محمد عبد المجيد.. الأُميُّ المثقف

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 688
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عاطف محمد عبد المجيد

رغم أنه كان، قبل سنوات وقبل أن يشكو من ألم في ساقيه، يبدو ضخمًا بعض الشيء، ورغم التجهم الذي كان ينتاب قسماته أحيانًا إلا أنه يمتلك، بكل تأكيد، قلبًا أبيض، ورغم أنه أُمِّيٌّ لا يقرأ ولا يكتب، إلا أنك حين تحاوره تكتشف مثقفًا ضل طريقه فأصبح نجارًا مُسلَّحًا.

يتابع ما يجري على الساحة، مُبديًا رأيه كسياسي مُحنّك، كما يبدو ممتعًا وهو يحكي عن تجاربه  في الحياة، وعن علاقاته مع نماذج بشرية مختلفة في بلدان شتى. 

جميل حين يبتسم، مثلما هو صعب حين يثور أو يغضب.

لا يستطيع أن يُخفي ما لا يعجبه، وينتقد ما يراه خاطئًا وبشكل لاذع وقاسٍ. 

لا يعرف القراءة والكتابة، لكنه  يجيد قراءة الواقع، والحديث معه بمثابة قراءة وئيدة لعشرات الكتب في أدب الرحلات والنفوس البشرية.

حين تراه ببدلته الكاملة وربطة عنقه، في الصورة التي تجمعه بأفراد العائلة، وعُلّقت على أحد جدران غرفة الضيوف، تشعر أنك أمام شخصية مرموقة، لها هيبتها، وهناك هالة ما تحيط به، تجعلك تتساءل عن كُنه هذه الشخصية وماذا وراءها.

***

حتى الآن، وبعد أن تجاوزتُ الأربعين ببضع سنوات، أجد صعوبة في أنْ أضع عينيّ في عينيه وقت أن أجلس في معيته لأتحدث معه، رغم أن أحاديثي معه قليلة جدًا بحكم الغياب الذي منعنا أن نظل معًا طوال الوقت. 

مِثْله كمثل معظم الجنوبيين، كان يسافر إلى دول الخليج باستمرار من أجل العمل، لا من أجل النقاهة والاستجمام .كان يقضي في كل مرة ما يقرب من ثلاث أو أربع سنوات متواصلة بلا أجازات، مقابل بضعة أشهر يظلها معنا، بل إنه في آخر رحلة سفر ظل بعيدًا عنا مدة تجاوزت السبع سنين دفعة واحدة، حين سافر ليعمل في ليبيا. لم أشعر بوجوده الفعلي وبشكل ملموس، إلا بعد أن تفضّل، عامدًا متعمدًا ومخطئًا، الصدام حسين على الوطن العربي بغزو الكويت، التي كان أبي يسافر إليها، ونتيجة لذلك ظل معنا، دونما سفر، عدة سنوات انتظارًا  لتَحسُّنِ الأوضاع هناك.    

بالطبع كرهتُ سفر أبي، لأنه حرمني منه لسنوات طويلة، رغم أن  سفره هذا جعلني أعيش في مستوًى معيشي جيد، كفَلَ لي الراحة وعدم الاضطرار إلى العمل صغيرًا. نعم كنت أرتدي الملابس المستوردة، وأستخدم، في دراستي، أدوات من خارج البلاد، وآخذ مصروفًا يوميًّا يكفيني وأكثر.لكن مأساة هذا السفر أنه كان يحرمني من أن أراه يوميًّا: كنت أريد رؤيته كل يوم حتى وإن أكلت خبزًا دون غموس.   

إذن هل أخجل حين أقول إنه نظرًا لسفره طويل الأمد، لم أشعر بأبوته كما ينبغي، حتى أنني أحس بأن ثمة حاجزًا لا يسمح بأن  تسيرعلاقتي به في مجراها الطبيعي؟

***

كان محمد عبد المجيد، بشهادة كل من تعاملوا معه خارج البلاد، كريمًا جدًّا، حتى أنه كان يُوصف بأنه “مخروم” اليد، وهذا السبب جعله، رغم آلاف الدينارات التي كان يحصل عليها من بلاد النفط مقابل كَدٍّ وعَرَقٍ، لا لشيء آخر، لم يصنع شيئاً يُذْكر، على الرغم من أنه لو استخدم عقل رجال الأعمال لفاق ساويرس هذه الأيام ضخامةً في الثروة. هنا عليك أن تعلم ماذا يعني أن يكون الشخص كريمًا خارج بلاده، وهو في غربة يريد جمع المال، وكيف تصبح غرفته التي يسكنها مأوًى ودار ضيافة للجميع.

كان يشتري لي الملابس الفاخرة، ويمنحني مصروفًا يفيض عن حاجتي، ويمنعني من العمل بغية توفير متطلبات أيام الدراسة، لكنَّ كل ذلك  ظل لوقت طويل لا يسد فجوة الأبوة المفقودة داخلي، والتي حفرها غيابه عني.  

ربما جعلني غيابه عني ألوذ بخلوتي، في الأيام القلائل التي كان يقضيها معنا، وأمكث في إحدى غرف البيت وحيدًا إما للمذاكرة أو للقراءة، أو تحاشيًا للحديث معه خجلًا منه، وكأنه شخص غريب، أو شخص أعرفه معرفة سطحية، وكان ذلك نتيجة للحاجز الذي شيدته  غربته داخلي.

ربما كان انعزالي هذا سببًا في سخطه عليّ، إذ كنت أشعر دائمًا بعدم رضاه عني، كما لا أذكر له، وأنا صغير، موقفًا امتدح صنيعًا لي فيه، بل كل ما أذكره هو توبيخه لي في كل عمل كنت أمارس طقوسه بناءً على أوامره لي.

***

قلت آنفًا إن مصروف جيبي الذي كان يمنحه لي وهو معنا، أو يرسله إليّ من بلاد النفط  كان كبيرًا، حتى أنني كنت أدخره، بدلًا من أن أستهلكه في أكل وشراب.        كنت أدخره لشراء الكتب التي ضبطتُ نفسي منذ المرحلة الابتدائية وأنا مشدود تجاهها، مفتون بها. لكن حبي للكتب لم يَرُقْ له، حتى أنه كان يقول لأمي لو أنه صرف نقوده على “الكلام الفاضي” أو على السجائر لكان أفضل. حقيقة لم أكن أعرف، وقتها، لماذا يعادي كتبي إلى هذا الحد؟

ربما لأنه كان يشعر أنها أخذتني منه، وحنطتْني في غرفتي، أو لأنها  أعاقتني، كما صوَّر له آخرون، عن الوصول إلى ما كان يتمنى.

كان، كمعظم الآباء، يتمنى أن أصبح طبيبًا، غير أن هذه الأمنية لم تتحقق، ولم يُرْجِع أسباب عدم تحققها إلا لكتبي التي كنت أهيم بها، وكان هو يكرهها كره العربي للصهيوني!

كنت أحتفظ بكتبي تلك في دولاب صغير، إذ لم تكن لدي مكتبة، ولما امتلأ الدولاب عن آخره بها ، لم أجد لها مكانًا سوى أسفل الكَنَب المُعَدِّ لغرض الجلوس عليه.

ذات يوم وإثر مشاجرة بينه وبين أمي تدخلتُ لفض الاشتباك بينهما، فما كان منه إلا أن سبَّني بفشلي، على غير العادة، ثم أردف بطردي من البيت وراح ورائي يلقي بكل كتبي خارج حدود البيت ليتخلص منها ومني في ساعة واحدة!

لحظتها أدركت حجم الوشاية التي ملأ بها أحد الغيورين صدر أبي، وصوَّر له أن كتبي هذه هي العدو اللدود الذي منعني من تحقيق حلمه في ِّ.

حدث هذا منذ سنوات عديدة..لكن علاقتنا الآن أصبحت جيدة تمامًا، وتغيَّرت نظرته لكتبي بعد أن وجد القرية بأكملها تتحدث عني وعن كتبي المطبوعة وعما أنشره في جرائد ومجلات في مصر وخارجها، وبعد أن كان هو من يستلم، بعد أن جاء دوري أنا في تلبية نداء ندّاهة الغربة والغياب، الخطابات التي ترسلها لي هذه المجلات حاملة في بطنها شيكاتِ مكافآت النشر بالدولار!

الآن تصالح محمد عبد المجيد، أبي، مع كتبي بعد أن تأكَّد أن ابنه الذي فشل في دخول كلية الطب، قد نجح في مجال آخر وأصبح، بمفهومه طبعًا، نجمًا لامعًا!

مقالات من نفس القسم