أحمد رحيمة
حين اشتريتُ (هنا القاهرة)، قررتُ أني سأقرؤها حين أشعر أني لا أتحمل مدينتي أكثر من ذلك. تهجم عليَّ حالة كل فترة، أختنق وأشعر أن شوارع العاصمة المتكدسة بالبؤس ستسحقني. حينها أسافر بسرعة إلى أي محافظة أخرى وأقيم هناك يومين أو أكثر. قررتُ أني سأقرأ (هنا القاهرة) حين تهجم عليّ تلك الحالة، لأن إبراهيم عبد المجيد يكتب بالألوان كما قال عنه نجيب محفوظ، لهذا قررتُ أني سأستعين بها كي تلوِّن المدينة وتعينني على البقاء. وقد حدث. كنتُ أقرأ ببطء كي لا تنتهي. شوارع وسط البلد والميادين، المحلات والعمارات والأرصفة، كل شيء تلوَّن. ووصلتُ لمشهد في منتصف الرواية جعلني أوشك أن أبكي من فرط الشجن، فأرسلتُ إلى أستاذنا رسالة أشكره على كتابته البديعة.
في ندوة له حضرتُها يوم 5 ديسمبر 2023، سأله الأستاذ جلال الشايب: “ماذا تعلمتَ من الحياة؟”
فكانت إجابة إبراهيم عبد المجيد هي السبب الذي جعلني مولعًا به منذ أن تعرّفت على كتاباته. قال إنه تعلّم من الحياة أن يتخلّى عنها بمتعة الكتابة، وأن يسبح في عوالم الخيال بدلًا من الطمع في الماديات الزائلة.
تعرّفتُ عليه للمرة الأولى في كتابه (ما وراء الكتابة – تجربتي مع الإبداع). كان ذلك في 2018، وكنت وقتها أتلمس بدايات طريقي نحو الكتابة. كنتُ أتجول في معرض الكتاب ووجدتُه. كنتُ أعرف أنه كاتب كبير وكنتُ أضع رواياته في قائمة القراءة، ولكن لم أكن قد قرأتُ شيئًا منها بعد. أخذتُ الكتاب كي أستفيد به بعد أن أقرأ أيّاً من رواياته حتى أحلل أسلوبه وأتعرف عليه بشكل أكبر. وحين وصلتُ للبيت ليلًا، فتحتُ أول صفحة على سبيل التصفح الفضولي، ولم أنتبه إلا وأنا في الصفحة الخمسين تقريبًا. سحبَتْني طريقته الساحرة. التهمتُ الكتاب وقد أيقنتُ أني اكتشفتُ كنزًا. استطعتُ أن ألمس عشقه للكتابة في كلماته الدافئة.
ذهبتُ بعدها واشتريت (لا أحد ينام في الإسكندرية) وحلَّقتُ معها. طريقته الفانتازية في التلاعب بالواقع، يكتب ويصنع أساطير حية تنبض على الورق. وقعتُ في حب الإسكندرية بسبب تلك الرواية. كنتُ أقرأ وأمشي مع الشخصيات في الشوارع الزرقاء وأشم رائحة البحر. غصتُ بعمق في صفحاتها. الشاعر الشاب المسلم الذي وقع في عشق الفتاة المسيحية، تلك العلاقة الملتهبة. وصداقة البطل ودميان. إبراهيم عبد المجيد في كل أعماله يتألق حين يكتب عن الصداقة. والمشهد الذي يلتحم فيه اسم دميان مع سورة الرحمن.. لا أريد أن أحرق على من لم يقرأها بعد، ولكن يا إلهي من ذلك المشهد المزلزل.
حين أنهيتُ كتابة المسودة الأولى من روايتي الأولى المنشورة (السابع والصندوق) في نهاية 2021، قدّمتُها لتشارك في مسابقة إبداع للجامعات، وتأهّلتْ للتصفيات النهائية. لم أكن أعلم حينها أن إبراهيم عبد المجيد واحدٌ من المحكمين الثلاثة. أقسم أني كنتُ أرتجف حماسة حين عرفت. ولم أصدق. لقد كان بالنسبة لي وكأنه فنانٌ من عالمٍ آخر أرقى مكانةً، وأنا لستُ إلا كاتبًا أنهى عمله الأول. لم أستوعب أن كلماتي أنا قد يقرأها ذلك الفنان البعيد الذي ساهم في تشكيلي بفنِّه.
وفازتْ الرواية بمركز على مستوى الجمهورية، وأخبرني إبراهيم عبد المجيد أن هناك بعض الإسهاب في السرد. كانت الرواية 75 ألف كلمة حينها. فجلستُ على الرواية شهرًا كاملًا أحاول أن أقلل من ذلك الإسهاب الذي تنبّهتُ له بعدما أخبرني. حذفتُ أي جملة غير مفيدة. وأي جملة طويلة دون داعٍ قصّرتُها. حتى نجحت في جعل الرواية 65 ألف كلمة. حذفتُ عشرة آلاف كلمة دون أن أخل بروح القصة أو أنقص منها أي شيء. وقمتُ في الشهور التالية بالكثير من التعديلات والمسودات الأخرى التي طوّرتْ الرواية، وأسميتُها (السابع والصندوق)، وقدمتُها لعصير الكتب فكان التوفيق من الله ونُشرتْ في بداية 2023.
لم تكن الرواية لتتطور هكذا لولا تلك النصيحة البسيطة من إبراهيم عبد المجيد، بسيطة ولكنها كانت جذرية التأثير.
إذن فهو بالنسبة لي ليس فقط كاتبًا أنهل من نهر إبداعه العذب، ولكنه أيضًا معلمٌ له فضلٌ مباشرٌ عليَّ. فنانٌ أراقبه وأتعلم كيف يمتزج بالحياة فيُنتِج الفن الصادق.
لقد جعل الكتابة بالنسبة له هي العالم بأكمله. يمشي في الشوارع ويعيش مع شخصياته الخيالية أكثر مما يعيش مع الناس، يراهم بدلًا من أن يرى العابرين. بل يراهم في العابرين. كل شيء مادة للكتابة بالنسبة له. أنظر إليه وأتعلم كيف يجب أن أكون. أقرأ كتاباته الملوَّنة والملوِّنة للواقع فأنتشي، وأتعلم كيف ألوِّن أنا أيضًا.
9 ديسمبر 2023.