جاد صلاح قرقوط
تعرف تايسون الأيديولوجية الاستعمارية، أو الخطاب الاستعماري، على أنه اصطدام بين ثقافتين، ثقافة المستعمِر وثقافة المستعمَر. وترى أن ثقافة المستعمر تتميز بالفوقية، الهيمنة، التنوير والسيطرة؛ وتنظر إلى ثقافة الآخر كثقافة خاضعة ومنبوذة ومكروهة، فتصفها بالدونية، الخضوع والاستسلام، الجهل والضعف.
فالثقافة المهيمنة هي المعقدة وغالبا ما تمتلك الإرث الثقافي العالمي، من وجهة نظر المستعمِر. أما عن المستعمرات، فهم يعرفون كوحوش مسلوبين من إنسانيتهم، بحاجة إلى مساعدة المستعمِر ليخلصهم من عاداتهم السيئة والمشينة. فالمعايير الأنجلو-أوروبية فقط هي الصحيحة، وكل ما تبقى من الحضارات، هو إما اتباع النهج العالمي الذي فرضه المستعمر، أو البقاء على هامش الحياة. بهذا، غالبا ما تمحى ثقافة الدول المستعمرة سابقا حتى بعد زوال الاستعمار، مما يؤدي إلى تزعزع القرار وفقدان الاتصال بالماضي والإرث الثقافي لهذه الحضارات المقهورة (419). وهنا تنشأ النزعة بين “الذات المتحضرة” و”الآخر المتخلف والمتوحش”. هنا يجب أن نتطرق إلى مصطلح مهم وهو ال “E.U.R.O.C.E.N.T.R.I.S.M” الذي يقتضي تفوق المقاييس الأوروبية على سائر الثقافات. واحدة من مفرزات ال “eurocentrism”، والتي طبقت في أوروبا وأمريكا وبريطانيا، هو ال”O.R.I.E.N.T.A.L.I.S.M” أو ما يسمى الاستشراق، مصطلح وطده إدوارد سعيد، حيث ينسب الغرب الصفات الحسنة إلى نفسه ويرمي بالسيئات على الآخر (420). إذا أنا “متحضر” فأنت حتما “متخلف”.
وكما ذكرت تايسون، رعايا الاستعمار تعلموا منذ الطفولة أن الأخلاقيات الصحيحة تتمثل بالمستعمر؛ بهذا، فهو ينال السلطة العليا، ويجعل المستعمر يفقد الثقة بنفسه ويؤمن بدونيته (421). يعاني المستعمر من ضياع وتشتت الذات، فهو يشعر بالغربة حتى في وطنه، لأنه، ببساطة، ضائع بين حضارة تشعره بالدونية وأخرى أيضا تشعره بالقهر والدونية.
يورد الناقد أوكافورفي قراءته في رواية “أشياء تتداعى” للكاتب الإفريقي تشنوا أتشيبي: “تدور أحداث “أشياء تتداعى” في إغبولاند في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في الوقت الذي كانت فيه بريطانيا في طور الاستعمار. وليس فقط مدينة إيغبولاند وكذلك الأراضي الإفريقية الأخرى المخصصة لها في مؤتمر برلين 1884-1885” (67 – 68). ولفهم تصرفات “أوكونكوو”(الشخصية الرئيسية)، علينا أولا فهم كوزمولوجيا مدينة إيغبولاند وعاداتها وتقاليدها، حتى نعرف كيفية تفاعل “أوكونكوو” مع البيئة المحيطة وكيف تؤثر بدورها فيه. على عكس ما ينص عليه الخطاب الاستعماري، فإن مجتمع الإيغبو قائم على “المساواة” وضد أي شيء يقترب من “القوى الاستبدادية”، ويوجد مثل شعبي يدل على هذا: “الإيغبو ليس لديهم ملوك” (أوكافور، 68). فهم ليسوا مجتمعات بربرية، قائمة على القتل والسلب، بل لديهم ديمقراطية. مثل أي مجتمع آخر، لديهم آلهة وكهنة، والأهم من هذا كله، هو أنه يجب على البشر السير وفق القواعد والقوانين، ويجب على الفرد، إذا قام باختراق الأطر والمحرمات الاجتماعية، أن يكفر عن ذنوبه )أوكافور، 69).
يبرز كاتب الرواية من خلال شخصية “أوكونكوو” صفة التطرف في الأدب ما بعد الكولونيالي. هذه الشخصية التي تفتح الأسئلة عن التغيرات الفكرية والاجتماعية التي طرأت على المنطقة بفعل الاستعمار.
فمجتمع الإيغبو كان يقوم على مفهوم فلسفي بسيط للحياة، يعبر من خلاله عن وجود التناقضات والتضاد في حياة الإنسان: “تعد الازدواجية، أو ظاهرة الاقتران، جانبًا آخر مهمًا جدًا في علم كونيات الإيغبو. في فكر الإيغبو، لا شيء يمكن أن يوجد بذاته، لأنه حيثما يوجد شيء، يوجد شيء آخر بجانبه” (أوكافور، 69 – 70). من هنا نستنتج تركيز مجتمع الإيغبو على الاعتدال في كل شيء، فالإنسان الراقي هو القادر على إيجاد التوازن، ويشير أوكافور إلى مثل شعبي مهم في دراسته عن تشينوا أتشيبي ألا وهو: “يمكن للمعالج أن يشفي شيئا ضمن الحدود فقط” “70. فالتطرف يؤدي إلى الدمار، وهذا ما يحدث فعلا ل”أوكونكوو” في النهاية.
غالبا ما يشير النقد الأدبي إلى أن انهيار “أوكونكوو” سببه الاستعمار، وبالطبع، لا يمكننا إهمال هذا الجانب؛ ولكن، هناك الجانب الآخر، وهو اعتقادات “أوكونكوو” المتطرفة، فهو يعيد إنتاج عادات وتقاليد مجتمعه ليذهب فيها إلى أبعد الحدود بدافع خوفه بأن يصبح مثل أبيه ف “حين مات أونوكا، لم يكن قد نال على أي لقب على الإطلاق، وكان غارقا في الدين حتى أذنيه. فلا عجب إذن أن يشعر ابنه أوكونكوو بالخجل منه؟” (تشنوا أتشيبي، 12). ولكن، مجتمع الإيغبو يحكم على الفرد من خلال إنجازاته الشخصية لذا “…قامت شهرته ]أوكونكوو[ على إنجازات شخصية راسخة” (أتشيبي، 7). إذا أردنا أن ندرس شخصية “أوكونكوو” حسب تعريف أرسطو وتحليله لشخصية البطل في التراجيديا، وإذا كان خطأ “هاملت” التفكير الزائد وخطأ “ماكبث” الطموح، فخطأ “أوكونكوو” التطرف والهوس والصلابة، كلها تكون صورة مستقلة عن أبيه ومتناقضة معه تماما. بالطبع، يمكننا الاستدلال على هذه الطباع من خلال أفعاله، والحدث الأهم الذي سوف يبين هذا هو قتله ل “إكيميفونا”، الصبي الذي قدم قربانا لقرية “أوموفيا” حقنا للدماء.
ينقسم النقد الأدبي بين من يبرئ “أوكونكوو” ومن يرى أنه ارتكب “جريمة” بحق “آلهة الأرض”. ويخبرنا الراوي أن دافع “أوكونكوو” لارتكاب الجريمة هو الخوف (يو أوباتا، 83)، فهو لا يريد أن يشك القوم في قوته لذا عندما ركض “إكيميفونا” نحوه “سحب أوكونكوو سيفه، وقد أذهله الخوف، وجندله. خاف بأن يفكروا بأنه ضعيف” (أتشيبي، 70). لماذا قام “أوكونكوو” بقتل “إكيميفونا”؟ هل بدافع الخوف فعلا؟ وطبعا، عندما نقول بدافع الخوف، فنحن نتحدث عن إحدى طرائق تفكيره المتطرفة. بالنسبة إلى يو أوباتا، الذي وضح من خلال دراسته أن البطل وجد نفسه في مأزق أو في حالة لا نستطيع فيها توظيف الحكمة العرفية المتفق عليها إلى حالة تفوق كل الأخلاق والعادات. فكان “أوكونكوو” فقط ينفذ الحكم الصادر عن “وحي التلال والكهوف”. ألم يكن بإمكانه أن يبقى في منزله على الأقل أو أن يستمع إلى نصيحة “إيزيودو” بألا يشارك في قتله: “(ذلك الغلام يدعوك أبي. لا تشارك في قتله”) (أتشيبي، 65). ولكن دعونا لا ننسى أن “أوكونكوو” هو واحد من شيوخ أومووفيا، ويبدو أن مهمة قتل الطفل تقع على عاتقهم – هذا لا يعني طبعا أن “أوكونكوو” يجب أن يقوم بهذا. والسبب الآخر الذي قد يدعوه إلى الخروج هو مرافقة “إكيميفونا” لاصطحابه إلى منزله حتى تنطلي عليه الحيلة ولا يكشف المؤامرة التي تنسج لقتله (يو أوباتا، 87). أما عن الخيارات المتوافرة ل”أوكونكوو”، حسب دراسة يو أوباتا، عندما ركض “إكيميفونا” إليه، فهي على الشكل التالي: “(1) يعطي إكيميفونا الحماية المطلوبة، (2) يأخذه ومثل بيلاطس يخرج نفسه من المسألة ويسلمه ليقتل، أو (3) يقتله بنفسه”. يمكننا أن نستثني الخيار الأول، كونه يعتبر تصريحا واضحا لرفض قرار “وحي التلال والكهوف” (88). برأي يو أوباتا، الخيار الثاني لا يصح لنفس السبب. فليس لدينا إذا إلا الخيار الثالث، هكذا يعالج يو أوباتا الحدث. ولكن، لو تمعنا النظر بالخيار الثاني، لوجدناه الأمثل والأفضل، فعدم المشاركة لا يعني الرفض لقرار “وحي التلال والكهوف”؛ ببساطة، “أوكونكوو” لا يستطيع المشاركة للمحافظة على شكل من أشكال الإنسانية العامة. “أوكونكوو” لم يمنع أحدا من قتل “إكيميفونا”، وهذا دليل كاف على موافقته، ولكن ما كان عليه أن يشارك في قتله، وأنا هنا لا أريد أن أجرمه، بل أريد فقط أن أشير إلى تطرفه، فبدافع الخوف قام بقتل “إكيميفونا” – ولا أريد قول ارتكاب جريمة – لأن أطروحة يو أوباتا توضح أنه وجد نفسه في ظروف لا نستطيع أن نطبق عليها الأخلاق العامة، فالقرار في نهاية المطاف صادر عن هيئة تمثل الأخلاقيات والعرفان.
يعزو النقد الأدبي سبب انتحار “أوكونكوو” إلى ظلم المستعمر بسبب خطاب “أوبيركا” إلى “مفوض شرطة المنطقة” في الفصل الأخير من الرواية:
“فجأة، التفت أوبيركا، الذي كان يحدق بثبات في جسم صديقه المتدلي، إلى مفوض شرطة المنطقة وقال بشراسة: (ذلك الرجل كان واحدا من أعظم الرجال في أوموفيا. لقد دفعتموه إلى قتل نفسه، وسيدفن الآن ككلب…) لم يستطع مواصلة الكلام. فقد ارتعش صوته وخنق كلماته (أتشيبي، 222).
بالرغم من وضوح الخطاب السابق وتجلي الاتهامات التي تشير إلى إدانة المستعمر، إلا أنها تعبر عن وجهة نظر شخصية، ولا يمكننا، من خلال مقطع ختامي صغير، أن نبني موقفا كاملا عن شخصية بطل في رواية كاملة. الاستعمار لعب دورا في انهيار “أوكونكوو” ولكنه ليس العامل الوحيد، فهنالك أيضا عيوب فردية تتجلى في شخصيته (تطرف المعتقدات) دونا عن مجتمعه أودت به إلى الانتحار. وكما ذكر الناقد هارولد شوب، “أوكونكوو” يشكل خطرا على مجتمعه مثله مثل المستعمر، وهو ليس جزءا منه (شوب، 96)، ولا يعبر حتى عنه. فكثيرا ما نراه يخرق عادات قومه ويعاقب لأجلها، فمثلا قام بضرب زوجته أثناء عيد اليام، وهذا يعتبر إساءة إلى ربة الأرض. يقف “أوكونكوو” خارج عالم الإيغبو وخارج عالم المستعمر، فهو يختار ما يناسبه من عادات مجتمعه حتى تتسنى له الفرصة لتحصين مكانته الاجتماعية (شوب، 96)، فهو يسعى إلى تدمير أي شيء يقف في طريقه، سواء كان نتاجا من الداخل أم مفروضا عليه من الخارج. قام “أوكونكوو” بنسج العالم من خياله، فأصبح بعيدا عنه جدا، لدرجة أنه انتحر في النهاية.
التغيير الذي جلبه المستعمر لم يؤثر على الجميع بنفس السوية، فمجتمع الإيغبو قادر على التأقلم والتكيف. “هذا لأن أوكونكوو تحديدا يعارض بشدة العديد من تقاليد المجتمع (بدلا من تجسيدها) يجب أن يموت” (شوب، 98)، فيأتي موته نتيجة خطأ في طفولته شكل لديه نوعا من عقدة أوديب، فراح يصنع حياة كاملة يعاكس ويتحدى فيها أباه، مما أودى به إلى التهلكة بسبب تطرف المعايير والعالم الخيالي الذي صنعه لنفسه – عالم شاذ عن السياسة الداخلية والخارجية. “أوكونكوو” مقيد بالخوف في كل لحظة وكلمة من هذه الرواية، فقبل الحلم كان الخوف، وعندما تلاشى الحلم، بقي الخوف فقط (شوب، 109). ف “قد لا يكون أوكونكوو في أعماقه رجلا قاسيا. لكن الخوف كان يسيطر على حياته بأكملها، الخوف من الفشل والضعف” (أتشيبي، 18). وهذا الخوف سببه والده، الفاشل والكسول. الطرق التي يسعى إليها “أوكونكوو” للقضاء على الخوف هي التشبث بقيم مجتمعه وسلك مسار عكس أبيه: “الوسائل لتقليل خوفه – العمل والرؤية الفريدة للرجولة – سرعان ما تتطور إلى، وتبقى إلى وقت، قيم “أوكونكوو”، وهي تغذي حلمه بالعظمة” (شوب، 115). ولكن، مجتمع أوموفيا لا يظهر الحقد على الأب الذي يظهره “أوكونكوو”. فعندما رأى “أوكونكوو” مجتمعه ينهار أو يعتنق معتقدات نسوية لا تتناسب مع ذكوريته، فلا يجب علينا تصديق هذا، لأنه، ببساطة، “أوكونكوو” بنفسه لا يعرف حقا معتقدات هذا المجتمع ولا يستطيع تجسيدها. فالصلابة، التجبر، العمل – الصفات التي تتمثل في “أوكونكوو” تمثل جزءا، والجزء الآخر يتمثل في أبيه والديانة الجديدة التي جلبها المستعمر مثل اللين، المرح واللهو والتراخي. فسبب انتحار “أوكونكوو” ينقسم إلى شقين: أسباب داخلية (متمثلة في طريقة تعامل البطل مع محيطه) وأسباب خارجية (متمثلة بالتغيير الذي جلبه المستعمر). المخاوف الفردية وانحدار النفس أدت إلى انتحار “أوكونكوو”، هذا ما حاول تشنوا أتشيبي توضيحه.
——————–
1- Tyson, Lois. Critical Theory Today: A User-Friendly Guide. Routledge Taylor and Francis Group. New York, London, 2006.
2- Okpewho, Isidore. Chinua Achebe’s Things Fall Apart: A Casebook. Oxford University Press, 2003.
3- أتشيبي، تشنوا. “أشياء تتداعى” (ترجمة سمير عزت نصار). الأهلية للنشر والتوزيع، 2002.