفيها أحسَّ البطل، وهو يستقل القارب،

بأن كل حياته تنزلق من خطأ ما فى الروح.

 

لتدلنى، بعد سنين،

النقطة المتفحمة، خليط لعابى المحترق والقهوة،

وعندما أعيد فحص أيامى تحت الشمس

باحثا عن الشق الذى تسربت من الرعشة كنبات طفيلى

 

الرعشة التى ألمت بجسدى يوما ما

وفتحت كل مساقط دمى، طوعا، أمام البحر.

 

لتدلنى، بعد سنين،

وعندما أعيد قراءة الصفحة نفسها

ولكن بلعاب نظيف

بأننى كنت أحب الموت

وأننى آخيت بينه وبين صفحة مطوية فى جسدى.

 

من قصائد البار

سأقضى السنوات العشر الأخيرة

من حياتى

فى احتساء الخمر

عازفا عن الأحاديث الجادة والأصدقاء المهمين

كى أراقب هزائمى، من قريب،

بروح ثملة

بقلب عامد فى التفاهة

كى لا أبدد أحزانى المتبقية، ذخيرة طفولتى،

على امرأة واحدة

وأعبّد أمام عينىَ طرقا جانبية للبكاء

بمثيرات غاية فى الضعف

بشرخ بسيط فى زجاجة الخمر،

ستخطئه يدى، وتلحظه روحى فى عزلتها المتنامية.

 

وسأضع يدى، الوصايا العشر

فى عناية النار

كى لا أكتب بعد الآن بيد باردة، وبأعصاب غير محترقة

 

ولكنى سأقف مهزوما

أمام رجل ظل يراقبنى فى البار

ويعلم أن وراء كل تفاهتى روحا معذبة

سأقف أمامه منكسا

عندما يصرخ فى وجهى: إن حياتك مازالت هناك.

 

دين أبدى

أود لو أستعير وجه هذا الرجل

لمدة ساعة

لأخدع به صديقته

لأنحنى تحت تيار أصابعها

كذات قلقة

وهى تحرض منابت الشعر

لثورة شاملة فى الحس

ولكن محتفظا بقلبى

بكل زوائده النفسية

لأن بإمكانه، بعد مرور ساعة،

أن يضمها نهائيا لصفه

 

محتفظا بعينىّ

وأدائهما العميق.

 

ربما

اليوم سأختار واحدة من زوجات أصدقائى

لتملأ قصر الحليب بوجهها

سأهربها فى الظلام

بعيدا عن قلوبهم الجافة

وسأفتح لها بوابة

لايمر منها إلا العرايا

ربما يسقط قلبى كثمرة غافلة

وربما أخاتل فم الذنب

بالكحول وبالبكاء الصامت

ربما أعيد ترتيب أصدقائى

بجمال زوجاتهم

وربما أعلق جسدى من نهايته

فى نهاية حبل هارب من الليل.

 

الزجاج الخلفى للتاكسى

لى صديقة

بعد أن نفرق النهار

على بضعة مقاه وأرصفة وأصدقاء بالمصادفة

يعود كل منا إلى بيت عائلته لينام

مدخرا بعض الكلمات والحركات الهاربة

التى يُشتبه فى قسوتها

فى كمية الألم التى تقف تحتها

كندوب طازجة لأكثر من علاقة

ونخفيها بإيماءة متعجلة

قبل أن تستقل التاكسى؛

بقلوب على أطراف الأصابع

نقذفها فى الليل، فى اتجاهين متضادين،

لتسيل على الزجاج الخلفى للتاكسى

وأسير إلى البيت

تقطع طريقى عدة أحلام ونساء فارهات

يعكرن المياه بينى وبين صديقتى

هى المياه نفسها التى تفصل بيننا.

 

ألمحت لها عن علاقتنا التى قد تسير فى اتجاهين متضادين

وبدون زهور متبادلة

عن حريتى بعد الزواج وحريتها

واشترطت عليها

بأن تخبرنى باسم الرجل الذى ستختاره

ليقتسم قلبى معها

ولكنى لم أخبرها من قبل،

لم أمرر الشرط نفسه، كعدالة عمياء، على رقبتى

ولكنى، ومنذ الآن، أجهز له

وأوسع له ثقبا خاصا

لتمر منه طلقة الرحمة.

 

حبل الأنقاض

نتنقل بين شقق أصدقائنا

فى الأدوار الأخيرة

عبر غرف صغيرة للنوم والأحلام

وفى مؤخرة مسيرتنا الأوتاد اللازمة لنصب خيمة الجنس.

 

أدخل فى البداية

ثم تأتين بعدى بعشر دقائق

كى لايلحظ البواب الخيط الذى يربط بين جسدينا.

 

ثم نخلع ملابسنا فى ضوء علاقات سابقة

ونضعها تحت االفراش مباشرة

كمدية مشرعة

متأهبين لأى هجوم.

 

ونتبع تعليمات الصديق

بأن لايكون لأفراحنا صوت عال

وأن نضع الظلام ضمن أولويات الحب.

 

الصديق الذى يترك لنا شقته

مقابل أن نترك له إحدى تذكاراتنا تحت الوسادة

ويعلق ورقة خلف الباب

يدلنا فيها على مكان الشاى والسكر وميعاد حضوره.

 

وبالفعل، نترك له رائحة جسدينا تحت الوسادة

ليتلصص عليها،

أثناء عبوره لوحدته،

مستخلصا منها جسدكِ

بخبرة عميقة فى تقصى رائحة الأنثى.

 

وعندما نستنفد هذا الصديق

أبحث عن صديق آخر

أنصب له جسدك الغامض

كشرك لايخطىء فريسته

ولايخطىء الخيمة المضاءة.

 

ونعبر إلى شقته بنفس إيقاع العام السابق

وقد نَمت فى شعورنا أسلحة بيضاء

وبوجهين صارمين

كى لايلاحظ البواب خيط الفرح الممتد بين جسدينا.

 

سنعبر شقق أصدقائنا

متمكنين من السلالم الكثيرة

ومن الخوف

وتحت سلسلة من الإضاءات الخافتة

والمفاتيح الصدئة

ستكبر أجسادنا.

 

وسنظل مطرودين خارج غرفة تخص جسدينا

وتخص بكاءنا.

 

ومن عام لعام

سنتذكر كم مرة توقفنا فيها عن العناق

تحسبا لأقدام كبيرة تنمو وراء الباب.

 

وكم مرة،

تآلفنا مع أصوات بعيدة لمارة وحيدين.

 

وكم مرة ،

تركنا، على الملاءة،

آثارا عميقة لحب لم يكتمل.

 

ومن عام لعام

وبعد أن نتخلص من ثقل جسدينا

سنخرج بنفس إيقاع الأعوام السابقة

مع تغير طفيف:

أنتِ فى البداية

ثم أنا،

حيث لن أخرج بعدكِ مباشرة

كى لايلحظ البواب خيط الأنقاض الممتد بين جسدينا

لأفكر بمفردى فى قلبى الذى لايكتمل.

 

 

عتبة الصدقات

الكلمات الصغيرة

التى يسقطها الأقارب فى كفى

عند الباب

بينما أمى فى الخلف

صحتها تتدهور

ولاتطول أذناها تلك الكلمات المشفقة

والملفوظة بإتقان

ودائما أثناء خروجهم

عن الأم التى يشحب وجهها

يوما بعد يوم

عن الرعاية وأن أهمل نفسى قليلا

عن التراب الذى يتثاءب فوق الأثاث

والبيت الذى تقل حرارته

وتتقشر من فوق الجدران

 

الكلمات التى يسقطها الأقارب

كصدقة

تظل تتكاثر على العتبة

بينما أمى فى الخلف

يتدهور سمعها

فتضع كل خبرتها فى يديها عند الوداع

وفى ابتسامة قد لاتطول اللقاء القادم

ولكنها ستتكاثر فى عينىَ

عند كل عبور للعتبة.

 

المهم

المهم أن تنتقل الرغبة

إلى اللقاء القادم

أن يتعثر جزء بحواف غير مقصودة وينتظر.

أن تنتقل بكل شروطها؛

بدبابيس الشعر المعوقة لوصول أصابعى إلى منبت  السواد

وبأنفى الكبير الذى يقف حاجزا عن مداعبتك لنقطة عميقة

تقف تحت تنفسى

وببقايا شعرك التى تنسينها فى يدى، وفى أركان

مختلفة من ذاكرتى.

 

المهم أن تحرك تلك النقطة لعابنا كمنارة بعيدة

تتعدد أغراضها

أن ينمو هذا الشعر ويوقظ كتلة من

الرغبات المدخرة، فى اللحظة التى تتوقف فيها الحياة عن إثارتنا.

وكما اقتلعناه بحنان، سنقتلع غيره بحنان مشابه.

 

المهم عندما أراكِ فى المرة القادمة

أن يكون بخزائن رغبتى

مايكفى لإقامة جسر عميق من القبلات.

 

المهم أن لانعتمد كثيرا على خزائن الرغبة

لأنها قد تنضب فى أية لحظة

ليس لخلل فى أعضائنا

أو فى سوء استعمالها.

 

المهم أن نبحث عن آبار أخرى

لتلقّى العاطفة،

قد تكون إحداها

وأنا أمسك يدك، بحياد تام

وبدون أن يتخدر حلقى بلعاب مضىء.

 

لأنك فى تلك اللحظة تحتاجين لحنان

حتى ولو كان كاذبا

حنان يرمم الجهد الذى بذلتِه

لتنقلى حاجتك بأمانة إلى جسدى

عبر سور طويل من الخجل.

 

من هذه اليد

وما ينتظر تحتها،

من هذا الإخفاق

الذى نحبه

لأنه يؤجل دائما

الاتفاق على طريق واحد للرغبة

على تلقى سأمنا جرعة واحدة.

ــــــــــــــــــــــــــ

نشر بدار الجديد – بيروت 1995

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم

علي مجيد البديري
يتبعهم الغاوون
موقع الكتابة

الآثم