محمد برادة دينامية فكرية ينسج في اللاشعور ..

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد فاضل *

لاأدري لماذا يجذبني د.محمد برادة ويجبرني على قراءته ؟

أهو ابداعه الثر والغني الذي يرضي المتلقي سواء اكان في مجال القصة القصيرة ، أو الرواية الطويلة ، أو في دراساته النقدية التي أسهمت في تشكيل الوعي النقدي العربي ، أو في ترجماته التي مثلت إضافة هامة في المكتبة العربية ، أو في مقالاته الباذخة طورا بنثر جميل وطورا آخر بسياحة عقلية تلهم من يقرأها انه قد حزم حقيبته وساح مع هذا المفكر الذي لايهدأ من التطواف في بقاع الأرض ليقدم له رؤاه الفكرية وتجلياته وتجربته الغنية في الحياة، ففي عجالة نقرأ عن حياته انه ولد عام 1938 ، ونال درجاته الجامعية من جامعات القاهرة ، ومحمد الخامس ، والسوربون ، وعاش فترة عصيبة منها مطلع الثمانينات التي اتسمت بالمرارة والإحباط بسبب ذلك المناخ السياسي المحتدم الذي عرفته المغرب منذ العام 1962، فشعر برادة بالحاجة الى كتابة نصوص تسعفه على فهم ما عاشه ، فكتب من ضمن ما كتب روايتان اصبحتا علامة فارقة من علامات هذا الكاتب الكبير ، كانت الأولى " لعبة النسيان " وحملت الثانية عنوان " امرأة النسيان" واللتان صدرتا مؤخرا بصورة مجتمعة في كتاب واحد أطلق عليه اسم " من أجل النسيان " ، والذي يقول عنه في نهايته: (انه كان ينشد تفريغ الذاكرة والتأمل في محصول الحياة واسئلتها ) ، ويؤكد برادة أن همه الأول كان تقديم تجربة جديدة في كتابة الذاكرة وعندما انتهى من كتابة " لعبة النسيان " لاحظ ان لغة الكلام المغربية حاضرة بقوة في الحوار واحيانا في السرد ، لكنه يشير الى ان هناك قواسم مشتركة بين النصين من بينها خلفية نسيان يشتركان بينهما وغدت - حسب تعبيره - بمثابة صمام امان يلجأ له كلما تراكمت خيبات ومرارة وتعذر فهم الأمر الواقع .

محمد برادة عندما قدم لروايته “لعبة النسيان ” الصادرة عام 2004 ، لم يكن يجهل ان اللعبة هي نفسها ستكون في الستة سنوات القادمة لأن البناء الذي قامت عليه هذه اللعبة لم يكن ليصيبها ” النسيان ” في تلك الأعوام القادمة ، يقول آنذاك : ( لم يكن يهمني – حين كتبت لعبة النسيان – أن أؤرخ أو أن أتذكر ، وإنما كنت أوهم النفس أن الكتابة تتيح الاقتراب من أعماق الزمن ومتاهته كما تتيح التأمل فيما عشناه متشابكا ، متداخلا ، غائم القسمات ، ومن ثم اللجوء الى فضاءات الطفولة والمراهقة والشباب بحثا عن زمن لم يعد موجودا إلا في الذاكرة والحلم وفيما تختزنه الذات الواعية ، ولأننا تعودنا على النسيان ، فإننا لا ننتبه كثيرا الى تغير الاشياء من حولنا والى تغير علاقاتنا وذواتنا ، ولكن يكفي ان تنبثق بعض اللحظات من منطقة النسيان فينا ، لتبدأ دينامية التذكر وليبدأ الخيال في نسج ما هو كامن في اللاشعور وفي الذاكرة الغافية ، هكذا انطلقت في كتابة ” لعبة النسيان ” وكأنني امارس لعبة قادتني الى أجواء ومناطق تختلط فيها الابتسامة بالألم والسخرية بالمرارة ) .

ومع كل ما قاله من ” إيهام النفس بأن الكتابة تتيح الاقتراب من اعماق الزمن ومتاهته ” ، فإنه لاينسى انه كان يحمل افكارا يسارية مناهضة للدكتاتورية وآمالا عريضة في التغيير انعكست على مجمل نتاجه القصي والروائي وانتشرت تلك الافكار لتغزو حتى مقالاته الأخيرة التي ينشرها هنا وهناك ، ففي إحدى كتاباته التي ينشرها تحت مسمى آفاق ، يتحدث عن تجربته التي كانت لعبة النسيان هي إحدى إرهاصاتها : ( عندما استحضر المحطات الأساس في مواقفي كمثقف منذ ستينيات القرن الماضي ، أجد أنني قد انتقلت من تصور الى آخر ضمن سياق اجتماعي – سياسي – معرفي ، كان يحكم السياق ويؤثر في بلورة الوعي المتنامي والمتحول والذي لايكاد يعرف استقرارا ينغلق داخله ، فأنا أذكر أن مواقفي كمثقف مغربي – عربي كانت ، في ستينيات القرن الماضي ، مستوحاة من سياق سياسي – فكري – ” ايديولوجي ” تلتقي عند أمشاج من الفلسفة الوجودية والناصرية والماركسية ، مع نزوع الى الثورة الانقلابية ..ذلك أن سياق ما بعد الاستقلال في المغرب فتح الابواب أمام صراع حاد وعنيف بين القصر والاحزاب الوطنية التي كافحت من أجل الاستقلال ) الى ان يقول : ( وعندما تغير السياق ومستوى المعرفة منذ مطلع الالفية الثالثة ، على سبيل المثال ، فإن مواقفي كمثقف قد تغيرت على ضوء التحولات الكثيرة التي عاصرتها داخل مجتمعي وفي العالم ) .

في نهاية نقاشه هذا يعتبر برادة ان حضور المثقف المستمر هو وسيلة لربط الفعل بالتفكير ، وتصحيح الاخطاء والتعثرات عبر الممارسة ) ، ويستشهد بمقولة ادوارد سعيد : ( المثقف يطرح علينا للمناقشة اسءلة محرجة ، ويجابه المعتقد التقليدي والتصلب العقائدي ” بدل ان ينتجهما ” ويكون شخصا ليس من السهل على الحكومات أو الشركات استيعابه ) .

ومع روايته الأخيرة ” حيوات متجاورة ” نراه يلجأ الى لغة إيروسية خشنة كما يعبر عنها الكاتب خليل صويلح ، لكن برادة يقول : ( هذه اللغة تحتاج اليها الرواية ، مثلما تحتاج الى الصدمة الجمالية .. أما الجنس فهو عنصر أساسي في الحياة والكتابة ، لابد من أن يشتبك في الكتابة الروائية مع المحرم ، شرط ان لا تتحول الكتابة الى مجرد شعار ، المهم هو كيف نروي حكاية ، ونصنع عالما خاصا بنا ) ، وقد صنعه فعلا في لعبة النسيان عام 1987 ، وفي الضوء الهارب 1993 ، ومثل صيف لن يتكرر 1999 ، وامرأة النسيان 2001 ، ومحكيات ، ومجموعته القصصية سلخ الجلد 1979 ، والاخرى ودادية الهمس واللمس .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* شاعر وناقد عراقي

مقالات من نفس القسم