فراس حج محمد
أحب الشاعر محمود درويش جدا، بل مفتون فيه فنياً، ولكن لا يعني أنه الأوحد. فكرة “الشاعر الأوحد” فكرة متطرفة وديكتاتورية، وهذه العقلية التي تؤلّه المبدع وتؤسطره إلى هذا الحد هي نفسها التي تؤله الحاكم أو تسكت عن تأليهه. وبذلك يصبح لديها في اللاوعي فكرة قبول أخطاء الحكام وكوارثهم على أنها إلهام أو قدر إلهي لا يردّ ولا يناقش.
أرى في كثير مما يكتبه شعراء ومثقفون عن درويش مبالغة كبيرة جدا، وكما قيل في النقد القديم “مبالغة ممقوتة”، فيغدو الشعر يتيما بعد المتنبي ودرويش، وكأن العقم الشعري قدرنا. كتب الشاعر الفلسطيني يوسف الديك في ذكرى وفاة درويش الثانية عشرة على صفحته الفيسبوكية: “في تاريخه… تعرّض الشعر العربيَ لأكثر من عشرين ألف وعكة وخسارة.. وخدش، لكنّه تيتَّمَ في فاجعتين فقط: مقتل المتنبّي.. وموت محمود درويش..!!”. ويستعيد أكرم هنية فيما كتبه عن فاجعة موت الشاعر في هيوستن موقفا للشاعر والأكاديمي الفلسطيني الدكتور خالد الحروب، فكتب “وينفذ خالد الحروب وعده لمحمود، فعندما التقاه قبل السفر إلى هيوستن قال خالد إن ديوانه الشعري الأول والأخير سيصدر في القاهرة خلال أيام، وفيه قصيدة بعنوان “شكوى إلى ساحرة الشعر” يشكو فيها للساحرة استئثار محمود درويش بسحر الشعر وكأنه بإبداعاته المتتالية من الشعر الصافي يجعل من الصعب على أي كان أن يكتب شعرا. وعندما وصل الديوان إلى رام الله بعد الرحيل حمله خالد الى القبر ليقرأ “الشكوى” ويبر بوعده”.
هذان موقفان استهلاكيّ وعاطفيّ، فالشاعر يوسف الديك بقي يكتب شعرا بعد درويش ولم يتوقف، ويأتي موقفه هذا بعد اثنتي عشرة سنة من رحيل الشاعر، بل إن ما كتبه ليس له أي معنى عدا أنه نوع من التحرش الفيسبوكي بالقراء، ليسجل موقفا في تمجيده للشاعر الراحل. أما موقف الحروب فهو عاطفيّ بامتياز، مع ما فيه من مبالغة واضحة، وقد صدر عنه والفاجعة مستعرة الأوار في قلبه، كون الشاعر صديقا له، لكن لم يكرر هذا الموقف ولم يفِ بوعده في أن يكون ديوانه أول وآخر ديوان، بل على العكس نشر بعده شعرا سواء في ديوان أو على صفحته على الفيسبوك.
يشكل هذا المدح وأشباهه المبالغ فيه خطرا على شعراء كثيرين، فنسد الأفق في وجوههم ونغلق الباب أمام المواهب الشعرية الشابة، بل إنه إبعاد للقارئ عن كل شاعر سوى درويش، فلا يسمع لأي شاعر سواه، ولا يقرأ لأي شاعر غيره، ولا ينشر الناشرون لأي شاعر عداه، كما أنه يزيد من توجيه الباحثين الجدد وغير الجدد إلى شعر درويش لدراسته، فشعره هو البضاعة الرائجة، وهكذا نساهم في أسطرة الشعر والشاعر ويصبح من المستحيل إيجاد شاعر آخر، وكأن كل تلك المعمعة تقول: الشعر مات من بعدك يا درويش”.
أعتقد أننا في ورطة كبيرة أمام هذا الذي نحن فيه، هل يموت الشعر بموت الشاعر الفحل؟ هل مات الشعر بعد المتنبي؟ لقد بقي الشعراء يكتبون في حضوره كما كتبوا قبل ولادته، واستمروا يكتبون بعد رحيله، لقد أنجبت العربية شعراء كبارا في كل العصور، وستنجب آخرين في عصور لاحقة، لكن علينا أن نفسح لها المجال لتنمو وتتخلّق لا أن نكسر أجنحة شعرها.
ما يلاحظ في ظاهرة درويش واختلافه عن ظاهرة المتنبي، باعتبارهما الصوتان الشعريان الأكثر حضورا، أن درويش تمت أسطرته وهو حيّ، وأما المتنبي فكان ينظر إليه نظرة معتدلة أحيانا أو متطرفة ضده أحيانا أخرى، وتم ظلمه وإنصافه في حياته وفي مماته. فقد وجد في عصر المتنبي خلال حياته وبعدها بقليل من ينتقده وينص على أخطائه وتجاوزاته، ولم يكن له سيطرة على اللغويين والنحاة، ولم يدخلوه ضمن الشعر الذي يحتجّ به، لأنه “واقع خارج هذا الزمن”، وألفت في شعره الكتب، ولعل أهمها جميعا ما فعل الجرجاني في كتابه المهم “الوساطة بين المتنبي وخصومه”. هذا الاعتدال الذي عرف عند الجرجاني هدمه أبو العلاء المعري عندما شرح ديوان المتنبي وسماه “معجز أحمد”، التباسا مع القرآن بصفته معجزة النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، الذي هو أحمد أيضا، وكأنه يريد أن يقول إن شعر المتنبي قرآن أو معجز كالقرآن تماما، في الوقت الذي سفّه المعري شعر البحتري عندما شرحه فأطلق عليه “عبث الوليد”، فأيهما كان يعني الوليد الطفل أم الوليد بن عبيد الشاعر الذي هو البحتري؟ إنها مراوغة الفيلسوف الشاعر المنحاز بلا حصافة إلى المتنبي انحيازا مبالغا فيه.
دائما ما يرتبط الشاعر درويش بالمتنبي ويتهم بما اتهم به، وخاصة اتهامه بالسرقة، هناك من حاول من الشعراء وبعض الباحثين أن يقولوا إن درويش قد سرق، لكنها كانت تبدو المسألة في كل مرة نكتة سمجة ومبتذلة، وأظن أن هذه الهالة التي أحيط بها درويش منعت كثيرين من أن ينتقدوا شعره، وأخذوا يبحثون في تأويلات النص البعيدة التي تأخذ النص إلى مناطق لم يكن الشاعر يفكر فيها، لقد حدث هذا كثيرا، ونبّه إليه الشاعر نفسه في مرات كثيرة، فهو عندما يتحدث أحيانا عن المرأة، فإنما يتحدث عن امرأة من لحم ودم وليس فلسطين، وهكذا، كأن هذا “الحب المدعى” لدرويش كان بالفعل “حبا قاسيا”، منع أن نراه على حقيقته الإنسانية الطبيعية في صورته الخالية من الألوان البلاغية التي قلبت صورة الشاعر وشوهتها بدلا من أن تكون الصورة جميلة وشفافة، لقد راكمْنا فوق صورته كثيرا من الاستعارات والزخارف حتى “قتلنا” درويش الحقيقي وبقي لنا منه عدة صور متخيلة نحبه فيها.
لقد كان المتنبي شاعرا عظيما ودرويش كذلك، لكنهما لا يقفان على القمة وحدهما فثمة شعراء آخرون جديرون بالقراءة والدراسة وطباعة أشعارهم. ألا تكفينا دكتاتورية الحاكم وسلطويته الجبارة وصورته المعلقة على الجدران في كل مكان؟ ولماذا نصرّ على صناعة الدكتاتور الثقافي أيضا في صورة “الشاعر الأوحد” الذي لا شريك له؟ كأن السلطة الحاكمة نجحت في السيطرة على العقل والتفكير ووجهته وجهتها التي ترضى عنها، صناعة الواحدية المطلقة ومحاربة “ديمقراطية” الأفعال الشعرية والأسماء الشعرية، كما تحارب الديمقراطية السياسية والسياسيين الديمقراطيين.