محمود مغربي..أُمُّ المَحَبَّة

محمود مغربي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عاطف محمد عبد المجيد

يبدو أنَّ بياض قلبه قد طغى على لون شَعره فابْيَضَّ مبكرًا وهو في ريعان شبابه، حتى إن بياض شَعره أصبح من العلامات المميزة له إلى جانب سُمرته، التي تقع بين بياضيْن: بياض شَعر رأسه وبياض قلبه، وابتسامته الهادئة وقلبه الودود الذي يتسع لِمَا لا تتسع له كل قيعان المحيطات مجتمعة. إنه محمود مغربي الذي صافحت عيناه الحياة في فبراير من العام 1962على أرض محافظة قنا بصعيد مصر، ويُلقَّبُ بالولد الفوضوي أو بالولد الجنوبي أو بالشاعر الأسمر. ها هو يقول عن تسميته بالولد الجنوبي: ” إن مفردة الجنوبي تجعلنا نستعيد الجنوب، صعيد مصر، بكل تفاصيله الثرية؛ شعراء أميون ومتعلمون، بالجلباب والبنطال، حنان الجنوب وقسوته، مفردة الجنوب تجعلني أرى ” المغربي الصبي “ حاديًا خلف المحراث، يشدو بالمواويل، يؤنس نفسه وروحه المنفردة في الحقول البعيدة عن المدينة في القيلولة، أتذكره مندهشًا ومصغيًا إلى عازف الربابة الشجي، الذي يجيء مثل غيره في وقت حصاد محصول القمح. إلا أن ” الجنوبي “ يبقى مرتبطًا بشعراء وأدباء كثيرين مثل: أمل دنقل، عبد الرحمن الأبنودي، بهاء طاهر، يحيى الطاهرعبد الله، عبد الرحيم منصور، وغيرهم. أما عن لقب الولد الفوضوي فيقول: ” إن مفردة الفوضوي تكررت في مجموعتي الشعرية الأولى ” أغنية الولد الفوضوي “، الذي أعتبره جواز مروري الحقيقي لعالم الشعر الغني والمدهش والسحري.
عن الكتابة في حياته يقول مغربي إنها هى الفعل الحقيقي ضد الموت، ضد الفناء, بالكتابة أسماء عديدة رحلت وما زالت تعيش بيننا, الكتابة هى الفعل الخلاق وجدير بأن نضحي كثيرًا من أجله. والقصيدة تنتصر للخير وللجمال والعدل والبقاء على ظهر البسيطة ونقيم دائمًا لها عرسًا خصوصًا، لمولد القصيدة سحر، وأنا جئت لعالمي هذا لأبحث عن السحر، والقصيدة هى الخلاص، وجئت أيضًا لأبحث عن الخلاص.
سفر متواصل
ولنقرأ معًا ما خطه الشاعر أحمد المريخي عن تجربته مع محمود مغربي: يُحكى أن رجلاً تعاطف مع رصيفِ قطارٍ فأدمن الوقوف عليه؛ يستقبلُ القادمين ويودعُ المسافرين، وإذا ما غاب سال الرصيفُ إليه..وشيئًا فشيئًا صار الرصيف محطةً؛ لا تطمئنُ على روادها إلا فى حضرة الرجل. ذات يوم سافر الرجلُ فرافقته المحطة، ولما كان مُحبًا وبسيطًا صارت المحطةُ محطاتٍ تمشي في قدميه؛ تهرولُ كلما هرولَ وتتلكأُ كلما تباطأ، وعندما يحط تفرش بُساطها كى يجلسَ إليها وتجلسَ إليه. وهكذا..ثلاثون عامًا من السفرالمتواصل؛ شاب الشَعر ووهن العظم، وكلما أراد الرجل العودة يُضنيه أن يفارق المحطات..كان الرجلُ صاحبَ رسالةٍ لا يرجو لنفسه منها شيئًا. ذات سفرٍ أراد له الله أن يستجم، فهداه إلى جزيرة بها من الجمال ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر. جلس الرجل مدهوشًا يتأملُ المفارقات بين جمال هذه الجزيرة وخرابِ ذلك العالم..وعز عليه أن يحظى وحده بكل هذه المتعة، فاستأذن ربه فى أن يواصل ما طُبع عليه؛ صنع مراكب وأطلقها إلى السواحل، فركب الأحبةُ من كل حدب وصوب. كان الرجلُ كما كان؛ يستقبلُ القادمين ويودعُ المسافرين. كلُّ مسافرٍ يحمل جزيرة ليغرسها فى قلب مدينته؛ كانت الجزيرةُ جزيرةَ محبةٍ. وإذا كانت المحبةُ ” أُمَّاً “، فإن محمود مغربى هو أمُّ المحبة..أوهكذا عرفته طوال ربع قرن.
الكائن العلوي
يمثل محمود مغربي أحد أبرز الأصوات الشعرية في حقبة الثمانينات في مصر، فهو ينسج تجربة مختلفة في رؤاها وموضوعاتها، وتتمتع لغته بخصوصية مفرداتها وقدرتها على التشكّل المجازي. وعن أهــم طقـــوسه فــي الكتابة يقول مغربي: هي « شخبطة » هذا البياض لتخــرج القصيـدة التــي تُدْخل في قلبي الفرح والبهجة، وأعتقد بآنها تحاول أن تقول شيئًا وتحرك الآخر. كذلك يرى أن الشِّعر يعني القيمة، البحث عن الجمال في كل صورة، ودون مفردة ” شاعر ” سوف يصبح فقيرًا حتى وإن امتلك كنوز الأرض، ويعتقد أن الشاعر هو الكائن العلوي الذي وحده يستطيع أن يحتوي العالم، هو يدرك جوهر الأشياء. يمتلك مغربي قدرة عجيبة على تحويل كل ما هو حوله لدعم الشاعر الذي هو بداخله، كل هذا يصنعه في مقرّ عملـه الذي ليـس له علاقة بالشعـر، في المقهى والشارع، في الجامعـة والمحافل الثقافية، وفـي كل مكان يجتهد كثيرًا ليدرك الناس قيمـة الشعر والكلمة، قيمة المعـرفة والثقافة في كل صورهـا. لذا علينا، يقول مغربي، أن نفتش عما يبهرنا من أجل أن نعيش في حضرة الكتابة بشكل حقيقي ومخلص. وعن أنثاه يقول مغربي: أثناء مرافقتى للقصيدة منذ سنوات بعيدة، كانت تقفز إلىّ بين حين وآخر سطور دافقة من سلسبيل مشاعري؛ أتأملها تارةً، وتارة تتأملني، تريد أن تخرج متحررةً من أسر عقلي، ترغب أن تسبح دونما التزام بقواعد مسابقات السباحة. كنت وما زلت أستجيب لصوتها الحنون، فأكتب كطفل يلون أوراقة، ثم يُطيّرُها في خفة، ويفرحُ؛ لكأنه امتلك السباحة في الغلاف الجوى. إن المرأة محور مهم ليس فى حياة الشاعر وحسب بل فى كل حياتنا, هى ضرورية للكون ولى مقولة ” الحياة بلا امرأة صحراء ” أرددها كثيرًا, أنا أحد الذين خبروا الصحراء وعاش فيها مفردًا لشهور كثيرة, وعشت مع مفردات عظيمة خلقها المولى سبحانه وتعالى مثل البحر والجبال والرمال والصحراء كنز حقيقى للتأمل ولفضاءات أخرى عديدة, كل هذا أعطى للمرأة بُعْدًا آخر مهمًا للحياة, لذا أرى المرأة المفردة الكبرى فى قاموس الحياة بدونها يختل توازن الطبيعة, المرأة هى ببساطة حديقة الحياة بحلوها ومرها، فكيف لا نحتفى بها بشكل حقيقى وندرك قيمتها. وأخيرًا يرى مغربي أن الشعراء الآن لا حوْل ولا قوة لهم، كيف يمكنهم أن يغيروا سلوكًا أو ما شابه، فالشاعر قديمًا كان له صوت مسموع ومؤثّر حقًا، لأن المناخ كان يوفّر الكثير لهذا الشاعر، أما الآن فلا عزاء للشعراء وأيضاً للمنشد الشعبـي وشاعـر الربابـة في القـرى والنجـوع، لقد اختفى كل هؤلاء في قنوات السماوات المفتوحة التي تحتفي بكل ماهو طاغ ومؤثّر.
الآن ينام محمود مغربي هادئًا في قبره، وسنظل نذكره، إنسانًا ومبدعًا، بكل خير.

مقالات من نفس القسم