مجنون الامبراطورية (6): الجيش في السياسة

مكتبة سيلسوس (في تركيا)
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الغني محفوظ

بحلول أواخر الجمهورية، أصبح الجيش الروماني جماعة متمايزة عن جماعة المواطنين المدنيين وله مصالح مادية متميزة ومنافسة. استغل جنرالات الجمهورية المتأخرون والقادة السياسيون هذه المصالح المادية، وهو نمط استمر أثناء الإمبراطورية. في الفترة الإمبراطورية، لعب الحرس الإمبراطوري الدور الأكبر في السياسة بسبب قربه من روما والأباطرة.

داخل العائلة الإمبراطورية وحدها نعرف تورط الحرس الامبراطوري في وفاة أجريبا بوستوموس ونيرون ودروسوس وأجريبينا الكبرى وتيبريوس جيميلوس وبريتانيكوس وأوكتافيا. كانت مفارز الحرس الامبراطوري مسؤولة عن إعدام أفيليوس فلاكوس، الحاكم السابق لمصر، من بين آخرين، خلال عهد نيرون، وروبيليوس بلوتوس الذي اثار عداوة نيرون. غير أنه من الخطأ النظر إلى الحرس الامبراطوري على أنهم مجرد قوة قمعية مثل الجستابو أو الكي جي بي. لا يجب ان تخدعنا مثلا قسوة موت أوكتافيا. لا ينبغي أن نتجاهل الوحشية التي كان الحرس يمارسونها، لكن مثل هذه الأنشطة كانت مجرد جزء صغير من أعمالهم. كانوا يحافظون على الهدوء في مسارح روما المضطربة وكان يتم إرسالهم أحيانا، عند الحاجة، إلى مدن أخرى في إيطاليا. لكن قبل كل شيء، يجب ألا ننسى أبدا مدى فعاليتهم في حماية النظام. قاموا بسحق مؤامرات ميسالينا في 48 ق م وبيسو  في 65 ق م.

المجال الثاني لنشاط الحرس الإمبراطوري الذي يجب أن نلاحظه هو عندما تدخلوا في العملية السياسية بمزيد من الاهتمام الذاتي الواضح عند اغتيال نيرون في  41 ميلادية. لم تكن استعادة الجمهورية تمثل عنصرا جاذبا للحرس الإمبراطوري. وهكذا جرى العثور على كلاوديوس واقتياده إلى ثكنات الحرس الامبراطوري حيث وعد كل جندي من الحرس بدوناتيفا هائلة بلغت 15 ألف سيسترسيس، وهي سابقة مدمرة. ظل مجلس الشيوخ العاجز يحتج وينفخ – ثم استسلم. كان أسلوب صعود كلاوديوس للعرش ذا أهمية كبيرة. منذ ذلك الحين أصبح تأييد الحرس الإمبراطوري، بالنسبة إلى الامبراطور الجديد، قيدا لا مفر منه. في عام 68 ميلادية أدرك الحرس الامبراطوري أنهم إذا كان بإمكانهم ان ينصبوا الأباطرة فيمكنهم أيضا خلعهم. دعمهم لجالبا في ذلك الوقت يشير إلى كل من عدم شعبية نيرون وفعالية الوعود الكاذبة لنيمفيديوس. مرة أخرى، كان استبدال جالبا بأوتو مدفوعا، قبل كل شيء، برفض الإمبراطور العجوز دفع الدوناتيفا التي وعد بها نيمفيديوس باسمه. في كل هذا قد نكتشف تصميما بين الحرس للحفاظ على امتيازاتهم وشروط الخدمة المميزة.

لم يكن موت الطاغية كاليجولا كافيا لكاسيوس شايريا قائد الحرس الامبراطوري. في عمل مشين وغير ضروري من أعمال الوحشية قام بذبح زوجته قيسونيا وابنته دروسيلا.

الجيش لم يكن حزبا سياسيا

ومع ذلك، من الناحية الاجتماعية، لم يكن الجيش يشبه حزبا سياسيا حديثا، أو طبقة اجتماعية واقتصادية حديثة، أو نظاما قديما (جماعة محددة بالوضع الرسمي وليس بالثروة). كان يعمل به قطاع عريض من المجتمع الروماني، من أعضاء مجلس الشيوخ إلى عامة الناس وحتى العبيد (خدم الجنود). وباستثناء القيم العسكرية وبعض الطقوس الدينية، لا يبدو أن الجنود الرومان كانت لهم تطلعات مختلفة كثيرا عن المجتمع “المدني”. كان دعم الجنود للقادة الأرستقراطيين (القادة والأباطرة) مشروطا باحترامهم للتسلسل الهرمي. في ظل الظروف العادية، شعروا برباط الولاء الذي عززه القسم والطقوس الدينية برئاسة القائد (القنصل في الجمهورية التقليدية) أو الإمبراطور كقائد أعلى للقوات المسلحة أو نوابه.

عزز القادة والإمبراطور كقائد أعلى رباط الولاء هذا من خلال منح الأوسمة والمكافآت لرجالهم. تم اعتبار المدفوعات للجنود (الراتب والدوناتيفا ومكافآت الخدمة) بمثابة تكريم ومكافآت. لكن الجنود كانوا يستمدون دعمهم من القادة الذين اعتبروا أنهم يهينونهم، من خلال السلوك المتغطرس أو اللاأخلاقي، أو إساءة معاملة الجنود، أو حجب المكافآت المادية.

هذا هو التفسير الأكثر منطقية للانشقاقات وحركات التمرد في أواخر الجمهورية وللثورات العسكرية ضد الأباطرة وتزكية الأباطرة الجدد في الفترة الإمبراطورية. رفض الإمبراطور جالبا (68-69 م) تقديم دوناتيفا موعودة إلى الحرس الإمبراطوري، قائلا: “أنا أحشد جنودي، أنا لا أشتريهم”. انشق الحرس الإمبراطوري على جالبا، داعمين انقلاب ماركوس سالفيوس أوثو (إمبراطور 69 م). يلقي المؤرخ تاسيتوس باللوم على طبيعتهم الارتزاقية، لكنه يشير أيضا إلى أنهم شعروا أن رفض جالبا قد أهانهم، وكان يكفي الدفع الرمزي.

الجنود يفضلون استمرارية الأسرة الحاكمة

في السياسة الإمبراطورية، يبدو أن الجنود كانوا يفضلون استمرارية الأسرة الحاكمة، وهو السبب المحتمل لدعم الحرس الإمبراطوري لكلاوديوس الأول (41-54 م) كإمبراطور، على الرغم من أنه أعقب توليه بتبرع كبير إلى الحرس. كان كلاوديوس عضوا في عائلة جوليو كلوديان الإمبراطورية، على الرغم من أنه كان اختيارا غير مرجح كإمبراطور (كان معاقا ولم يكن يشغل أي مناصب عامة أو عسكرية). كما أيد الجنود اختيار ماركوس أوريليوس لابنه كومودوس (180-192 م) واختيار سبتيموس سيفيروس لابنه كاراكالا (211-217). تصور المصادر المؤيدة لقنسطنطين الكبير (306-337) الجيش على أنه يدعم ادعاءه الوراثي، باعتباره ابن قنسطنطين الأول، أحد رؤساء الرباعية، على الرغم من أن النظام الرباعي كان بشكل ملحوظ غير وراثي. ولأسباب مماثلة، دعم الجيش اختيار فالنتينيان الأول لأخيه فالنس وابنه الصغير جراتيان كأباطرة مشاركين، وبالتالي رفع ابن فالنتينيان الأصغر فالنتينيان الثاني إلى العرش.

أجريبينا الكبرى
أجريبينا الكبرى

ليس من المؤكد ما إذا كان الجنود الرومان قد اقتنعوا بدعم القادة أو الانشقاق عليهم لأسباب سياسية عامة، على سبيل المثال، لدعم موقف سياسي. يبدو أن جيوش الجمهورية المتأخرة كانت موالية للشخصيات وليس البرامج السياسية. تم تجنيد العديد من الجنود في أواخر الجمهورية، وخاصة بعد الحرب الاجتماعية (91-87 قبل الميلاد) ومنح الإيطاليين حق التصويت، من خارج روما وربما يعرفون القليل عن التقاليد والمؤسسات المدنية في روما. ازداد هذا الاتجاه مع تجنيد الجنود في الخارج. على الرغم من أن بروتوس وكاسيوس قدما أنفسهما على أنهما يدافعان عن الجمهورية التقليدية، فقد تم تجنيد جنودهما من المواطنين الرومان والحلفاء في شرق البحر الأبيض المتوسط الذين ربما يعرفون القليل أو لا يعرفون شيئا عن التقاليد الجمهورية. في فترة الزعامة (الممتدة من تولي أغسطس إلى انتهاء أزمة القرن الثالث)، تم تجنيد الجنود بشكل متزايد من المقاطعات والمناطق الحدودية. لكن من المحتمل أن يتمكن القادة الرومان من التأثير على جيوشهم بدافع كره الأجانب الأساسي، كما فعل أوكتافيان في حربه الأهلية ضد أنطونيوس وكليوباترا، حيث صور كليوباترا على أنها “مصرية” غريبة (أسرتها كانت من أصل يوناني مقدوني).

الشجاعة والرجولة من الفضائل العسكرية

ربما كان الجنود يهتمون بالسلوك الأخلاقي لقادتهم وأباطرتهم، خاصة فيما يتعلق بالذكورة (كانت الشجاعة أو الرجولة إحدى الفضائل العسكرية). أدى غناء نيرون في أماكن وتمثيله على خشبة المسرح وتجربته الجنسية المثلية (يُزعم أنه دخل في زواج المثليين) إلى نفور ضباط وجنود الجيش، كما فعل السلوك الجنسي المثلي المخنث للإمبراطور المراهق إيل جبل. ومع ذلك، ربما لم يكن الجنود معادين للسلوك المثلي لقائد ما في حد ذاته طالما أظهر القائد رجولته وقدرته على القيادة، كما كان الحال مع الأباطرة تراجان وهادريان. المصادر الأكثر وضوحا لـ “الدعاية” الموجهة للجنود هي الخطب السابقة للمعركة لدى المؤلفين القدماء، والتي عادة ما يلقيها قائد كل جانب قبل المعركة. ومع ذلك، فهذه دائما ما تكون إبداعات بلاغية للمؤرخين القدماء، وليست سجلات حرفية لما قيل. إنها تعكس آراء المؤرخين حول ما هو مهم وليس ما يمكن أن يقنع الجيوش بالفعل. لكن في حالات قليلة في الحروب الأهلية، نعلم أنه تم توزيع المنشورات على الجنود، بافتراض معرفة القراءة والكتابة الأساسية لديهم أو أن رفاقهم كانوا يقرؤونها على الجنود الأميين. تشهد المصادر الوثائقية أيضا على خطابات الأباطرة للقوات.

بغض النظر عن مقدار ما يكسبه الجنود الأفراد، فمن الواضح أنه كان يتم حجب بعض الأجور مقابل النفقات والمدخرات. يسرد عدد من أوراق البردي هذه الاستقطاعات، ويظهر مثال واحد مشهور المبالغ المستقطعة للطعام والأحذية الطويلة والجوارب والملابس واحتفال المعسكر بعيد الإله ساتورن وهو واحد من اشهر المهرجات اليونانية، وكذلك المبالغ المودعة. حتى لو تم توفير الإمدادات للأفراد من قبل الجيش، فيجب الحصول عليها من مكان ما. جرى إنتاج بعض الأشياء من قبل الجيش نفسه، في منشآت إنتاجية مملوكة للدولة، مثل المصنع العسكري الكبير للطوب والبلاط والفخار في هولت بالقرب من تشيستر في بريطانيا. كان يتم الاستيلاء على بعض العناصر أو الحصول عليها بطريقة أخرى من الموارد المملوكة للدولة. هناك أمثلة على نقل الشعير إلى الجنود من الضياع الإمبراطورية، وربما كانت هذه إيجارات عينية يدفعها المستأجرون للمسؤولين الإمبراطوريين، وهناك عدد من الإشارات القديمة (ربما استثنائية ومسيئة) لاستيلاء الجيش على أشياء. غير أنه ربما تمت تلبية غالبية احتياجات الإمدادات العسكرية من مصادر مدنية ومعظمها (على الأقل في الإمبراطورية المبكرة والمتوسطة) مقابل الدفع النقدي. تظهر بعض الوثائق التي نجت، عن طريق الصدفة في الغالب، هذه العملية. تُظهر بردية ترجع لعام 138 م دفعة مقدمة للنساجين المدنيين في فيلادلفيا (مصر) على عقد لشراء ملابس وبطانيات للجيش في كابادوكيا. يبدو أن ألواح الكتابة المكتشفة حديثًا من فندولاندا (بريطانيا) تظهر استحواذا تجاريا على مجموعة متنوعة جدا من السلع (أغذية من العديد من الأصناف، والملابس والمنسوجات، والجلود، وأجزاء من عربات خشبية) من المدنيين من قبل الجيش، على الرغم من أنه في معضم الحالات يعد وضع الأشخاص المعنيين وطبيعة الصفقة موضع شك.

رغم كونه عبئا على موارد الدولة، كان الجيش الروماني مسؤولا بشكل مباشر عن جزء من دخله. إلى جانب الاستحواذ العام على الغنائم من الحرب، أشرف الجيش على استخراج الموارد مثل المعادن الثمينة للدولة من المقاطعات. في بعض الأحيان، تم التغاضي عن أهمية الاستغلال، الرسمي وغير الرسمي من قبل الجيش كعنصر من عناصر الإمبراطورية الرومانية لصالح النماذج التي ركزت على التنمية الاقتصادية والتحفيز. في بعض الحالات، قد يعكس هذا الدراسات التي تشكلت أصلا في فترة أحدث في بيئة الإمبريالية الغربية.

———————————-

Iain Spence, Douglas Kelly, and Peter Londet, (eds.), Conflict in Ancient Greece and Rome, Vol. 2, p. 715.

 

 

 

الرواتب والتمويل العسكري في الإمبراطورية

 

إنفاق الجيش هو أكبر عنصر في الميزانية الرومانية

الإنفاق على رواتب ومزايا وإمدادات الجيش الإمبراطوري الروماني كانت تمثل أكبر عنصر منفرد من الميزانية الإمبراطورية. ربما تم تسجيل هذه الميزانية في العصور القديمة، لكن الوثائق على مستوى السياسة الإمبراطورية اندثرت. أعاد العلماء المحدثون بناء واستقراء مالية الجيش الإمبراطوري من ملاحظات من الأدبيات ومن مستندات دفع متفرقة عثر عليها. وعلى الرغم من أنه لا يمكن التوصل إلى نتائج معينة، هناك الكثير من الأدلة على أن تكاليف الجيش كانت مصدرا للصراع. اعتبر الأباطرة والأرستقراطية (النخبة الحضرية) تكاليف الجيش عبئا ثقيلا على المالية الإمبراطورية وانتقدوا جشع الجنود، لكن بما أن قوتهم تعتمد على الجيش، لم يكن الأباطرة قادرين على الاستغناء عن رواتب الجيش، وهداياه، وفوائده. في نفس الوقت، دور الإمبراطور كراع ومحسن لرعاياه جعل رفع الضرائب أمرا غير ممكن. لجأ الأباطرة إلى تدابير قصيرة الأجل لجمع الأموال للجيش، بما في ذلك خفض قيمة العملات الفضية، مع عواقب طويلة الأجل. ربما تم توثيق هذه الميزانية من قبل البيروقراطية الإمبراطورية. ويلاحظ المؤلفون الأدبيون باختصار، على سبيل المثال، أن دوميتيان (81-96 م) رفع أجور الجنود، كما فعل سبتيموس سيفيروس (193-211) وكاراكالا (211-217). وثائق البيروقراطية التي بقيت من مصر والشرق الأدنى تشهد على رواتب الجنود لفروع مختلفة من الخدمة في أوقات مختلفة. جداول الأجور الإجمالية لها أعيد بناؤها واستقراؤها بشكل كبير من قبل الباحثين المحدثين، ويفترض أن معدلات الأجور ظلت متناسبة مع مرور الوقت من القرن الأول قبل الميلاد إلى القرن الثالث.  تتطلب الميزانية كذلك إعادة بناء وافتراضات حول الحجم الإجمالي للقوات المسلحة الرومانية. ونتيجة لذلك، فإن الاستنتاجات حول الميزانية العسكرية ككل تعد غير نهائية. وربما يمكن اكتشاف الباحثين وثائق جديدة من إعادة تقييم معدلات الأجور والميزانية العسكرية الشاملة.

تظهر الأدلة الباقية أن جندي المشاة في فترة أغسطس كان يحصل على 900 سيسترتيوس في السنة، رفعها دوميتيان (81-96) إلى 1200 سيسترتيوس. ربما حصل جندي المشاة على 2400 سيسترتيوس في ظل سيفيروس (193-211) و3600 في عهد كاراكالا (211-217). ومن الثابت أنه كان يحصل على 7200 سسترتيوس خلال حكم ماكسيمينوس (235-238). كان جندي الخيالة يحصل على 1050 (أغسطس) و1400 (دوميتيان) و2800 (سيفروس) 4200 (كاراكالا) و8400 (ماكسيمينوس).

تلقى المشاة المساعدون 750 سيسترتيوس (أغسطس) و1000 (دوميتيان) و2000 (سيفيروس) و 3000 (كاراكالا) و 6000 (ماكسيمينوس). بالنسبة لسلاح لمساعد الخيالة، هناك وثيقة واحدة تشهد 900 (أغسطس)، والمعدلات النسبية ستكون 1200 (دوميتيان)، 2400 (سيفيروس)، 3600 (كاراكالا)، و7200 (ماكسيمينوس).

تتراوح التقديرات الحديثة لتكاليف الجيش الإمبراطوري من 250 مليون إلى 500 مليون سيسترتيوس في عهد أغسطس، إلى 1.12 مليار (في عهد كاراكالا). يشير بعض الباحثين الى أن التكلفة الإجمالية تراوحت بين 350 إلى 380 مليون سيسترتيوس في أوائل القرن الأول الميلادي، بما في ذلك رواتب الجنود والمساعدين والمعاشات التقاعدية للجنود والحرس الإمبراطوري، بافتراض أن المساعدين حصلوا على 5/6 رواتب الجندي. وكان الناتج القومي الإجمالي للإمبراطورية الرومانية يقدر بـ 20 مليار سيسترتيوس. تنفق بعض المجتمعات الصناعية الحديثة نسبة أكبر بكثير من ميزانياتها الوطنية على الدفاع.

تمويل الجيش كان مصدر نزاع سياسي واجتماعي

لم تستخدم الإمبراطورية الرومانية بالطبع الحرب الآلية الحديثة. ومع ذلك، كان الكثير من ثروة الإمبراطورية الرومانية يتمثل في الأرض، وبالتالي لم تكن متاحة بشكل مباشر للحكومة كعملة معدنية. وكان تمويل الجيش مصدر نزاع سياسي واجتماعي. كان تاسيتس وكاشيوس ديو، بوصفهما مؤرخين للإمبراطورية المبكرة، مهتمين به كثيرا. ورفضت النخبة المثقفة، التي ينتمي إليها كل من الأباطرة (قبل أزمة القرن الثالث) وأعضاء مجلس الشيوخ، الإنفاق المفرط على الجيش، وخاصة على الحرس الإمبراطوري. أكد التقليد الأخلاقي للانضباط العسكري على فضائل البساطة والمشقة.

لم تكن الظروف المضغوطة للميزانية الإمبراطورية مجرد مسألة خطاب سياسي. في عام 5 م، بالقرب من نهاية عهده، مدد أغسطس خدمة الحرس الإمبراطوري من 12 إلى 16 عاما وخدمة الفيالق القتالية من 16 إلى 20 عاما، مع احتياطي لمدة 5 سنوات. كان هذا التمديد يعني أن المزيد من الجنود سيموتون لأسباب طبيعية أو من مخاطر الخدمة قبل انتهاء مدتهم، وربما كان المقصود من ذلك تقليل الطلب على المعاشات التقاعدية.

كانت النتيجة اندلاع حركات تمرد في فيالق نهر الراين والدانوب في 14 م. واشتكوا من أنهم يجبرون على الخدمة في سن الشيخوخة، وأن معاشاتهم التقاعدية قد حُجزت أو كانت تتمثل في أرض متدنية القيمة، وأن الاقتطاعات من رواتبهم مقابل الإمدادات ورشوة قادة المئة استهلكت معظم رواتبهم. قدم تيبيريوس بعض التنازلات. لكن لم يكن هناك زيادة في الرواتب حتى دوميتيان، الذي رفع رواتب الجنود بمقدار الثلث ويقال إنه قلل من حجم الجيش للقيام بذلك، وتظهر النقوش أن الخدمة قد تم تمديدها أيضا إلى 25 عاما، ربما لتقليل نفقات المعاشات التقاعدية. على النقيض من هذه السياسات العقلانية إلى حد ما، فإن دور الإمبراطور بصفته راعيا لقواته كان يملي دفع الدوناتيفا، والتي قد تكون ضرورية للحفاظ على ولاء القوات ولكنها أيضا جعلت التخريب ممكنا.

كلاوديوس هو أول من اشترى دعم الجيش بالرشوة

كان كلاوديوس الأول (41-54 ق م) مدينا بصعوده للعرش لدعم الحرس الامبراطوري، ومن ثم قدم لهم دوناتيفا كبيرة للغاية قدرها 15 ألف سيسترتيوس لكل رجل. يلاحظ المؤرخ سوتونيوس أن كلاوديوس كان “أول من اشترى دعم الجيش بالرشوة”. لكن رفض أن منح الهبات يمكن أن يؤدي إلى كارثة. كان نيمفيديوس سابينوس، قائد الحرس الامبراطوري ومؤيد جالبا (الإمبراطور في 68-69 م) قد وعد الحرس الامبراطوري بتبرع كبير، لكن جالبا نفسه رفض دفعه، ما أدى إلى نفور الحرس. اشترى أوثو ودهم وأقنعهم بالثورة على جالبا واغتياله. لقي بيرتيناكس (193 م) وماكرينوس (217-218 م) مصيرا مماثلا عندما حاولوا فرض التقشف المالي على الجيش.

تمثل مصدر آخر للصراع في إمداد الجيش الإمبراطوري. خلال الحروب، وأكثر وأكثر في أوقات السلم، قام الجيش الروماني بتزويد نفسه محليا، وطلب الطعام والعلف والنقل من المقاطعات، وهي ممارسة زادت مع انخفاض القوة الشرائية للعملة الفضية الرومانية. سُمح للأفراد العسكريين بالاستيلاء على الإمدادات والنقل (مثل الحيوانات) من سكان المقاطعات، الذين استاءوا من هذا السلوك، لا سيما عندما يكون بدون تعويض وكان ينطوي على القوة أو الوقاحة. في أوائل القرن الثالث قبل الميلاد، تظهر نقوش من تراقيا وآسيا الصغرى أن المدن طلبت من الأباطرة تعويض الطلبات العسكرية التعسفية. أصدر الأباطرة نصوصا تهدف إلى توبيخ وقمع الجنود. احتفلت المدن بذكرى عدالة الأباطرة من خلال كتابة الالتماس والرد على الاحجار.

 

فيسباسيان

صور الفساد المالي

من منظور الجنود المختلفين تماما، كان الأفراد يقتطع الكثير من رواتبهم مقابل الطعام والعلف والمعدات، بما في ذلك النفقات الأكبر لمرة واحدة مثل الدروع والخيام. تم دفع رواتب الجنود العاديين، وبالتأكيد المساعدين، أقل بكثير من الحرس الإمبراطوري أو الضباط. لم يتلقوا أجرا إضافيا لمصاريف السفر أو الخدمة القتالية. حاول العديد من الجنود دعم الخدم الشخصيين (العبيد) أو الزوجات والأطفال، الذين لم يقدم لهم الجيش رواتب أو حصصا إضافية. كان الصراع على الإنفاق على الجيش أكثر حدة لأن الميزانية الإمبراطورية الرومانية كانت تفتقر إلى ما يسميه العلماء المعاصرون العقلانية الاقتصادية والعقلانية البيروقراطية. كان الدخل مقيدا، وكان الإنفاق مطلوبا، من خلال ثقافة المحسوبية السياسية التي يوزع فيها الحكام الإعانات لإظهار الإحسان تجاه رعاياهم أو لتكريم الأفراد أو الجماعات ذات المكانة العالية. ومن بين هذه المزايا كانت الإعفاءات من الضرائب. تم إعفاء أعضاء مجلس الشيوخ وعائلاتهم وسكان إيطاليا والجنود وقدامى المحاربين من الضرائب. كما منح الأباطرة إعفاءات ضريبية أو حصانات لصالح الأفراد والمجتمعات، وقدموا إعفاءات ضريبية عامة كمزايا لرعاياهم. في نظر رعاياهم، كان الحكام الجيدون (الأباطرة والحكام) يفرضون ضرائب خفيفة بدلا من فرض أتاوة امفرطة، الأمر الذي يمكن أن يؤدي بالفعل إلى ثورات إقليمية. وضعت هذه الثقافة السياسية قيودا على الدخل، خاصة وأن الميزانية الإمبراطورية لم يكن لديها مفهوم الإنفاق بالعجز. كان الأباطرة، مثل فيسباسيان أو ديوكليتيانوس الذين رفعوا الضرائب أو جمعوها بكفاءة أكبر، يعتبرون جشعين.

 

كانت العديد من مصادر الثروة الإمبراطورية غير منتظمة ومتقطعة. جمع بعض الأباطرة الأموال في حالات الطوارئ عن طريق بيع أثاث القصر بالمزاد، والذي كان يحتوي على العديد من العناصر باهظة الثمن. وكان مصدر المال الرئيس ولكن المتقطع هو الغنائم من الغزوات. كانت السبائك الناتجة عن استغلال مناجم المقاطعات مصدرا آخر للدخل الإمبراطوري، وكذلك مصادرة العقارات من الأرستقراطيين الأثرياء الذين حوكموا وأدينوا بالخيانة، وهي ممارسة أساء استخدامها بعض الأباطرة. كانت النفقات أيضا غير منطقية ومحددّة سياسيا. قدم الأباطرة الدوناتيفا للجنود والكونجياريا للمدنيين عند الصعود إلى العرش وفي الذكرى السنوية للمناسبات الكبرى أو للاحتفال بالمناسبات السعيدة (حفلات الزفاف، الانتصارات). لقد قدموا وسائل الراحة العامة ووسائل الترفيه مثل ألعاب المصارعة، وكان من المتوقع أن يساعدوا أعضاء المجموعات ذات المكانة العالية (مثل أعضاء مجلس الشيوخ) الذين وقعوا في براثن الفقر. حتى لو لم يكن الإمبراطور شخصيا مبذرا مثل كاليجولا أو نيرون، كان من المتوقع أن يحافظ الأباطرة أنفسهم على نمط حياة معين يتناسب مع رتبتهم. لقد استوفوا بعض نفقاتهم من العقارات الشاسعة التي يمتلكونها، بدءا من دفع أغسطس 1.43 مليون سيسترتيوس من ممتلكاته الخاصة لمعاشات المحاربين القدامى والتمويل الأولي لخزينة الجيش.

تخفيض قيمة العملة لتلبية مطالب الجيش

بحلول منتصف القرن الثاني فصاعدا، غالبا ما كان الأباطرة يلبون مطالب المدفوعات العسكرية عن طريق تخفيض قيمة العملة، وخلط الفضة مع المعدن الأساسي، وبالتالي زيادة عدد العملات الفضية ولكن خفض قيمتها. كان التأثير على الاقتصاد الروماني تدريجيا. لم ترتفع الأسعار بشكل حاد في البداية نتيجة خفض قيمة العملة ولكنها ظلت مستقرة نسبيا، حيث ارتفعت ببطء خلال أواخر القرن الثاني الميلادي. بدأ التضخم في الارتفاع بشكل حاد بعد 235، وربما ساهم في عدم الاستقرار السياسي في الفترة 235-284، نظرا لأن رواتب الجنود كانت أقل قيمة، ما دفعهم إلى دعم الأباطرة المتنافسين الذين قدموا الدوناتيفا. ومع ذلك، استمر التضخم في الارتفاع بشكل حاد خلال الحكم الرباعي الأول (293-305)، عندما تمت استعادة الاستقرار السياسي.

نجح قنسطنطين في تثبيت العملة، وسك الذهب الصلب الذي أصبح أساس النظام النقدي الروماني اللاحق. منذ أواخر القرن الثالث، سعت الحكومة الرومانية اللاحقة مرارا وتكرارا إلى قمع التهرب الفردي والجماعي أو رفض الالتزامات المالية.

حاول ديوكليتيانوس وقنسطنطين وضع المالية الإمبراطورية على أساس أكثر عقلانية، وإنشاء نظام ضريبي أكثر توحيدا ومعاقبة الأشخاص الذين تهربوا من الالتزامات المالية مثل دفع الأموال أو تقديم الخدمات. استفاد النظام الرباعي الأول من انتصار عظيم على بلاد فارس في 297-298، لكن النظام الرباعي الثاني واجه نفقات الحرب الأهلية. فرض جاليريوس (305-311) ضريبة على إيطاليا. ومع ذلك، فإن هذه الممارسات لم تعوض تكلفة الحروب الأهلية المتقطعة في القرنين الرابع والخامس، وخسارة الكثير من الجيش الشرقي في معركة أدرنة (378)، وفقدان أجزاء من الإمبراطورية الغربية لصالح الغزوات الجرمانية في القرن الخامس الميلادي، وهي المناطق التي لم تعد توفر الضرائب أو القوى العاملة.

————————-

Iain Spence, Douglas Kelly, and Peter Londey, (eds.), Conflict in Ancient Greece and Rome, Vol. 3, p. 1102.

 

 

مقالات من نفس القسم