ما يعرفه أمين

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 102
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مصطفى ذكري

أعلنت مذيعة التليفزيون عن فيلم السهرة «غير المنسجمين مع المجتمع» بطولة «كلارك جيبل» و«مارلين مونرو» وإخراج «جون هيوستون»، ثم بدأت الفقرة الإعلانية بإعلان «فرج الله». تنبّه أمين لاسم الفيلم، وتململ وتحرّك في جلسته تحت ضوء الأباجورة الضعيف، وترك المجلة التي يتصفّحها على الكومودينو، وقام بخفّة ونشاط من على الفوتيه الضخم المريح، وظهر للحظة قصيرة جدًّا، أنّه لا يعرف ماذا يفعل بوقفته المفاجئة المناقضة لحجم الفوتيه وراحته، ولضوء الأباجورة الضعيف، ولصفاء صورة التليفزيون، ولوضع جهاز التكييف بجوار النافذة فوق السرير المرتّب، ولأرفف الكتب المُنسَّقة بعناية حول الحائط، ولوضع كوب القهوة نصف الفارغ، ولبخار الماء الذي يظهر واضحًا على سطح الكوب الكبير من أثر ضوء الأباجورة على الكومودينو. بدَت على وجهه ابتسامةٌ جميلةٌ طفولية برغم ملامح وجهه التي تقول إنّه تجاوز الأربعين.

اندفع أمين خارج الغرفة بحركة خفيفة، وانهمرت بقيّة الإعلانات. ردهة الشقّة واسعة وتنفتح عليها غرفتان، في ركن منها الأنتريه الكبير وفي وسط الردهة، تقريبًا، السفرة الدائرية، وطقم الكراسي حولها، وخلفها النيش الكلاسك. يأتي الضوء الضعيف، ويرمي ظلاله على الباركيه الخشبي والأثاث الأنيق ـ من غرفة بابها المفتوح ومن تابلوه كهربائي في الحائط ومن لمبة داخل نيش زجاجي لامع. وهذا الضوء الأخير يجعل أكواب الكريستال وأباريق الخزف الصغيرة وتماثيل لبوذا وحواريّيه في جلستهم الهادئة المتربّعة وابتسامتهم الراضية ـ مصقولة ولامعة. اندفع أمين في الردهة ناحية المطبخ، وقبل أن يصل إليه انقلب على عقِبيه عائدًا إلى غرفة النوم بالخفّة والنشاط أنفسهما، وكأنّه تذكّر شيئًا.

أخذ مجلة «الموعد» التي على غلافها الخارجي صورة لفنانة راحلة، ثم وضعها على رصّة المجلّات بجوار الكومودينو. أشعل سيجارةً من علبة مارلبورو أحمر. رفع قليلًا صوت التليفزيون وأخذ نفَسًا عميقًا من سيجارته، وضحك وهو يقلّد صوت المغنّي في إعلانٍ عن بطاطس شيبسي، وضحك أكثر؛ لأنّه لم يستطيع أن يُعيد كلماتِ المغنّي في الإعلان بالطريقة السلِسَة نفسها.

ـ وع.. البلاج شيبسي بدجاج.

ـ وع.. البلاج شيبسي بدجاج.

هزّ أمين رأسه مستنكرًا، وحاول مرّة أخرى وهو يمدّ رأسه إلى الأمام، كأنّ تلك الحركة ستساعده على عدم انفلات الحروف وعلى النطق الصحيح:

ـ وع.. البلاج شيبسي بججاج.

قال وهو يبتسم بسخرية، ويأخذ كوب قهوة نصف الفارغ، ويغادر الغرفة مرّة أخرى.

ـ صعبة قوي!

خرج من غرفة النوم، وفي يده كوب القهوة نصف الفارغ، والسيجارة في فمه. وهو يعبر الردهة متّجهًا إلى المطبخ، مرّ بيده على رتاج باب الشقة النحاسي؛ ليتأكّد منه بحركة سريعة مدرّبة، بحيث إنّ هذا التأكُّد لن يجعله يتوقّف لحظةً واحدةً. دخل المطبخ ويده تسبق جسده إلى مفتاح النور الكهربائي، أشعله بسرعة، وأخذ كنكة القهوة المعلّقة ناحية الحوض، وبدأ في صنع القهوة، ثم عاد إلى باب الشقّة الخارجي، وفي هذه المرّة مرّ بيده على الرتاجينِ النحاسيينِ السميكينِ أسفل الباب وأعلاه، وبرغم التأكُّد من إغلاقهما، فهذا لم يمنعه أن يجذب الباب إليه، وبكلتا يدَيه وبحركة عنيفة مكتومة.

بوجه متوتّرٍ، فتح أمين باب غرفة المكتب على مِصراعَيه بشدّة ظاهرة وتحسّس بيده في توجُّسٍ مقبس النور بجوار كتف الباب، وأشعله بسرعة، ثم نظر بالخوف والتوجّس أنفسهما خلف مصراع الباب فلم يجد أحدًا. الغرفة أنيقة، مرتّبة بعنايةٍ شديدة. صفوف الكتب تغطّي معظم الجدران، وفي الحيّز الضيّق بين الحائط والمكتب يوجد كرسي جلدي، وعلى حافّة أحد رفوف المكتبة تتعلّق أباجورة هوائيّة، يسقط بيت الضوء منها مباشرة على سطح المكتب الكبير المغطّى ببعض الكتب المرتبة والمجلّات. بجوار المكتب منضدةٌ رخاميةٌ منخفضة قليلًا، عليها عددٌ من فناجين القهوة الفارغة وعلبة سجائر مارلبورو حمراء، وكوب ماء واسع الفوّهة، ومنفضة سجائر ضخمة بها أعقابٌ كثيرة. وأخذ أمين نفَسًا من سيجارته، واتّجه إلى النافذة المغلقة، وفتح زجاجها، ودفع شيشها بيده للخارج، ثم مسك بكلتا يدَيه السياج الحديدي والسيجارة في فمه. شدّ بقبضتَيه السياج إليه، ونفخ دُخَان سيجارته بغضب. أغلق زجاج النافذة، وضغط على المقبض بقوّة وهو يضغط على إحدى عينَيه من أثر الدخَان الصاعد إليها. مرّ بأصابعه على أزرار التكييف بجوار النافذة، ثمّ اتّجه ناحية أحد الرفوف، الرف عليه مجموعةٌ كبيرةٌ من كعوب شرائط الفيديو ومكتوبٌ، على كلّ كعبٍ ببنطٍ أسودَ سميكٍ، اسمُ الفيلم. دفع النظارة الطبية على عينَيه، وقرّب وجهه كثيرًا من كعوب شرائط الفيديو، ومرّ بإصبعه على «صرخات وهمسات»، «مشاهد من الحياة الزوجية»، «من خلال زجاج معتم»، «تحت البركان»، «القربان»، «كل هذا الجاز»، حتّى وجد كعبًا خاليًا فسحبه من وسط الشرائط في اضطراب وارتباك شديدين، واتسعت عيناه، ثم التفت في سرعة مباغتة بوليسية الطابع، ناحية الرفّ فوقعت عيناه مباشرة على «غير المنسجمين مع المجتمع» دون غيره من الشرائط. سحق سيجارته ـ بعد أن أخذ منها أنفاسًا سريعة متلاحقة ـ في منفضة السجائر الزجاجية الضخمة، وضغط على العقب بشدّة وهو يتنحنح بصوتٍ مرتفعٍ جدًّا كأنّه بهذا الصوت ينفي رؤية شريط الفيديو، ويستمدّ طاقةً جنونيةً لمواصلة طقوسه الشاعريّة.

عبَر ردهة الشقّة، واتّجه إلى المطبخ وهو ينظر خلسةً إلى الضوء الضعيف الآتي من النيش الزجاجي. دخل المطبخ وفي لحظةٍ حرجةٍ أدرك القهوة قبل أن تفور، ثمّ صبّها في كوبٍ زجاجي، وتركها على رخامة الحوض، ثم أغلق مفتاح البوتاجاز، ثم تأكّد من أنّ باقي المفاتيح مغلقةٌ وذلك بأن مرّ بأصابعه على صفّ المفاتيح بشكل أفقيّ وبحركة سريعة أكثر من مرّة، ثم أغلق محبس الغاز الطبيعي. اتّجه بعد ذلك إلى غرفة النوم وفي يده شريط الفيديو الفارغ، نظر وراء باب غرفة النوم، ثم أحضر جهاز الفيديو الموضوع أسفل التليفزيون ووضع فيه الشريط، ثم نظر بتعَب وقنوطٍ إلى إعلان البيبسي وصوت المغنيّة مثل صوت «بوني تايلور» مغنية الهارد روك. وقف أمين في وسط الغرفة حائرًا ووضع يدَيه في وسطه وملامحه تكاد تقترب من البكاء، ثم دفع نظّارته الطبية على عينَيه كأنّه يلتمس العزاء.

خرج أمين إلى الردهة، واتّجه إلى الثلاجة بجوار النيش المضيء، ثم فتح باب الثلاجة السفلي، وأخذ منها زجاجة ماء، ثم أغلق الباب السميك.

اتّجه ناحية المطبخ وبسرعة مذهلة على الثلاجة وفتح بابها السفلي. يغلقه بقوّة، يتحسّس بأصابعه باب الفريزر العلوي، ويضغط عليه إلى الداخل، ثم يلتفت ناحية المطبخ، ويسير في اتجاهه وهو ينفخ شدقَيه من الغيظ، ويهزّ برأسه متعجّبًا. يدخل المطبخ، ويأخذ كوبًا فارغًا من الزجاج، ويضعه على الرخامة ويسكب فيه الماء، ثم يترك الزجاجة على الحوض ويرفع يده بجوار نافذة المطبخ الصغيرة عند مروحة الطرد ويسحب ذراع الغاز الطبيعي الرئيسي للشقة إلى أسفل، ثم يأخذ كوب القهوة وكوب الماء ويخرج.

وضع كوب القهوة، وكوب الماء على الكومودينو تحت ضوء الأباجورة الضعيف، أخذ كوب الماء الآخَر وقد زالت عنه طبقة البخار الكثيفة، وأصبحت قطرات الماء على سطحه الخارجي متباعدةً وبارزة. صوت الرجل والمرأة في الإعلان التليفزيوني عن السمن الصناعي يأتي إلى أُذن أمين دون أن ينظر إليه:

ـ طلب تحابيش!

ـ طلب تحابيش والذي منه؟

ـ لأ.. تحابيش بس.

خرج أمين من غرفة النوم وفي يده كوب الماء، وملامحه تبدو جادّة وصارمة، وبها شيء من القنوط والملل. ومرّ بجوار باب الشقة الخارجي فتحسّس بأصابعه ميدالية مفاتيح في كيلون الباب. أغلق الباب بتكّتين متتاليتين سريعتين، ثم دخل المطبخ، ووضع كوب الماء على رخامة الحوض، ثم أخذ زجاجة المياه وخرج بها عابرًا الردهة إلى الثلاجة. قبل أن يصل إلى الثلاجة بخطوتينِ وبحركة مباغتة غيّر اتجاهه، ناحية غرفة المكتب.

دخل مسرعًا وفي يده زجاجة المياه، نظر وراء باب الغرفة من الداخل بشكل سريع، ثم تقدّم ناحية المنضدة الرخامية وسكب ماء قليلًا في المنفضة الكريستال السميكة فطفَت أعقاب السجائر على سطح الماء. تحسّس أمين بأصابعه أطراف بعض الكتب وكعوبها، ثم رفع قليلًا رأس الأباجورة الهوائية، ثم خفضها كما كانت.

ترك غرفة المكتب وفي يده زجاجة المياه، وفتح باب الحمام بجوار الغرفة على مصراعه، ويدُه الخالية أضاءت النور الكهربائي قبل أن يدخل الحمام بسرعة، ثم نظر كعادته وراء باب الحمام، ثم أشعل السخّان المعلّق على الحائط، ونظر إلى نفسه في المرآة الكبيرة أعلى الحوض، ثم خرج إلى الردهة وفي يده زجاجة المياه، واتّجه إلى غرفة أخرى.

دخل أمين الغرفة المضيئة، نظر وراء الباب بتحفّز شديد، ثم تأكّد من أنّ نافذة الغرفة مغلقة، ثم فتح الدولاب الكبير المملوء بالملابس المرتّبة في عناية وأخذ بعض الملابس الداخلية و«بشكير كبير» ووضع كلّ هذا على كتفه، وزجاجة المياه مازالت في يده، وقبل أن يخرج تمامًا يعود على عقبَيه وبسورة غضب وانفعال يفتح جميع ضلف الدولاب وهي تصطفق. عيناه مفتوحتان على اتساعهما وهو ينظر نظرات زائغة داخل الدولاب، ثم يخرج من الغرفة وعلى كتفه الملابس الداخلية والبشكير وفي يده زجاجة المياه.

عبر أمين ردهة الشقة مسرعًا إلى الحمام، وفي الحمام علّق الملابس على مشجب خلف الباب ووضع زجاجة المياه على حافة البانيو، ثم وضع سدادة البانيو في مكانها أسفل الحوض، ثم أخذ زجاج المياه وخرج من الحمام.

واتجه إلى عمق الردهة ناحية الثلاجة ذات البابين وعلى وجهه آثار التعب والضيق، فتح باب الثلاجة السفلي فسقطت مباشرة حزمة من الضوء أسفل الثلاجة على الباركيه اللامع، وبدا الإحساس بسقوط الضوء إلى أسفل قويًّا. وضع زجاجة المياه في مكانها بجوار زجاجات مياه مصفوفة في باب الثلاجة، ثم أغلق الباب ووقف وسط الردهة وهو يؤرجح يدَيه للأمام وللخلف فتصطفق يداه من أمامه ومن خلفه، ويظهر على ملامحه مللٌ وقنوطٌ وهو ينفخ الهواء بفمه. اقترب من باب الشقة الخارجي، وتحسّس بأصابعه الرتاجين النحاسيين الكبيرين أسفل الباب وأعلاه، عبث بأصابعه في سلسلة المفاتيح، ثم ضغط على المفتاح في اتجاه الغلْق فلم يتحرّك المفتاح، يزداد أمين في الضغط على المفتاح، والمفتاح لا يتحرّك، يجذب أمين، بكلتا يدَيه وبكلّ قوّته، الباب من الكيلون البارز قليلًا إلى الخارج والباب يهتزّ ويصوّت في يديه. يأتي صوت المذيعة إلى أذن أمين واضحًا قويًّا معلنًا عن بداية فيلم«غير المنسجمين مع المجتمع»، يزداد جنون أمين، وتجحظ عيناه ويداه قابضة على الكيلون، ثم بحركة سلسة ومتتابعة يضغط على المفتاح في اتجاه معاكس فتتعاقب تكّتا الكيلون بسرعة شديدة كأنّهما تكّة واحدة، ويشدّ الرتاجين النحاسيين أسفل الباب وأعلاه في اتجاه الفتح. ينفتح الباب في يديه وقبل أن يصرخ وبتوقيت متزامنٍ مدهش تندفع يدٌ من فُرجَة الباب وتنقض على فمه. وتنغرز في وجنتَيه، يستسلم أمين لليد القوية، ويخرج معها صوته يغمغم تحت اليد المُحكمة.

يستدير أمين أمام باب الشقة في حيّزٍ ضيّق جدًّا، ويده اليسرى تقبض على حديد شراعة الباب. مازالت اليد تقبض على فم أمين، وتمنعه الصّراخ. أين يد أمين اليمنى؟ بحث أمين عن يده اليمني بعينين زائغتين، وتتبّعها من أعلى الكتف مرورًا بالمِرفق الذي رفعه قليلًا في الهواء كي يراه، وانتهاءً بالكفّ القابضة على فمه. رفع أمين يده اليمنى ببطءٍ شديدٍ عن فمه نظر بذهولٍ إلى أصابع يده، ثم فرد ذ راعه اليمنى أمام عينَيه، وتتبّعها مرّة أخرى إلى أعلى الكتِف. ترك أمين حديد الشراعة، والتفت إلى مدخل العمارة حيث الشارع. قطع أمين الدرجات القليلة المؤدّية إلى الشارع بسرعة وخوف وفزع.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب