محمد سعدي: الكتابة احتفاء بالحيرة والقلق والتناقضات

محمد سعدي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حاوره: رضوان بن شيكار
تقف هذه السلسلة من الحوارات كل أسبوع مع مبدع او فنان أو فاعل في إحدى المجالات الحيوية في أسئلة سريعة ومقتضبة حول انشغالاته وجديد إنتاجه وبعض الجوانب المتعلقة بشخصيته وعوالمه الخاصة.
ضيف حلقة الأسبوع الباحث والكاتب محمد سعدي
1. كيف تعرف نفسك للقراء في سطرين؟
محمد سعدي عابر ضمن العابرين على رصيف الحياة ، كل يوم أكمل الخطوات بهدوء، وأمضي في طريقي آملا أن أترك ورائي ومن حولي أثرا وذكرى طيبة .
2. ماذا تقرأ الآن وما هو أجمل كتاب قرأته ؟
اقرأ الآن كتابين هما ” أمريكي بين الريفيين ” لفنسنت شيين من ترجمة الأستاذ محمد الداودي وكتاب فتيحة سعيدي “أصداء الذاكرة على جبال الريف”.
لا يوجد أجمل كتاب بل توجد كتب جميلة تؤثر فينا، في سن معينة كنت معجبا بغوركي وتشيخوف وإميل زولا وألبير كامو ولاحقا بفرانز فانون وعلي شريعتي و أمبرتو إيكو خصوصا روايته “باسم الوردة” ثم الكاتبة الناشطة أرونداتي روي وروايتها “إلاه الأشياء الصغيرة” . أنا منجذب جدا للكتابات الفكرية للكاتب إدواردو غاليانو فأسلوبه السردي ساحر وشاعري يضخ روح الحياة في الكلمات عبر خيال أدبي رهيف وواقعية تنحاز للحرية وللإنسان الموجود على حافة الهامش.
3. متى بدأت الكتابة ولماذا تكتب ؟
الوعي بالكتابة بدأ مبكرا وأنا تلميذ بالإعدادية الجديدة ثم بثانوية الباديسي بمدينة الحسيمة مع الكثير من الأساتذة الذين كان لهم الكثير من الفضل في توجيهنا بشكل مبكر.
كانت كتاباتي الأولى ذات طبيعة فكرية وفلسفية تحليلية وداومت على نشرها في جريدة أنوال و أنوال الثقافية بداية التسعينات وأنا طالب جامعي ، إنه زمن انهيار اليقينيات الفكرية والسرديات الكبرى ،كنت أتتبع النقاشات الفكرية والفلسفية في الساحة الفرنسية و الإسبانية وأعددت مقالات و ترجمات عدة من اللغة الفرنسية والاسبانية للغة العربية . ونشرت لحد الآن سبعة كتب وعشرات المقالات العلمية في كتب جماعية ومجلات علمية.
أمر مهم أسهم في حضور هاجس الكتابة لدي، نشأت في مدينة صغيرة كانت تتنفس الثقافة وبيئتها حاضنة وجاذبة للنقاش الفكري والتدافع السياسي والإيديولوجي، لقد نجحت مرارا وأنا طفل صغير في التسلل لمقر ” للشبيبة ” ( دار الشباب) لتتبع الأنشطة الثقافية الملتزمة أو التسلل لتتبع عروض الأفلام الملتزمة المنظمة من قبل النادي السينمائي.
كنت محظوظا لأني عايشت واحتككت ولحقت على آخر دفعة من الجيل الذهبي لنخبة من الشباب اليساري المثقف بمدينة الحسيمة. أنا مدين كثيرا في تشكل وعيي الفكري والسياسي لمدرسة تدعى ثانوية الباديسي، كنا نتبادل ونلتهم الكتب الفلسفية والروايات والمسرحيات ودواوين الشعر، وكان الجدال الفكري حادا جدا نهاية الثمانينات وكانت المنافسة على أشدها بيننا للحصول على أعلى نقطة في مادة الفلسفة ، ذلك كان في عيوننا موضع افتخار وقمة التميز والتفوق. وفي الحقيقة لم أكن أهتم كثيرا بالتواجد في ساحة الثانوية شأن الكثير من زملائي للنضال والتأطير بل كرست وقتي أكثر للتكوين الفكري والفلسفي والأدبي .
لماذا اكتب ؟ لأني أحب أن أنبش في ما يثير الفضول والاندهاش والتشويش وأمقت المعاني الجاهزة والوصفات السريعة والتفكير الخطي ،بالنسبة لي الكتابة شغف واحتفاء بالحيرة والقلق والتناقضات ومكاشفة وعدم استكانة وبحث لا ينتهي عن المعنى والحرية. على الكلمات أن تمنح للإنسان معان ونوافذ حرية وأمل. أعشق الكتابة عن المجهولين ، اللامرئيين الذين لا وجود ولا كلمة لهم ، أكتب لألتقط تهامس أناس بسطاء و عاديين تقبلوا الواقع الذي يقبعون فيه بعد أن أدماهم السير في دروب الحياة وضغط المعيش اليومي. إنهم أبطال عاديون لحياة يومية صغيرة وروتينية .
4. ماهي المدينة التي تسكنك ويجتاحك الحنين إلى التسكع في أزقتها وبين دروبها؟
أنها بقعة صغيرة ، لكن لا مثيل لها في أي مكان ، هي أكثر من مجرد مدينة ومكان، ترعرعت في دروبها ، حررتني، ألهمني وما تزال تسكنني ، إنها القلب النابض للريف ، ملاذ التاريخ والذاكرة ، وأفق الحلم والكبرياء. إنها الحسيمة المدينة التي احتضنتني في طفولتي ومراهقتي وعلمتني حب الحياة وفلسفة الانتماء للأرض ، للهوية وللعالم. ما زلت حتى اليوم كلما تسكعت في شوارعها الفارغة في الصباح الباكر أو الليل المتأخر أستعيد ذلك الطفل الحالم الذي كان يبيع الأكياس البلاستيكية الخاصة بالسمك بسوق الثلاثاء والسوق المركزي ( بلاصا) ويمارس أعمال موسمية مختلفة في الصيف . أستعيد ذلك الصعلوك الصغير الذي كان منضبطا مع الشلة في أداء طقوس التسكع وإثارة الضوضاء والشغب في حي الرومان الشعبي والذي حل ضيفا أكثر من مرة على مخافر الشرطة وكان يعشق التيه بين أزقة المدينة والتمتع بالمغامرات وصيد العصافير في الغابة المجاورة للحي، والاستمتاع بصيد السمك في الميناء والتنقل الخاطف بين القوارب بعد نهاية الإفراغ أيام التحليقة (الصيد الوفير) وتذوق الأفلام بالسينما الكبير ، وفي حالة كان الفيلم غير مشوق فعلى الأقل تتنقل عيناك بين الرسومات الأسطورية الضخمة في الجدران والشرفات الكلاسيكية وتزجية الوقت في إزعاج الجميع خصوصا الجمهور السفلي للقاعة.
5. هل أنت راض عن إنتاجاتك ؟
نتطلع دائما للأفضل ، أجمل الكلمات والأوراق لم نكتبها بعد ولم ينته بعد البوح عن كل ما بدواخلنا.
6. متى ستحرق أوراقك وتعتزل الكتابة بشكل نهائي؟
حينها سيكون العالم موحشا وفارغا ،لا يمكنني الهروب واعتزال القراءة والكتابة ،تورطت منذ زمن بعيد ولم يعد بإمكاني الفكاك منهما .
7. ماهو العمل الذي تمنيت أن تكون كاتبه وهل لك طقوس خاصة للكتابة؟
العمل الذي تمنيت أن أكون كاتبه هو رواية أو سيناريو لفيلم يؤرخ عبر أحداث حقيقية لكن في قالب حكائي سينمائي لتاريخ مدينة الحسيمة من خلال تحكم ” نظرة الإله” في سرد الوقائع والشخصيات وتعاقب الأجيال في الحي الشعبي الرومان بداية من التأسيس مع أول عمدة إسباني للحسيمة وصولا لابنه خوان رومان الفنان والأديب ( كنت شاهدا على جزء كبير من مسار حياته ) مرورا بتوسع الحي مع قدوم الريفيين من بني توزين ثم من صنهاجة سراير ثم قدوم بعض الحرفيين من أهل تزنيت وصولا لتوافد للطلبة من مختلف قرى الريف حيث أصبح الحي شعبيا متعدد الروافد، وسيأخذ الحي نكهة أخرى مع قدوم الفرنسيين والايطاليين والصينيين للإقامة في المدخل الرئيسي للحي. وبالطبع فالوصفات المخيالية المشوقة متوفرة : عائلة خوان رومان الأب، بستان الرومان، حي كوزينا والتعايش الفريد بين العسكر الأسبان والبحارة البقيويين، ، عاصفة 1949، …أجانب في الحي ، أستاذ اللغة الفرنسية ، قصص المهندس الصيني ، قصة بداية ونهاية ثاني أشهر مقر للدعارة بالحسيمة آنذاك، قصة ميمونت أول امرأة ريفية تفتتح وتشتغل بنفسها بمحلبة في ساحة السوق المركزي للخضر والفواكه (بلاصا )، ظهور شلة الفتوه الذين أثاروا الرعب والاحترام في آن واحد داخل الحي وفي ساحة فلوريدو والمدينة كلها ،قصص الشنآن بين خوان رومان وساكنة الحي ، حصار الحي في احتجاجات يناير 1984 من الجبل ومن الأسطح ومن المدخل الرئيسي ، مأساة الأخوين حسين ودحمان، نهاية عصر وبداية الهجرة المكثفة للشباب نحو هولندا، الكرسي ومأساة نهاية خوان رومان.
8. هل للمثقف دور فعلي ومؤثر في المنظومة الاجتماعية التي يعيش فيها ويتفاعل معها أم هو مجرد مغرد خارج السرب؟
لست مثقفا ولا اعتبر نفسي مؤثرا صاحب دور، نعم أحب التغريد خارج السرب ، فنحن في حاجة لذلك حتى لا نغرق في السكون التافه ، نحتاج للتمرين المستمر على السؤال والاندهاش والتشويش الذي يزيح الأقنعة ويكشف عورات المجتمع والسلطة . أحب رُكن الهامش فهو فضفاض واسع لا أشعر فيه بالضيق بل بالحرية وأرتاح حين أكون في الهامش و أتكلم عن الهامش فأجعله مركزا يخرج عن صمته ليكون صاخبا متدفق المعاني. في نظري الكتابة لا يمكن أن تبقى جافة ، صامتة ومحايدة لا بد من أن تنحاز لقيم الحرية ومقاومة كل أشكال الظلم والقهر والاستلاب ولا بد أن تجعل نصب أعينها الدعوة لتقدير إنسانية الإنسان وكرامته.
9. ماذا يعني لك العيش في عزلة اجبارية وربما حرية اقل ؟ وهل العزلة قيد أم حرية بالنسبة للكاتب؟
لا يوجد أمر اسمه العيش في عزلة ، العزلة موت ، أنا شديد الارتباط بصخب الحياة المجتمعية للناس في الأسواق الشعبية ، في الجامعة مع الأساتذة والطلبة والأعوان والموظفين ، في الحي مع الأطفال والشباب ،وأصحاب الدكاكين ، لا أتصور أن يمر يوم في حالة شرود وبدون احتكاك وتبادل الكلمات والنقاش والسخرية والضحك مع محيطي. فقط حين أكتب اعتزل كل تفاصيل الحياة والعمل المعتادة وانزع نفسى تماما ليكون ذهني صافيا، في الغالب أفضل جوف الليل حيث الهدوء والسكينة.
10. ماذا يبقى عندما نفقد الأشياء .الذكريات أم الفراغ؟
حينما نفقد من وما هو عزيز علينا نخاف من المصير فتكون الذكريات هي السلوى لإيهام أنفسنا بامتلاء حياتنا ، ولولا النسيان والنوم لكانت الذكريات وزرا ثقيلا علينا.
11. ماذا كنت ستغير في حياتك لو أتيحت لك فرصة البدء من جديد ولماذا؟
لن أغير شيئا ، منحتني الحياة أشياء كثيرة ورائعة وأحاول إن أبذل بعض الجهد لأرد إليها نزرا قليلا من الجميل ولأرى السعادة والرضى على وجوه من حولي .
12. الكتابة لا تأتي من فراغ بل لابد من وجود محركات مكانية وزمانية؛ حدثنا عن كتابك : حراك الريف : ديناميات الهوية الاحتجاجية .كيف كتب وفي أي ظرف؟
الكتاب حدث مهم في حياتي، وجدت فيه ذاتي، إنه تجربة فريدة لم تنته بعد أطوارها ، الاشتغال في الميدان كان اختبارا مثيرا وصعبا ومغامرة عالية المخاطر، لكن كانت فرصة ينبغي عدم إضاعتها لتوثيق الحراك وأرشفته والكتابة عنه من الداخل.
كنت أمام حيرة تدبير تشابك نداأت عدة لبوح إنساني جماعي وذاتي قادم من أعماق الذاكرة و التاريخ والأحاسيس . ما كان مجرد محاولة لفهم ما كان يجري بالريف إبان الحراك الشعبي تحول لشغف، فوجدت نفسي متورطا أعيش الحدث في زخمه وعنفوانه بدون مسافات ولا عتبات منهجية بين ذاتي وبين الذوات المدروسة وبين الموضوع المدروس ، وأنا أكتب نفذت ذاتي إلى أزقة أعرفها عز المعرفة ولمشاعر مشتتة لشباب أفهم نسبيا لغة غضبهم وانفجارهم ودوافع غليانهم الداخلي. في جميع الأحوال رغم النقاش الثري والحاد أحيانا الذي جمعني في عدة مؤتمرات علمية مع زملاء مغاربة باحثين في علم الاجتماع والتاريخ إلا أن قناعتي ازدادت بأهمية المعايشة، والمشاركة الحية والذاتية المفعمة بشعرية السرد الكثيف في مجال الدراسات الاجتماعية ، اعتقد أنه يجب اعادة النظر في مسألة الفصل بين الذات والموضوع وضرورة وضع مسافة زمنية بين الحدث ودراسته ، لقد ضاعت لحظة 20 فبراير وما كان علينا أن نضيع لحظة حراك الريف. وعندما يتعلق الأمر بالبحث السوسيولوجي والأنثروبولوجي في المجالات الإنسانية لمجتمع محلي ما ، فإن الذوات الباحثة ترى في مزاج مجتمعها وتحولاته ما لا تراه الذوات المستقلة عنه. لا يمكنني أن أتصرف كغريب مع شباب ، أماكن ،تعابير ، إيماأت ، إيحاأت ، لغة، مجاز بلاغي ، ذاكرة ،آلام ومعاناة عايشتها عايشتها عن قرب . أصبحت مقتنعا بأن السرد الذاتي المكثف عبر البوح يوفر ممكنات بحثية هائلة لالتقاط متغير المعيش اليومي ولا يمنع من نقل الذاتي إلى الموضوعي والخصوصي إلى العمومي . لا أعرف إن كنت قد نجحت أم لا في بناء سردية مختلفة تسهم في أرشفة الحراك وتتيح الفرص للبحث من منطلقات مخالفة لما هو سائد ؟
13. كيف ترى تجربة النشر على وسائل التواصل الاجتماعي؟
وسائل التواصل الاجتماعي حولتنا لكائنات سائلة وشاسعة تتفاعل في داخلها ذوات وعوالم عديدة لكنها ضيقة ومنفصمة عن فصول الحياة الواقعية وتقاطعاتها ولحظاتها المعيشية، إنها تشل الأفكار وتسجن الأرواح ، لهذا أنا خائف جدا من زحف وسائل التواصل الاجتماعي والشاشات وأتمرن باستمرار على العيش بدونهما لأكبر زمن ممكن ( باستثناء حاسوب الكتابة) . أنا خائف من اقتراب نهاية الكتاب الورقي ونهاية السينما ونهاية نوع من الثقافة الموسوعية التي تجمع خليطا رفيعا من الفكر الجامع للفلسفة ، العلوم الاجتماعية والسياسية ، التاريخ، والروايات ، السينما، الموسيقى ، الشعر، والقدرة على السخرية من كل شيء ومن لا شيء.
14. أجمل وأسوأ ذكرى في حياتك؟
أجمل ذكرياتي لصيقة باللحظات البسيطة لطفولتي بحي “الرومان” ، كانت طفولة صاخبة مليئة بالحياة ، تعلمت داخلها وبشكل مبكر دروسا في الحياة لم أتعلمها في أي مكان زرته ولم اقرأ عنها في أي كتب من الكتب.
15. كلمة أخيرة او شيء ترغب الحديث عنه؟
اشكر الشاعر والإعلامي المتميز رضوان بن شيكار على الاستضافة ضمن سلسلة أسماء وأسئلة، وأطيب التمنيات لكم بالتوفيق.

مقالات من نفس القسم