مثلث اللون البُنِّي المحروق

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

تعلمين أنَّ العالم لن يتأثر كثيرًا إذا أزلنا أحد أضلاع المثلث، سيتحول الشكل إلى زاوية قد يمتدُّ ضلعاها إلى ما لا نهاية، وهو أمرٌ مغرٍ لمن لا يطيقون ترسيم الحدود؛ حينها سوف تكون لديهم نقطة انطلاقٍ من رأس الزاوية، يختارون بعدها الاتجاه يمينًا أو يسارًا، أو قد لا يكترثون لأحد الاتجاهين ويقومون بإلقاء أنفسهم في البراح البينيّ، الذي يزداد اتساعًا كلما ابتعدوا عن الرأس، حيث الاحتمالات لا نهائية.

اعتدتُ أن أرسم نجومًا خماسية على ورقةٍ بيضاء أثناء الحديث في التليفون، نعم، تلك التي ترسمها الساحراتُ ومعلِّماتُ الأطفال، أجد شكلها مريحًا للأعصاب كما أنه ملهِم. لكنني ضبطتُ نفسي اليوم أرسم المثلثات، واكتشفتُ أنني انشغلتُ بفكرة الثالوث أكثر من اللازم، بعد أن دفعتْني إحدى مؤلفات الكتاب الذي أعمل عليه إلى التعثر في ثلاثة “ثواليث” في الفصل الأول وحده؛ فبدأتْ بثالوث الأسطورة الأوزيرية في مصر القديمة محتفيةً بإيزيس ربة الأمومة، ثم أتتْ على ذكر سخمت إلهة الحرب، وهي بدورها أحد أضلاع ثالوث منف، ثم قارنتْها بنظيرتها الهندية ‘كالي’، مما ساقني لعقيدة ‘تريمورتي’ الهندوسية الثلاثية. وأتحفتْني بعد ذلك في معرض حديثها عن اللغة الأم بذكر رأيٍ لجاك دريدا عن الصورة الصوتية، وشَرْحِه من خلال ثالوث: الذهن الإنساني، الدالّ (الصورة الصوتية)، والمدلول (المفهوم(.

حينها رأيتُ أن الإكثار من رقم ثلاثة ضار بالصحة، فتركتُ الكتاب وتوجهتُ إليكِ لنثرثر وتصفِّفَ إحدانا شعر الأخرى بالضفائر على أنغام ساتي مع فناجين القهوة. تغيَّر مزاجي في شرب القهوة منذ سنوات، كنتُ أشربها بُن فاتح مضبوط، يتهادى وجهها المخملي، فأصبحتُ أشربها في تلك الصحبة، بُن غامق محوج سادة، ومغلية. ومع الوقت بالغنا في تدليل أنفسنا فأصبحتْ الشوكولا الداكنة قرينة القهوة.

عندما حكيتُ لكِ عن موضوع الثالوث، ضحكتِ وأخرجتِ –إمعانًا في إغاظتي– لفافات الكوهيبا في علبتها لتكوِّن مع القهوة والشوكولا “منيو” ثلاثية، وتغريني بطرفها الخالي من الفلتر مما يبشر بتجربة مباشرة دون وسيط، كما أنَّ استعدادها للانطفاء والاشتعال مراتٍ لا نهائية يعتبر تيمنًا بفرصٍ سخيةٍ جديدة بدلاً من شقيقاتها الضائعات.

حسنًا، يبدو إغلاق مثلث اللون البني المحروق والاستمتاع بدفئه ونكهته الغنية مغريًا. ولكن ماذا عن الاحتمالات غير النهائية التي يتيحُها غياب الضلع الثالث؟ أود الاكتفاء بضلعيْن، كي أترك نفسي لبراح الممكن.

في محاولة لمُجاراتي، سحبتِ من أمامي الشوكولا وتركتِ الكوهيبا وفنجان القهوة، وقررتِ أنّهما الضلعان المناسبان باعتبار أنَّ البن والدخان من لوازم الكتابة. ولكن يا عزيزتي أنا لستُ كاتبةً بالمعنى الدارج للكلمة، لا أمتهن الكتابة (من المهنة ومن الامتهان كما قالت امرأةٌ داهية)، أنا ببساطة أرتكب فعل الكتابة، كلما تراءى لي ذلك. ولهذا لا يستلزم الأمر بالنسبة لي محفزاتٍ كسحابةِ دخان مقترنة بجرعةٍ زائدة من الكافيين، شيءٌ من الوسوسة يكفي. كما أنني أرى أن اللون البنيَّ المحروق لا يستحق أن يتم تسطيحه بالعادة أو ابتذاله بالإدمان، إنه لون يستحق الاحتفاء، يستحق أن يكون طقسًا لمكافأة النفس بعد إنهاكها سواءً في تنفيذ المهام العادية أوإنجاز الأعمال الكبرى.

 تدرين أنني أصبحتُ أفضل الشوكولا الغامقة بمذاقها القويّ، كما توقفتُ منذ زمن عن إضافة السكر إلى القهوة، مع كراهيتي لأي نكهةٍ أو إضافةٍ تذهب بطعمها الأصيل. لاحظ شاب في مقتبل حياته هذا فتفرَّس فيّ قائلاً إنني أعتبر تلك الإضافات من خصائص “الفرافير”، وأنني ألجأ لهذا التصرف لإضفاء الصلابة على مظهري العاديّ. ولكن الأمر ليس على هذا النحو، فبالإضافة إلى أن المسألة مسألة تفضيلاتٍ شخصية، أنا لا أشعر بمرارة وثقل اللون البني المحروق، فهو يطبع في روحي حلاوة كالتي تطبعها أشياءٌ اتخذتْ من هذا اللون هويةً أزلية، مثل “السكرتيرة الفرنساوي” العتيقة المدهونة بالجمالكَّا، وساعة الحائط القديمة الطويلة ذات البندول، والكرسي الهزاز الذي ورثته عن جدتي، وحدْبة العود، والشامات في وجه مورجان فريمان، وطين الأرض المحروث الجاهز لتلقي البذور على ضفة النيل، وأسرار المهاجر السوداني العائد مصطفى سعيد في موسم الهجرة إلى الشمال، وخرافات القرية النيجيرية كما صورها تشينوا أتشيبي في أشياء تتداعى. كما أنه خيارٌ رائع لصبغ الشعر الأبيض.

أتدرين، لا يمكن اصطناع مثلث للون البني المحروق، البني المحروق كائنٌ كثير الأضلاع طالما استوعبتْ الأرقام والنفسُ هذا “الكثير”، وكائنٌ كليّ الوجود في محيطٍ شخصيٍّ حميم، وجليسٌ مؤنسٌ في الوحدةٍ، وأحد الرِّفاق في الصحبة، ولون عينين قد تنسي فيهما الدنيا.

مقالات من نفس القسم