مجنون الامبراطورية (8): كيف كانت روما تتعامل مع أحداث الشغب؟

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 عبد الغني محفوظ

غالبا ما يُنظر إلى مجيء عهد الزعامة (عهد الزعامة هو الاسم الدارج للفترة من تتويج أغسطس إمبراطورا 27 قبل الميلاد وحتى نهاية أزمة القرن الثالث في 284 ميلادية) على أنه علامة على تغيير جذري ليس فقط في التنظيم السياسي ولكن أيضا في قدرة السلطات على السيطرة على أعمال الشغب في مدينة روما. منذ أيام احتضار الجمهورية فصاعدا، أصبحت القوات تستخدم في المدينة لقمع أعمال الشغب. وفي النهاية، تمركزت قوات عسكرية دائمة في العاصمة. ويشار إلى أن هذا التطور يثير مشكلة حول سلوك الإمبراطور في المدينة. فمن ناحية يزعم أن السلطات يمكنها أن تسحق أعمال الشغب بسهولة ومن ناحية أخرى، بذل الإمبراطور في روما جهودا هائلة للحفاظ على مصلحة سكان الحضر. ويمكن طرح مشكلة مماثلة فيما يتعلق بالفوائد العامة التي يمنحها أعضاء النخب المحلية في المدن المحصنة الأخرى. جزئيا، تكمن الإجابات على مثل هذه المشكلات في الأيديولوجية الراسخة لمبدأ إحسان الأثرياء والقادرين euergetism، في الإيمان بأن الإمبراطور يجب أن يتصرف برقة وكياسة تجاه الطبقات الدنيا، والمشاركة الرسمية لعامة الشعب كطريقة لإضفاء الشرعية على أجزاء مختلفة من العملية السياسية.

غالبا ما تفترض التقارير العديدة حول أعمال الشغب الواردة في المصادر أن مكافحة الشغب يمكن أن تكون شأنا دمويا وخطيرا للجنود بقدر ما هو لمثيري الشغب، وأن المعارك بين المشاغبين والجنود يمكن أن تكون مدمرة بشكل كبير للنسيج المادي للمدينة. علاوة على ذلك، كان لدى نخب الإمبراطورية تناقض معين تجاه استخدام القوة ضد مثيري الشغب. كان هذا التناقض لا يزال أعمق بين نخب الشرق اليوناني. وفي حالات المظاهرات غير العنيفة، تحول التناقض بشأن استخدام القوة إلى كراهية. كانت مثل هذه المواقف حول استخدام العنف هي جزئيا النتيجة المنطقية للإيمان بالتكلفة البشرية والمادية لقمع الشغب. لكنها كانت أيضا نتيجة طبيعية للعديد من المُثُل العامة الأكثر عمومية حول المعاملة المناسبة للسلطة الإمبراطورية لرعاياها. وهكذا، حتى لو أدى تمركز القوات في مدينة ما إلى تحسين قدرة السلطات فعليا على قمع أعمال الشغب، لم يكن واضحا لأعضاء نخب الإمبراطورية أن تلك القوات ينبغي استخدامها لسحق أي أعمال شغب أو مظاهرات.

استخدام القوة العسكرية يؤدي إلى نتائج عكسية

بطبيعة الحال، فإن الدفاع عن تناقض النخبة تجاه استخدام القوات لا يعني ضمنيا أنه من المتوقع أن تظل السلطات في روما والمدن الأخرى سلبية في مواجهة أعمال الشغب. ومع ذلك، فإن الرد الذي يتضمن استخدام القوة العسكرية غالبا ما يُعتبر غير مناسب ويؤدي إلى نتائج عكسية. هذا الرأي إلى حد ما يصف الإشارة في وقت حديث من خلال الدراسات إلى أن الأباطرة الرومان والحكام والقضاة ردوا في الواقع على أعمال الشغب بالقوة فحسب عندما تم تهديد منصبهم أو كرامتهم أو سلطتهم. على سبيل المثال، في دراسته للجمهور في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في بريطانيا وفرنسا، يلاحظ جورج رودي وهو أحد كبار الباحثين المتخصصين في دراسة الحشود أنه في هذه المجتمعات تميل الأوصاف الرسمية لأعمال الشغب الواردة في نصوص مثل المذكرات والصحف المعاصرة إلى رواية الأحداث من منظور الطبقة الأرستقراطية والطبقة الوسطى. بالنسبة إلى هذه الفترات من التاريخ، هناك العديد من المصادر الوثائقية الأقل حزبية مثل سجلات السجون والمستشفيات والمحكمة – وهي مصادر يمكن أن تقطع شوطا نحو تصحيح التشوهات في التقارير التي كتبها أعضاء من الطبقات الأكثر امتيازا. في حالة أعمال الشغب الرومانية، فإن الغالبية العظمى من الروايات المعاصرة للأحداث تأتي من منظور النخبة. وهذا عائق كبير أمام فهمنا الصحيح لأعمال الشغب، والتي تنطوي بطبيعتها على صراع بين النخبة الحاكمة والجماهير. وعلى النقيض من التاريخ المبكر لأوروبا الحديثة، فإن المصادر الوثائقية ذات الصلة بأعمال الشغب الرومانية لم تحفظ ببساطة بمستوى يسمح بتصحيح منظور النخبة للنصوص الأدبية.

تأتي غالبية التقارير القديمة عن أعمال الشغب، سواء كانت أولية أو ثانوية، من منظور “النخبة” حيث كتبها رجال معروفون إما بالمشاركة في الحكومة والإدارة على المستوى الإمبراطوري أو المحلي (على سبيل المثال، تاسيتوس، وكاشيوس ديو، وهيروديان)، أو الذين جاءوا من عائلات ثرية من النوع الذي شارك في القيادة المحلية، حتى لو لم يشغلوا هم أنفسهم مناصب سياسية رسمية.

يرد ذكر أعمال الشغب في بعض الأحيان في المصادر المكتوبة من قبل سياقات غير النخبة: على سبيل المثال، تظهر أعمال شغب مختلفة في أعمال الرسل المنحولة وما يسمى Acta Alexandrinorum. (وهي مجموعة من أوراق البردي تغطي مجموعة موسعة من النصوص الوثائقية والأدبية تتعلق بالإسكندرية). وفي الواقع، نادرا ما تنسب الروايات الثانوية الباقية معلوماتها حول أعمال شغب إلى مصدر على الإطلاق. ومن المثير للاهتمام أن نلاحظ في هذا السياق أن عينة مجتزأة من  Acta Alexandrinorum يبدو أنها تصف أعمال شغب سبقت مذبحة كاراكالا  للإسكندريين عام 215. لا تذكر النصوص التاريخية التقليدية أي أعمال شغب وتقدم الفعل كعمل عشوائي من أعمال القسوة، ما يشير إلى أن نسختهم تنبع من تقليد مختلف تماما. الاحتمال الواضح أن المؤلف الموجود قد قام بتعديل المعلومات. على سبيل المثال، يشار إلى أن هيروديان استخدم رواية كاشيوس ديو عن أعمال الشغب التي أحاطت بسقوط كاليندر عام 190، لكنه أعاد صياغتها بشكل كبير لتناسب أذواقه.  باختصار، فإن فرص مصادرنا الثانوية أن تحافظ على أي شيء آخر غير نسخة النخبة لأعمال شغب معينة تعد بعيدة. وتصف هذه المصادر عادة سلوك الجمهور بلغة مسيئة ومتعجرفة.

فكرة أن السلطات ردت أو ينبغي أن ترد على أعمال الشغب في جميع الظروف تظهر صراحة في تقريرين عن أعمال شغب محددة. أفاد سويتونيوس أنه في عهد تيبيريوس، قام سكان بولينشيا (بولينزو الحالية في شمال إيطاليا) بإلقاء جثة أحد صغار القادة العسكريين في المدرج ورفضوا الإفراج عنها حتى يوافق ورثة الرجل على تمويل مسابقة للمصارعة. رد الإمبراطور بجعل مجموعتين من الجند تهبطان على بولينشيا وحكم على غالبية السكان بالأشغال الشاقة. ذكر سيوتونيوس الحادث في مجال التدابير التي اتخذها تيبيريوس من أجل الصالح العام قبل أن يصبح استبداديا. لذا فإن سيوتونيوس يفترض أن السلطات (في هذه الحالة الإمبراطور) لم تكن تستجيب لأعمال الشغب بدافع المصلحة الذاتية. على وجه التحديد، قام سيوتونيوس بوضع الحادث ضمن مزاعم أخرى مختلفة حول الخطوات التي اتخذها الإمبراطور لتأمين النظام العام. تظهر هذه الحوادث تحت عنوان عام: “لقد حرص بشكل خاص على حماية السلام من السطو على الطرق السريعة واللصوصية والاضطراب الذي تسببه الفتنة”. بصرف النظر عن حل الوضع في بولينشيا، تشمل هذه الترتيبات المحسنة لقوات الأمن داخل إيطاليا وروما التدابير المرتبطة بأعمال الشغب المسرحية. ُينظر إلى الإجراءات المتخذة ضد الاضطرابات في بولينشيا، على أنها جزء من رغبة تيبيريوس العامة في تأمين النظام العام، وليس كمحاولة لتجنب تهديد منصبه أو كرامته.

ومن المفيد أيضا أن نشير إلى القصة التي عثر عليها في التاريخ الأغسطي حول ظروف تولي إيميليانوس السلطة الإمبراطورية. يقول المؤلف إن إيميليانوس ارتدى الثوب الأرجواني لأن حشدا، لسبب تافه، حاصر منزله، ورأى أن تولي السلطة الإمبراطورية هو الوسيلة الوحيدة للحفاظ على ذاته. القصة مشكوك فيها ومنطقها الداخلي مبهم، لكنها مثيرة للاهتمام لأنه يسبقها مناقشة عامة للنظام العام في الإسكندرية. وبتكرار مفاهيم الرعونة والاضطراب لدى حشد الإسكندرية، يدعي المؤلف أن أعمال الشغب اندلعت نتيجة “أحذية العبيد” وغيرها من الأمور التافهة. يزعم أن الاضطرابات الناتجة غالبا ما تكون على نطاق يهدد الدولة وبالتالي “تم تسليح القوات ضدهم”. والغرض من وجود القوات العسكرية في الإسكندرية هو قمع أعمال الشغب هذه وبالتالي تجنب مثل هذه التهديدات – حتى عندما تنبع أعمال الشغب من أسباب غير سياسية ولا ترتبط بالمكانة الشخصية أو كرامة المسؤولين الرومان، مثل أحذية العبيد.

لم يكن أعضاء النخبة الغربية وحدهم هم الذين اعتقدوا أن أعمال الشغب بجميع أنواعها يجب أن تؤدي (وكثيرا ما فعلت) إلى استجابة من السلطات الرومانية. كما ذكرنا سابقا، وهناك تقارير لدى بلوتارخ وديو كريسوستوم عن تدابير قمعية تظهر على أنها كانت مجرد نتيجة طبيعية لأعمال شغب. وهناك مؤلفون يونانيون في فترة الزعامة ينسبون اهتماما عاما بمكافحة الشغب إلى السلطات الجمهورية. يقدم أبيان مجلس الشيوخ على أنه يعتقد أن وضع الشغب في روما عام 52 قبل الميلاد بحاجة إلى نوع من العلاج، وبالتالي التطلع إلى بومبي. يتخيل بلوتارخ، في مناقشة نفس الحادثة، أن كاتو قد توصل على مضض إلى وجهة نظر مفادها أنه يجب استدعاء بومبي للعمل كقنصل وحيد نتيجة للحاجة إلى اختيار علاج معتدل لشرور الفوضى العامة. في مكان آخر، وصف الحادث بأن كاتو دعا بومبي لتولي مسؤولية تعزيز النظام العام.

المشكلة الثانية في التقارير الموجودة حول أعمال الشغب الرومانية تنبع من حقيقة أن معظمها لا يأتي من نصوص معاصرة، ولكن تمت كتابتها بعد عقود أو حتى قرون من أعمال الشغب التي تصفها.

يدعي مؤلف كتاب التاريخ الأغسطي أن القوات استخدمت للسيطرة على الحشد الذي كان يسيء معاملة ديديوس جوليانوس ويرجمه بالحجارة ويعرقله فور صعوده المثير للجدل الى عرش الإمبراطورية في عام 193م. ومن المتوقع أن يفترض القارئ أن الإمبراطور الجديد استخدم القوات للقيام بفض الشغب لأن تصرفات الحشد تهدد كرامته وشرعيته وسلامته الجسدية. لكن غالبا ما يكون من الصعب جدا استنتاج مثل هذا الدافع الشخصي من الحقائق المقدمة. على سبيل المثال، يتضمن تقرير تاسيتوس عن الرد الرسمي على أعمال الشغب في المدرج في مدينة بومبي في عام 59 م مناقشة تفويض المحاكمة من الإمبراطور إلى مجلس الشيوخ، ثم إلى القناصل ونفي زعماء العصابة وحل الجمعيات غير الشرعية وحظر الاجتماعات المماثلة لمدة عشر سنوات. لا يوجد أي تلميح إلى أن نيرون أو مجلس الشيوخ أو القناصل تصرفوا للحفاظ على مناصبهم أو كرامتهم. ويمكن قول الشيء نفسه عن تقرير بلوتارخ عن أعمال شغب بين سكان أوكسيرينخوس وسينوبوليس (قرية القيس بالمنيا) بسبب انتهاك المحرمات الدينية: تتم الإشارة إلى الرد العقابي من قبل الرومان دون الحاجة إلى مزيد من التوضيح.

في ضوء التوقعات العامة التي كانت لدى النخبة في الإمبراطورية من السلطات الرومانية فيما يتعلق بالنظام العام، فليس من المستغرب أن تقدم المصادر بشكل متكرر استجابة السلطات لأعمال الشغب كنتيجة غير ملحوظة للاضطراب العنيف نفسه، وليس طبيعة أسبابه. تنعكس هذه التوقعات فيما ذكره فيليوس عن محاسن عهد تيبيريوس: لقد قيل لنا إن تيبيريوس كان مسؤولا عن إزالة الفتنة من المدرج ومن المسرح، حيث يعتبر كبح جماح الفتنة هو من واجبات الإمبراطور.

جرى إسناد واجب مكافحة الاضطرابات العامة إلى المسؤولين الأدنى أيضا: يدعي أولبيان فقيه أسرة سيفيران أن واجبات الحاكم الحضري تضمنت “حفظ السلام بين المواطنين والحفاظ على النظام في الاماكن العامة”، وأن على المحافظين الجنود الذين يقومون بأعمال الشرطة في مواقع مختلفة داخل المدينة الحفاظ على السلام وإبلاغ المحافظ بما يحدث. السمة الحاسمة لهذه التصريحات هي أن واجب السلطات الإمبراطورية في قمع الفتنة يتم التعبير عنه على أنه واجب عام وغير مقيد.

كان أحد العناصر المهمة للإيديولوجية الإمبراطورية هو الفكرة القائلة بأن القوة الرومانية تضمن السلام، وهو مفهوم يشير ليس الى عدم وجود الحرب بل أيضا إلى انتفاء الجريمة العنيفة. غالبا ما يقال إنه في الواقع، ونظرا للموارد المحدودة المتاحة للسلطات الرومانية فإنها لم تعمل على قمع القراصنة وقطاع الطرق إلا في مناسبات نادرة، ربما فحسب عندما تتعرض المصالح الإمبراطورية للتهديد أو يقدم شخص مؤثر شكوى.

إن القول بأنه كان هناك في كثير من الأحيان توقع بين نخب الإمبراطورية بأن ترد السلطات الرومانية (وأحيانا السلطات المحلية) على أعمال الشغب، يطرح السؤال عما كان يُتوقع من السلطات أن تفعله بالضبط ردا على أعمال شغب معينة. فيما يتعلق بهذا السؤال، تكشف المصادر عن مجموعة دقيقة من التوقعات، والتي لم تكن أيضا متوافقة تماما مع بعضها البعض. ومع ذلك، يظهر أحد المبادئ بشكل ثابت إلى حد ما في المصادر: يجب على الإمبراطور أو الحاكم أو الإداري الذي يواجه أعمال شغب، إن أمكن، تجنب استخدام القوة لقمعها، وعدم اتخاذ تدابير عقابية صارمة في أعقاب فض أحداث الشغب. بمعنى ما، هذا تطبيق على أعمال الشغب وفقا للمبدأ الذي أعلنه سينيكا: أنه من واجب المسؤول اللجوء إلى العقوبة فقط عندما تكون جميع سبل العلاج الأخرى قد استنفدت.

ويوضح ليبانيوس أستاذ البلاغة اليوناني صراحة كيف ينبغي أن يتعامل المسؤول مع أعمال الشغب حيث يرى أن مثيري الشغب هم أشخاص طاش صوابهم، لذلك مثلما ينبغي للمرء أن يشفق على المجنون ويحاول علاجه بالطب، كذلك يجب أن يكون التعامل مع المدن المشاغبة. لا يزال يفترض أن على الإمبراطور أن يفعل شيئا حيال الشغب، لكنه يرفض أن يكون العقاب أمرا مناسبا، ويجب أن تظهر استجابة الإمبراطور الرأفة.

بالنسبة للعديد من المؤلفين الذين يناقشون أعمال الشغب، يبدو أن العلاج المفضل هو أن يستخدم رجل عظيم مكانته الشخصية في أعين الحشد لإقناعهم، إما بحضوره شخصيا أو بموجب مرسوم أو خطاب، لكي يكفوا عن السلوك الهدام. يظهر هذا التفضيل في عدد من الملاحظات الواردة في التقارير حول أعمال الشغب. يحتوي Epitome de Caesaribus على تقرير عن رشق الإمبراطور أنطونينوس بيوس بالحجارة من قبل حشد أثناء نقص الحبوب. ويستخدم الكاتب (أو مصدره) الحادثة لإظهار أن الإمبراطور كان رحيما: لقد اختار تهدئة الموقف بمنطق واضح بدلا من الانتقام. ومن ثم يُثني على سلوك الإمبراطور باعتباره يتوافق مع القيم الإمبراطورية للرحمة والاعتدال التي كثيرا ما يتم التشديد عليها. كاشيوس ديو، عند ذكره أن الإمبراطور هادريان هدأ التوتر في الإسكندرية برسالة، يعلق على أن الحادث يوضح كيف أن كلمة الإمبراطور أقوى من السيف. من الواضح أن الاعتبارات العملية دفعت حاكم آسيا إلى توبيخ الخبازين المشاغبين في أفسوس (مدينة يونانية كانت تقع غرب الأناضول) في مرسوم (محفوظ في نقش): أكد الحاكم أن المحرضين يستحقون القبض عليهم ومحاكمتهم، لكنه اختار كتابة مرسوم بتوبيخهم وتهديدهم، لأن رفاهية المدينة كانت أهم من معاقبة الجناة. ويمكن أن يتعايش التبرير العملي والتبرير القائم على أيديولوجية الرحمة والاعتدال: تقرير كاشيوس ديو عن قمع يوليوس قيصر لأعمال الشغب التي حدثت في 47 قبل الميلاد. يفترض الكاتب أن ظهوره الشخصي غير المتوقع أمام المشاغبين نجح حيث فشلت إجراءات أنطونيوس العسكرية. في الوقت نفسه، شدد على أن رفض قيصر القيام بأي شيء أكثر قسوة كان مثالا على رأفته الاعتيادية.

أنطونينوس بيوس

ويشير مؤرخ أنه في بريطانيا في القرن التاسع جرى تهدئة أعمال الشغب عن طريق الحكام الذين يقنعون المشاغبين بشكل أكثر فعالية من استخدام القوات.

استخدام القوات ضد الحشود

ومع ذلك، فإن الأدلة المتعلقة باستخدام المناشدات الشخصية لتهدئة أعمال الشغب، على ما يبدو، مشوهة بطريقة واحدة على الأقل: القادة الذين تعتبرهم المصادر (أو الروايات التي تقف وراءها) غير أخلاقيين أو قساة أو موضع احتقار عادة لا ينجحون في استخدام أسلوب الإقناع مع مثيري الشغب.

تحتوي المصادر أيضا على روايات عن محاولات للسيطرة على مثيري الشغب أو معاقبتهم باستخدام أساليب أخرى غير المناشدات الشخصية. تضمنت هذه الأساليب في الغالب استخدام القوات ضد الحشود، على الرغم من وجود بعض الإشارات لأنواع أخرى من الاستجابة الرسمية. عندما يتعلق الأمر باستخدام القوات ضد الحشود، فإن تقييمات الجدارة الأخلاقية للإمبراطور أو الذي يقود القوات تكون لها أهميتها هنا. وهناك تقارير مختلفة عن أباطرة استخدموا جنودا لذبح الحشود التي لم تكن مذنبة إلا باحتجاجات لفظية أو إهانات، غالبا ما تُلفظ في مكان عام. تتعلق كل واحدة من هذه الحوادث بقائد لم يستحسنه كاتب معين أو الروايات كلها بشكل عام: الأباطرة جايوس ونيرو وفيتيليوس ودوميتيان وكومودوس وديديوس جوليانوس وكاراكالا. تميل الحوادث إلى ذكر دموية وقسوة وعنف هؤلاء الأٍباطرة المزعوم والتي يمكن ان تملأ مجلدات

في ظل الإمبراطورية، مع زيادة الإشراف من قبل المسؤولين الإداريين ووجود قوة شرطة، كان من الممكن أن تكون هناك حاجة ونطاق أقل في روما للعدالة الشعبية. ومع ذلك، يصف تاسيتوس حادثة جاء فيها عوام الرومان لمساعدة الأبرياء الذين يعانون على أيدي السلطات، وهو استنساخ لما حدث في الأيام الأولى للزعامة. عندما قُتل حاكم المدينة، بيدانيوس سيكوندوس، على يد أحد عبيده، وكان يتم تنفيذ حكم الإعدام بأسرة العبيد في المنزل بأكملها كما هو معتاد، احتشد العوام لحمايتهم، الأمر الذي كاد يتسبب في أعمال شغب. نتيجة لذلك، كان هناك نقاش في مجلس الشيوخ أظهر أن الأغلبية تؤيد اتباع التقاليد. لكن لم يتم تنفيذ الحكم على الفور لأن الحشد هدد باستخدام الحجارة والمشاعل. وهذا دليل جيد على أن روح المجتمع القديم لم تمت في المدينة متعددة الأعراق.

من ناحية أخرى، عندما يُنظر إلى الحكام على أنهم يستخدمون القوات ضد حشد من الناس، تميل الروايات إلى تصوير الحشد على أنه استخدم العنف الفعلي أولا. لذلك يبدو أنه بالنسبة لمؤلفي المصادر وأولئك الذين نقلوا الروايات وراء هذه المصادر، لم يكن من غير المعقول أن يستخدم الحاكم “الجيد” القوة العسكرية ضد حشد ما، طالما أن الجماهير كانت تتصرف في الواقع بطريقة عنيفة. تم توضيح هذا المبدأ بدقة من خلال حكاية لدى ليبانيوس تتعلق بقنسطنطين: كان الإمبراطور، كما يدعي ليبانيوس، هدفا للصيحات الفاضحة من الشعب الروماني. عندما سأل شقيقيه عن كيفية الرد، نصحه أحدهما بذبح الحشد والآخر بتجاهل السلوك كما كان “يليق بحاكم”. من المفترض أن قنسطنطين رد على هذه النصيحة بإعلانه أن النهج الأخير هو النهج الصحيح، وأن الحكام يجب أن يتسامحوا مع مثل هذا التمرد. وسواء كانت الحكاية صحيحة أم لا، فهي تسلط الضوء على كيفية اعتبار التدخل العسكري غير مناسب ضد حشد مذنب فقط بالإهانات اللفظية.

الاعتدال مطلوب اذا صار قمع الحشد ضروريا

علاوة على ذلك، في حالات القمع العسكري، هناك توقع بأن تكون القوة المستخدمة لقمع الحشد معتدلة. يرد هذا في كتابات سينيكا حيث أبلغ أحد كبار المسؤولين نيرون أن قائد الحشد العنيف الذي كان يهدد القصر قد قُتل، وبالتالي توقفت أعمال الشغب. غضب نيرون من هذا، ورأى أنه كان يجب قتل الحشد بأكمله، وهو الموقف الذي عامله المسؤول على أنه غير لائق ونتيجة للشعور بالأسى. هناك رفض مماثل لأعمال القمع غير المعتدلة. يدعم هذا تقرير إوتروبيوس عن أعمال الشغب التي قام بها عمال سك العملة في روما في عهد أوريليان: تم تصوير العمال على أنهم بدأوا أعمال الشغب وارتكبوا جرائم قتل قبل بدء القمع العسكري. ومع ذلك، يُقال إن أوريليان قد قمع أعمال الشغب بمنتهى القسوة ما يعني أن هناك حدودا يجب على القائد مراعاتها حتى عند التعامل مع مثيري الشغب المذنبين بارتكاب أعمال عنف.

هذا الاعتقاد بأن القوات يجب ألا تستخدم إلا ضد الحشود العنيفة، وباعتدال أيضا، ليس موجودا في جميع التقارير عن أعمال الشغب التي حدث فيها قمع عسكري. تميل النصوص التي تركز بشدة على سوء التصرفات العنيفة للجماهير إلى عدم إبداء أي رأي حول ما إذا كان العمل العسكري معتدلا أو مفرطا، وعادة لا تقدم أي تفاصيل عنه تستدعي مثل هذا الحكم.

يقدم العديد من الكتاب من شرق الإمبراطورية فارقا بسيطا مختلفا قليلا في تقاريرهم عن استخدام القوات ضد الحشود من قبل الحكام “الجيدين”: حتى عندما يتصرف الحشد بعنف منذ البداية، يتم استخدام القوات كملاذ أخير، ولا تستخدم إلا بعد فشل تقنيات مكافحة الشغب الأخرى. في مثل هذه الحالات، قد يتم تقديم العمل العسكري النهائي على أنه صارم تماما وغير مقيد، لكن يتم تبريره ضمنيا على أنه الملاذ الأخير. في روايته لمواجهة القوات لحشد من سكان الإسكندرية المشاغبين، يزعم المؤرخ ديو كريسوستوم أن القائد حاول في البداية تجنب اشتباك الحشد مع الجنود الذين كانوا تحت إمرته وتحدث معهم ببساطة. ولكن عندما اشتبك الحشد مع القوات أطلق لهم العنان للتعامل معهم بصرامة مطلقة.

علاوة على ذلك، في بعض الأحيان يتم تقديم الحشود على أنها لا تتحدى السلطات فحسب، بل إنها تنجح إلى حد ما في تحديها. صحيح أن بعض التقارير عن القمع العسكري تقدم تصرفات الجنود على أنها سريعة وحاسمة إلى حد ما. ومن المثير للاهتمام، أن هذه الحوادث قد حدثت في الغالب في مناطق منبسطة ومفتوحة نسبيا في المدن، مثل المدرج والمناطق خارج المساكن الإمبراطورية. ولكن أعمال الشغب التي يقال إن المشاغبين كانوا في المباني أو فوقها، أو في الشوارع الضيقة، تصور مقاومة أكثر نجاحا إلى حد ما للقمع العسكري.

تقارير أعمال الشغب الأخرى خلال القرنين الأول والثالث تصف معارك ضارية بين الناس والجنود. وهناك تقارير عن استيلاء الأسرة الفلافية على روما في 69 م تصور أنصار فيتيليوس، وكثير منهم كانوا مدنيين على ما يبدو يلحقون خسائر بالغة بالجنود عن طريق رشقهم من أعلى المنازل ببلاط السطح والرماح والحجارة. وهناك تقارير لدى هيروديان عن أعمال شغب في كل من 190 و238 زعم أن الحشود قاومت القوات من خلال إلقاء بلاط السقف والحجارة والأواني عليهم من أسطح المنازل. يؤكد هيروديان أنه في عام 190 لم تتوقف المعركة إلا عندما حقق مثيرو الشغب رغبتهم وهي الحصول على رأس كلياندر. وكان كلياندر عبدا معتوقا مقربا من الإمبراطور كومودس حتى أنه وصل إلى مرتبة قائد الحرس الإمبراطوري ومع زيادة نفوذه – وهذا طبعا ما يشيعه عنه المؤرخون المعاصرون الذين لم يقبلوا اهتزاز النظام الاجتماعي على هذا النحو – بدأ في بيع أعلى وظائف الإمبراطورية. في عام 190 حدث نقص في المواد الغذائية والقى البعض باللوم فيه على كلياندر. وأثناء سباق للعربات بدأ الجمهور في الهتاف ضده فلجأ إلى القصر ليحتمي بالإمبراطور فتبعوه ولم يجد الإمبراطور بدا من تسليمهم رأسه وقتل ابنه أيضا. في عام 238، يزعم أن الجنود أجبروا على إضرام النار في المنازل التي استخدمها الحشد، ما أدى إلى إسكات الجموع المثيرة للشغب. تحتوي تقارير التاريخ الأغسطي من أحداث 238 على تفاصيل مماثلة. في حياة المشرع القانوني أولبيان وقع شجار كبير بين الأشخاص والحرس الإمبراطوري، أدى إلى معركة استمرت ثلاثة أيام مع خسائر فادحة على كلا الجانبين. ويقال إن الحرس الإمبراطوري الذي عانى الكثير من الخسائر بدأ في إضرام النار في المباني. أخيرا، يقال إن تمرد عمال سك العملة في روما في عهد أوريليان تم إخماده بخسارة كبير بين صفوف الجنود.

بلاط الأسطح كسلاح

وكان بلاط السقف لسكان المدن بمثابة سلاح مهم في ترسانة مدنية محدودة. بالنسبة للمؤرخ، يقدم بلاط السقف كسلاح منظورا كاشفا لتجربة العنف الحضري في العصور الكلاسيكية القديمة. ربما كانت أهم بلاطة سقف من الناحية التاريخية هي تلك التي ألقتها امرأة عجوز على الملك بيروس الإبيري لتقتله أثناء هجومه على أرجوس عام 272 قبل الميلاد. يكتب بلوتارخ أن البلاطة أصابت بيروس ليسقط فاقدا الوعي اثناء مهاجمته لابن المرأة العجوز. تم جر الملك بعد ذلك وجزت رأسه.

تشير العديد من التقارير عن كل من البلاط والحجارة التي تم إلقاؤها من أسطح المنازل إلى أن الأخيرة كانت توضع أحيانا على البلاط لتثبيته بشكل أكثر أمانا، وهي تقنية لا تزال قيد الاستخدام على نطاق واسع في بلدان البحر الأبيض المتوسط.

لأن البلاط كان يرتكز ببساطة على الأسطح، كان يسهل على المقاتلين في المناطق الحضرية، ربما بمفردهم أو بمساعدة رفيق، نزعها من مكانها. إذا وجدوا البلاطة ثقيلة جدا بحيث لا يمكن رميها، فقد يقومون إما بتكسيرها إلى قطع أصغر يمكن التحكم فيها أو يقومون بإسقاطها على الأشخاص أدناهم. لم يكن البلاط المتصدع أو المكسور غير شائع (الكسور هي، في الواقع، عيوب رئيسة في الأسقف المكسوة بالبلاط في مقابل الأسقف المصنوعة من القش).

سلاح باهظ الثمن

كان البلاط باهظ الثمن نسبيا. قد تكلف البلاطة الواحدة أجر يوم ونصف. ومع ذلك، فإن معظم المباني الحضرية، الخاصة والعامة على حد سواء، حتى تلك الموجودة في المناطق الفقيرة، كانت تحتوي على أسقف مبلطة بحلول القرن الخامس قبل الميلاد. كانت الدولة تغطي أحيانا تكلفة استبدال قرميد الأسقف، ليس لتوفير أسلحة محتملة للناس بقدر ما تسعى إلى منع انتشار الحريق من سقف إلى آخر. كما تم في بعض الأحيان نهب البلاط من المباني العامة. على أي حال، يكون استخدام بلاط الأسطح في حرب المدن أو أعمال الشغب مكلفا للغاية بالنسبة للمقاتلين والمجتمع، واللجوء إلى هذا السلاح يشير بلا شك إلى أن المخاطر كانت عالية جدا للمشاركين. انتزع سكان سيلينيوس (على الساحل الجنوبي الغربي لجزيرة صقلية) في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد كل البلاط من عدة أسطح ليدافعوا بها ضد الغزو القرطاجي، ليتم نهب مدينتهم في النهاية. دافع سكان مدينة في Veii (على بعد 16 كيلومتر شمالي غرب روما) عن أنفسهم ببلاط السقف ضد الغزاة الرومان الذين دمروا المدينة في نهاية المطاف.

بمجرد الوصول إلى السطح مع وجود البلاط في متناول اليد، يمكن أن يتوقع الساكن في المناطق الحضرية أن يلعب دورا في العنف الحضري فقط إذا كان موقع الحدث على الأرض في نطاق البلاط الذي يسقط أو يتم إلقاؤه. في هجوم بيروس الإبيري على أرجوس لم يذكر بلوتارخ استخدام البلاط أثناء احتدام المعركة في المناطق المفتوحة من المدينة. لم يضرب بيروس ببلاطة إلا بعد أن تراجع هو وجيشه إلى شوارع أرجوس الضيقة. وبالمثل، خلال هجومهم على إسبرطة (195 قبل الميلاد)، لم يحقق الرومان – الذين رشقوا بالبلاط في الشوارع الضيقة – النجاح إلا بعد أن شقوا طريقهم إلى مناطق أوسع.

من المحتمل أيضا أن فعالية بلاط السقف كسلاح كان يعيقها تفاوت مستويات السطح، وانحداره والفجوات بين المباني. على الرغم من أن هذه الملامح لم تمنع بالضرورة الحركة على الأسطح، فمن غير المرجح أن يتمكن رماة البلاط دائما من مواكبة سرعة الاضطراب أو المعركة على مستوى الشوارع أدناه.

هذه الافتراضات حول نتائج المحاولات العسكرية في قمع أعمال الشغب لم تكن موضع اقتناع من قبل النخبة في غرب الإمبراطورية فحسب. يدعي جوزيفوس أنه، خلال اضطرابات السنة الرابعة قبل الميلاد، أرسل هيرودس أرخيلاس ملك يهودا تحت الحكم الروماني مفرزة من الجند لضبط قادة أعمال الشغب في القدس. بدأ الحشد في رشق معظم المفرزة حتى الموت، ولم يتمكن أرخيلاس من قمع الشغب إلا باستخدام الجيش كاملا. يذكر جوزيفوس أيضا في تقريره عن الاضطرابات في الإسكندرية اثناء تولي مسؤوليتها تي يوليوس إسكندر أن اليهود السكندريين قاوموا القوات الرومانية لبعض الوقت، وألحقوا خسائر بالجنود الرومان. ويكرر أنه أثناء اضطرابات عام 66 أجبر حشد في القدس قوة رومانية على الفرار بإلقاء المقذوفات من الأسطح وعرقلة تقدمها خلال الأزقة الضيقة.

يجد المرء أيضا أوصافا لحشود ترشق الجنود من أسطح المنازل بالبلاط والحجارة في المؤلفين من ثوقيديدس فصاعدا، على الرغم من أن هذه الأوصاف ربما لا تكون متشابهة بما يكفي في اللغة والتفاصيل. وصف المعركة بين حشد وجنود في عام 190 هو ببساطة استقراء إبداعي – أو إضافات وهمية – من رواية كاشيوس ديو عن نفس الحادثة، وأن هذه الإضافات ربما تتضمن وصفا للحشد الذي رشق الجنود بالحجارة وبلاط الأسقف. ربما يكون هيروديان قد أسقط بالفعل بعض تفاصيل أعمال الشغب التي وقعت في عام 238 مرة أخرى على أحداث الشغب عام 190، وهو الإجراء الذي تم تفسيره جزئيا من خلال حقيقة أنه ربما كان شاهد عيان على أحداث عام 238، وجزئيا من خلال تشديده على أحداث عام 238.

الاشتباكات مع المحتجين أمر دموي وتوصف بالحروب

على أي حال، وبغض النظر عن قيمتها التاريخية، تُظهر هذه الروايات أن أعضاء النخبة في الإمبراطورية اعتقدوا (عن صواب أو خطأ) أن القمع العسكري لأعمال الشغب يمكن أن يكون شأنا دمويا ومعقدا. يشار إلى أنه في وصفهم للاشتباكات بين الحشود والجنود، غالبا ما يطلقون على هذه الاشتباكات اسم حروب وغالبا ما تستخدم المصادر لغة تؤكد إراقة الدماء والأضرار التي لحقت بالمدينة. يدعي كاشيوس ديو أن الأضرار التي لحقت بقوات فيسبسيان من خلال رمي الحجارة والبلاط من قبل المؤيدين لفيتيليوس ساهمت بشكل مباشر في الرقم البالغ خمسين ألف جندي قتلوا خلال هجوم القوات. يدعي هيروديان أنه في عام 190، قُتل العديد من الجنود بالحجارة والبلاط التي ألقاها الحشد. كما يدعي أنه في عام 238، أشعل الجنود الحرائق لإخراج مثيري الشغب من المنازل “فأحرقوا الجانب الأكبر من المدينة”.

يدعي كتاب التاريخ الأغسطي وأوريليوس فيكتور أن تمرد عمال سك العملة في عهد أوريليان أسفر عن مقتل سبعة آلاف جندي. يعطي فيكتور هذا الرقم (المرتفع نوعا ما) لتوضيح خطورة الحدث، ويستشهد التاريخ الأغسطي بما يُزعم أنها رسالة كتبها أوريليان يدعي فيها الإمبراطور أن الآلهة لم تمنحه الانتصار على عمال سك العملة دون مشقة.

كان هذا جزءا من التوقع العام بأن الإمبراطور يجب عليه قمع القرصنة واللصوصية والتهديدات الأخرى للنظام العام. كانت الإجابة على السؤال حول ما يجب أن تفعله السلطات الإمبراطورية ردا على أعمال شغب في حالة معينة، غالبا ما تكون مرتبطة بأيديولوجية الرأفة والاعتدال: يجب على الحاكم الجيد أن يتجنب استخدام القوة لقمع الشغب، وبدلا من ذلك يحاول الإقناع الشخصي، وبالتالي يجنب المشاغبين (والقوات) أهوال الاشتباك بين الحشد والجنود. ورُئي أيضا أنه إذا أجبر زعيم من خلال السلوك العنيف للحشد على استخدام القمع العسكري، فيجب أن يتم ذلك باعتدال، ولا ينبغي أن يؤدي الى مجزرة. أما بالنسبة لمجرد الاحتجاجات اللفظية من جانب الحشد، فقد اعتبر أنه من غير المناسب للإمبراطور أو المسؤولين المرؤوسين استخدام القوات العسكرية لإسكاتها. يرتبط هذا الرأي بالتأكيد بالتوقع العام بأن الإمبراطور يجب أن يستمع وينظر بجدية في الالتماسات الصارخة من الجمهور، خاصة في المواقف العامة. الرد على مثل هذه الصيحات بمذبحة هو مثال بامتياز على فشل الإمبراطور في تلبية هذا التوقع. إن فكرة أن الإمبراطور يجب أن يتسامح مع سخرية الجمهور هي أيضا مرتبطة بالتوقع العام بأن الإمبراطور يجب أن يتغاضى عن مجرد الإهانات اللفظية.

 

مقالات من نفس القسم