جمال القصاص
أتصور أن الحجر الأساس في مسار الشاعر والمبدع بشكل عام يتشكل منذ طفولته، ففي فضاء تلك الطفولة نمت لمساته وشهواته وحريته الأولى في ملامسة ذاته والأشياء من حوله، في الطبيعة وخطى البشر وتحولات الزمن.
لذلك فالعودة إِلى منابت هذه الجذور يقودنا إلى قراءة مختلفة ومتجددة للهوية، وكيف يتم النظر من خلالها إلى كل ما يسكننا، من الأفكار والهواجس والرؤى والأحلام، بل كيف يتم اللعب مع الذات ومغامرة التجريب على ظلالها وغبارها، وهل كنت أود أن أكون شاعرا، أم شيئا آخر، ضللت الطريق إليه باسم الشعر.
لذلك أنظر إِلى طفولتي دائما، ليس فقط باعتبارها مخزنا للذكريات والأحلام، وإنما باعتبارها الوعاء الذي تتجسد فيه الفكرة وصورتها معا، فلا يوجد فكر بلا صورة، وإلا سيصبح محض فراغ وعدم، ولا يمكن أن ينتمي الإنسان إلى فراغ، لا شكل ولا لون له.
بهذا الإحساس عشت طفولتي، لمست تحت سقفها الخطوات الأولى الغضة لمساري الشعري، وكينونتي التي أزهو بها شاعرا وإنسانا… عرفت معنى أن أحب وأكره، أفرح وأحزن، معنى أن أرفض وأتمرد، معنى أن أكون مع نفسي وضدها أحيانا، حتى لا يتحول شعاع الشعر في داخلي إلى وحش مدمر، أو يترامى كصحراء موحشة لا أفق لها.
نشأت في أسرة ريفية بسيطة تحب الحياة، ولا تنفصل محبة الحياة عن محبة الشعر.
أَبي كان مأذونا تلقى قسطا من تعليمه بالأزهر… أنا أصغر أخوتي، أخي الأكبر تخرج في كلية اللغة العربية بالأزهر أيضا، كان خطيبا مفوها، ومشاكسا سياسيا عتيدا ذا صوت جميل في تلاوة القرآن. وكان محبا للأدب.
لقد عشت طفولة شاعرة، عززها فضاء القرية الرحب، ومساحات الخضرة اليانعة التي تنداح في الحقول وكأنها وسادة حانية ترتاح عليها العين حين تحلق للأعلى في السماء.
تسلقت أشجار الجميز والتوت والنبق وصادقتها، ونصّبت نفسي في أوقات كثيرة حارسا لها ولثمارها الحلوة المسكرة…
أحببت اللغة العربية، وأحسست بجمال الخط وبلاغته حين ذهبت إلى الكُتاب لأتعلم القراءة والكتابة، قبل التحاقي بالمدرسة، واشتد لساني حين حفظت الكثير من سور القرآن، أدركت أنه لا بد أن يكون لي شيء مميز عن أقراني، شيء يخصني وحدي، أحس به، ويمنحني شعورا بالنشوى والطمأنينة.
أدركت هذا أكثر، حين انفتح خيالي بفرح وشوق على هذه اللغة، وتفوقت فيها، بينما كنت بليدا في الحساب والجبر والهندسة، وما زلت أكره الأرقام ومعادلاتها السمجة. ربما أدرك الآن أنني معادلة شعرية مرحة، دونها وخارج أسوارها لا وجود لي.
لم يمض هذا المسار مثلما أحب واشتهي، فقد ترك لي ما اسميه “جرح الطفولة الغائر”؛ ماتت أمي وأنا لم أتجاوز العاشرة من العمر، وكان هذا قاسيًا، لأنَّني كنت صغيرا، لم أشبع منها، وبي عطش دائم اللهفة لها، كما أن مرآتي الصغيرة لم تستطع أن تلملم تفاصيل وجهها الناصع الرائق، لم أدخر من روحها ما يكفيني في رحلة الحياة، ولم أرسم حنانها وابتسامتها في قصائدي.
وظل إحساس ممض يطاردني بالظلم جراء هذه الفقد المبكر لأمي، وأستطيع أن أتذكر كيف زارتني مرات قليلة ونادرة في أحلامي؛ لكن بشكل شبحي مشوش وعابر، فأنا لا أملك صورة
فوتوغرافية لها؛ وأعرف أن الصورة الفوتوغرافية على المستوى الفني هي تثبيت للحظة في الزمن، لكن مع الحنين ينفتح الكادر على كل الأزمنة، بل تصبح اللقطة أو المشهد زمنا ممتدا لا حدود له.
بهذا الحنين ظلَّت صورة أمي تطاردني في الشعر لسنوات طويلة من عمري؛ أحلم لو أراها ثانية، إلى أن هبطت عليّ وأنا أكتب قصيدة “البحيرة تصفو لطائرها”؛ لقد رأيت صورتها واضحة وشاهقة في منامي، صحوت مهرولا وبدأت أكمل القصيدة:
“زمانٌ.. وأنتَ تخايلُ صورتَهَا في الرذاذِ/ تهدهِدُهَا في يديكَ/ وتَنْفُضُ عنها السّماءَ وقبعةَ الغيمِ”، ثم صرخت وأنا أكتب هذا المقطع: “يا روح ميلي قليلًا.. هي الآن تدنو.. تعدُ الحليب وكعك الصباح.. ترتبُ فوضى خطاي على سلم البرق”..
قلت لنفسي: ما أروعك يا أمي، وبكيت بحرقة وفرح، لأنني رأيتها ليس في الحلم فحسب، بل في شعري… هي أمي التي بعد سنوات كتبت لها متقمصا روحها الطيبة النبيلة:
“عزيزي جمال
أعرف أنني تركتك وأنت صغير
وأنك بكيت كثيرا فوق قبري
كان عليَّ ألا أزعجك بتلوين الحصى
لأنه لم يكن ثمة حصى
كان ثمة ألم ينهشني
وكان لا بد أن أذهب
أن أحرِّر ألمي مني
حتى لا تبتعد السماءُ عن الحقل
ولا يعرف أبوك الطيب
كيف يخبيِّء القمرِ في كورة عمامته.
أنت آخر العنقود
كنت مطمئنة أن لديك ما يكفي من العسل
أنك سترعى عينيَّ
ستضمني في شِعركَ
وأنا أطعمك مكعبَ السُّكر
لا تقلق.. الحياة متسعة هنا
كل شيء مغمور في بداهتهِ
لا زيادة ولا نقصان..
وحشتني
أنتظرك بشغف
سيكون جميلا أن ألدكَ من جديد
أن تلوِّنَ الحصى في حِجري
لكن أرجوك لا تحزن من الفرح بحزنك
تصرف دائما على طبيعتك
أنا أمُّك
أحبكَ إِلى الأبد”.
نعم كان أبي طيبًا جدًا وعادلا، لكنه عاصف عند الغضب؛ هو صاحب مزاج خاص ينعكس في حرصه الشديد على أناقة هندامه، والاهتمام بأن يظل البيت هادئا ومشمسا، فاردا ذراعيه للجميع بمحبة وود… تلك المزاجية جعلتني أولى اهتمامًا بالكيف لا الكم؛ استمتع بالحياة كما أحلم بها، لا كما يريدها لي الآخرون، وأنا مدين له بهذا، مدين له بالطيبة المفرطة، فضلًا عن القدرة على مواجهة الحياة، في أقسى لحظاتها عتمة وألما.
شجعني أبي على القراءة، ودفعني إلى كتابة الشعر، فقد كان لديه ولع باللغة وجرسها الرنان، حتى إنه يلعب بها أحيانا، في مرحه وقفشاته مع أصحابه.
برز هذه اللعب في اختياره لأسماء أخواتي “البنات”، وكنت أسأل نفسي مثلا كيف يكون اسم أختي “هناني” إذ اختار لهن أسماء بعضها فوق المألوف:”هناوات، رياضات، زينات، صدفة، عزيزة”، وكلهن جميلات، فضلا عن أخي عثمان رحمة الله عليه، ثم كنت أنا آخر العنقود، وسمَّاني “جمال”، لا أعرف السبب، لكم أظن أنه تيمنا باسم جمال الدين الأفغاني، حيث كانت تزين “منضرة” البيت ثلاث صور موضوعة في ثلاثة براويز مذهبة لـ: عبد الرحمن الكواكبي، والأفغاني، ومحمد عبده.. وللأسف بعدما كبرت ونمت ثقافتي أحببت الكواكبي ومحمد عبده، لكنني نفرت من الأفغاني وما زال إحساسي تجاهه لم يتغير.
لم يكن لدينا في البيت مكتبة بالمعنى المتعارف عليه، فكل الكتب التي كان يشتريها أبي لها علاقة بتفاسير القرآن، لكني قرأت منها كتابًا كان محفزًا لي، هو كتاب “المنتخب من أدب العرب” في جزأين؛ الأول خاص بالشعر والثاني خاص بالنثر، وكان له عظيم الأثر علىّ، بينما لجأت لمكتبات متعددة، أهمها مكتبة قصر ثقافة كفر الشيخ، فكنت أقرأ كتبًا وأستعير أخرى، وأذكر أنني نسخت أعمالًا متعددة بخط يدي، منها أعمال جبران خليل جبران، وإيليا أبو ماضي، وغيرهما.
تزوج أبي بعد موت أمي من امرأة طيبة لم تنجب، رعتني واهتمت بي وكنت بمثابة طفلها الذي لم تنجبه، ومن خلال تجمعنا معًا تحت سقف الأسرة، خاصة في المناسبات والأعياد، كان أبي يقطر سعادة، وهو يداعب أحفاده، ويوزع عليهم النقود.. كان الكلام دافئا وحنونا وهو ينزلق من فوق شفاهنا بشكل عفوي، كأنه عناق حي للصوت والصدى معا.. من هنا تعلمت معنى الكتلة المتراصة في نسيج واحد، ومعنى أن تكون فردا فاعلا فيها، ولعله أول درس تلقيته في فكرة الانتماء.
عززت فكرة الحياة داخل الكتلة لدي إحساسا بأنه يجب أن يكون لي صوتي الخاص المسموع، إلى حد الجلجلة أحيانا، صوتا لا يشبه أحدا سواي، كما عززت فكرة المغامرة ولو بالقفز في المجهول، فما زلت انظر للمجهول في الحياة كأنه شيء طبيعي، وجزء حميم من تكويني، ليس قرينا للغموض أو العدم.
برزت فكرة الصوت المسموع في إصراري على مواجهة المجموع/ الكتلة، فصعدت إلى منبر الجامع، تماما مثلما كان يفعل أبي في مواجهة الحياة، والقدرة على تنويعها كل أسبوع في لقاء حي، حتى إنه شجعني كثيرًا عندما قررت تحدي أقراني من طلبة الأزهر الذين كانوا يستعيرون الكتب مني ثم يعودون ليتباهوا أمامي بأنهم خطباء؛ كان عمري آنذاك لم يتجاوز السابعة عشرة عندما صعدت المنبر، وخطبت الجمعة، وصليت بالناس إمامًا.
كان أبي سعيدا بهذه المغامرة، ونجاحي فيها، وما زالت تخايلني صورته السمحة، وهو يربت على كتفيّ عقب خروجنا من المسجد. لقدا متصالحًا مع نفسه، ومؤمنا بالاختلاف؛ كان أبي وفديًّا بامتياز، ولا يحب الرئيس جمال عبد الناصر، ولا يكرهه أيضًا، لكنني أذكر أنَّه بكى بشدة عندما مات “عبد الناصر”، بل ذهب للمشاركة في الجنازة على رأس كوكبة من أهالي البلد، وعندما سألته “لماذا ذهبت وأنت مختلف مع أفكاره”، قال لأنَّ الذي رحل “رجل وطني شريف، يصعب أن نعوضه”.
كنت آنذاك أؤدي واجب الخدمة العسكرية، وقد أضفت سنوات الخدمة الطويلة لتجربتي الحياتية الكثير، ففي بداية سنوات التجنيد ألحقوني بسلاح الصاعقة، ومن التوحش على الأرض إلى الطيران والقفز من الجو؛ حيث ألحقت فيما بعد بسلاح المظلات، ولمّا أصيبت قدمي جرَّاء قفزة ليلية صعبة نقلوني إلى سلاح المشاة، خلال تلك الفترة التي امتدت لنحو 7 سنوات ترقيت إلى رتبة رقيب مجند، وشاركت في جزء من حرب الاستنزاف، ثم حرب السادس من أكتوبر.
في الجيش تحولت الكتلة إلى ملحمة، تتجدد يوميا بالكد والعرق والنضال، كنت أرى مصر تتدفق في خطى الجنود والضباط، وانتظارهم الحارق للحظة العبور والانتصار، لكم أتمنى أن أستعيد هذه الكتلة الحية من البشر التي تصنع ملحمة الحياة.
كان الشعر بمثابة خبز يومي، أتخفف به من حرقة هذا الانتظار الذي تردد صداه بقوة في قصائدي وكأنه صرخة بحجم الكون والأمل:
“هنا كل يوم
أمارس موتي ولكنني لا أموت
تفحِّمني ألفُ فكرة
تجرجرني النارُ من سترتي البالية
فأطرق مسترخيا تحت جسر القنوط”.
في الشعر شكلت تجربة جماعة “إضاءة 77” ومجلتها الشعرية، التجلي النوعي الأمثل لفكرة الكتلة. ولا غرو أن أقول هنا، إن تجربة إضاءة 77 شكلت الموجة الأساس لجيل شعراء السبعينيات ليس فقط في مصر، بل في الوطن العربي..
شاركت في تأسيس المجلة مع زملائي الشعراء: حلمي سالم وحسن طلب ورفعت سلام، ومع صدور العدد الثالث خرج رفعت من الجماعة، ثم انضم إليها فيما بعد الشعراء ماجد يوسف وأمجد ريان، ومحمود نسيم ووليد منير.
لقد حفظت تجربة إضاءة هويتنا وملامحنا الشعرية الخاصة داخل الكتلة، كان همنا الأساس أن يكون بيننا ما يوحدنا جماليا وشعريا من داخل التجربة، وعينا ذلك بروح مخلصة ومحبة في إطار الجماعة، انعكست هذه الروح على فضائنا الاجتماعي والأسري، كان هذا شيئا جميلا ومميزا، وبعد أكثر من 10 سنوات وإصدار 14عددا من المجلة وبعض دواويننا الأولى على نفقتنا الخاصة، كان لا بد أن نغادر الكتلة، ونضعها فوق رفّ التاريخ، ليتسع الفضاء بشكل أرحب، مفسحا النظر إلى تجربة كل شاعر في الجماعة على حدة. وستظل إضاءة حجرا أساسا في تجربة كل شعرائها، بل في تجربة الكثير من أصدقائها الشعراء.
هكذا تتعدد المحطات في مساري الشعري، لكنني أحب ظلالها لأنَّها توفر لي مساحة حرة للذهاب والإياب؛ وما زلت وأنا اقترب من عباءة السبعين أخاف من الشعر، لأن وعي النص أكبر من وعيي الحسيّ المرتبط بملامسة الأشياء؛ بينما يضرب وعي النص بجذوره في الوجدان والتاريخ والزمن والخرافة والحلم، ربما هنا ينشأ الصراع الخفي بين الوعيين؛ بين ما كان وما يمكن أن يكون.. الشعر صعبٌ وحارقٌ، وألمه مشمس ومضيء، وقاسٍ وحاضر في كل المحطات، لقد عشت الحياة بلا فواصل أو عقد سميكة، وما زلت أعيشها منتظرا ارتطامي الأخير بها…
ومثلما في الحب، مثلما في الشعر أحزن للموت بشكل عام، وأحزن أكثر لموت الأصدقاء، فالأصدقاء مظلة، لكنني لا أخاف الموت بالشكل القدري، بل أخاف أن أكف عن كتابة الشعر؛ لأنني أعيش بطاقته، أحلم وأسافر وألعب، وأتمنى أنّ تظل قصيدتي بصحة وعافية ومحبة وأن توصلني إلى ملاذي الأخير بأمان.
……………………
*تنشر هذه الشهادة بالاتفاق مع مؤتمر قصيدة النثر المصرية ـ الدورة السادسة