ما اجتمعت سيوف الفُرَقاء إلا عليها.. فريضة قهر النساء في رواية “أساور مأرب”

OMRAN GHARBY
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

السيد شحتة*

عندما تندلع شرارة الحرب تأخذ في طريقها كل شيء، تتحول الحياة إلى جحيم، وفي كل دقيقة تتساقط عشرات الأرواح البريئة مثل حبات الرمال التي تتقاذفها الرياح، ويصبح الأمان هو الفردوس المفقود الذي يضج الصغار والكبار في البحث عنه دون أي بارقة أمل.

مع تتابع حلقات مسلسل الدمار والخراب ومن خلف جبال الركام التي تبلغ عنان السماء تصل شهوة الفرقاء إلى ذروتها، ويوغلون في الدم، يتقاتلون وكأنهم يتقربون إلى الله بدماء خصومهم وأبناء شعبهم المسكين، من وسط هذه الأجواء الحزينة ومن قلب المعاناة التي يعيشها اليمن الشقيق، يقدم لنا الغربي عمران في روايته “أساور مأرب” صورة للحرب ذلك الوحش الكاسر الذي يلتهم كل ما يصادفه في طريقه.

لا تكتفي الحرب في أساور مأرب بقتل البشر وإحراق المنازل والأشجار وإبادة المواشي وتدمير الأحجار، ولكنها تتغلغل إلى داخل الأرواح فتجهض الأحلام في منبتها وتنزع من حشايا المكتوين بلهيبها أي ذرة من إنسانية أو شعور بالأمان، وتكتمل المأساة بقتل غير معلن يتحول معه من أفلتوا مؤقتًا من الرصاص المنهمر فوق الرؤوس إلى أشباح أو حالات موت يمتزج ببصيص ينزوي.

في رواية أساور مأرب نرى الأبطال، وأغلبهم من النساء، جميعهن ضحايا للحرب والقهر المجتمعي، وكأن المرأة ما ولدت على هذه الأرض العفية إلا لكي تعاني، يتكاتف الجميع على النيل منها إما لإثبات ادعاء بوجود رجولة زائفة أو محاولة التكسب من جسدها عبر منحها بالأجر لراغبي المتعة. في كل مشهد من مشاهد الرواية جعلنا الغربي عمران نرى بأعيننا كيف تنزف الأجساد وتحتضر الأرواح في وطن أضحى منذ زمن ساحة للقتل ولعبة تصفية حسابات مفتوحة بين المتناحرين. ثمة وجع لا يهدأ وألم لا ينقطع، في حرب اليمن لا توجد ناجيات، فمن لا تقتله الرصاص يستباح جسدها وتنكسر أمام نفسها.

الصحراء بكل قوتها ومهابتها أضحت في أساور مأرب واحدة من ضحايا الحرب الجنونية التي يتقاتل فيها الفرقاء في معركة سوف يخرج منها الكل خاسر، فقدت الرمال لونها الأصفر عندما تلطخت بالدماء، وأضحت الجبال التي كانت تختال حسنا بالخضرة التي تقطعها مواقع محصنة تطلق منها القذائف مع فجر كل يوم جديد على المدن والقرى لتذيق أهلها من صنوف الموت والرعب ألوانا لم تخطر لهم يوما على بال.

رغم الحضور القوي للحرب في رواية أساور مأرب، إلا أن الغربي عمران يغوص في الأعماق ويشيد بنية سردية متخمة بالتفاصيل والشخوص والأماكن والأحداث، يتنقل فيها عبر عوالم مختلفة فمن الجدة إلى الحفيدة، ومن المدينة إلى القرية والبادية، وهو في ذلك يرصد الكثير من التحولات التي مرت بالمجتمع اليمني.

يستنطق الغربي عمران المكان في روايته التي تتحرك شخوصها فوق جغرافيا اليمن الذي أثقلته الأزمات، يصعد ويهبط الأفراد الذين يلهثون بحثًا عن أبسط حقوقهم في الحياة وكأنهم يتسلقون جبالا مرتفعة قبل أن يهبطوا في وديان فسيحة في أرض اعتاد أهلها منذ القدم على أن يبذلوا الكثير من الجهد والوقت في البحث عن العشب والماء.

نجح الغربي عمران في رواية أساور مأرب في أن يقدم سردية متقنة للمجتمع اليمني المحافظ وكيفية انتقاله من الحياة التي تشكل الصحراء والبادية محورًا لها إلى حالة من الشتات النفسي والمادي بسبب الحرب التي حولت الكثير من مدنه السعيدة إلى مدن أشباح. حطم الغربي عمران الكثير من التابوهات، حيث أصر على تعرية الكثير من سَوْآت المجتمع المحافظ الذي يصر حتى الآن على تغطية وجوه النساء في الوقت الذي يتعرضن فيه لانتهاكات لا حصر لها حتى من أولئك الذين نصبوا أنفسهم أوصياء للدفاع عن الدين. في أساور مأرب نكتشف أنه ليس بالقات وحده يتم تخدير البشر، وأن هناك شعارات رنانة وعبارات تحمل بريقًا يتم من خلالها تخدير العقول، وعبرها يجند أنصار الله على الدوام المزيد من الأتباع حتى يواصلوا معركتهم التي لا يبدو أن هناك أي أفق قريب لانتهاءها. من الصفحات الأولى استطاع الغربي عمران أن يحافظ على حالة من الدهشة والصدمة التي خلقها لدى القارئ، والتي امتدت حتى السطور الأخيرة من الرواية في ظل الغرائبية التي قام بإضفائها على الأحداث رغم مأساويتها.

السرد المشبع باللغة الشاعرية في أساور مأرب استطاع أن يقفز على حالة الشجن التي تعصف بالنفس منذ البدايات، ومع السطور التي يكتشف فيها المرء أن أمًا فقدت كل شيء ولم يبقَ لها سوى رضيعة تمرغ وجهها بين أهدابها داخل مقر منظمة إغاثة أجنبية، بينما يتصاعد في الخارج صوت القصف ويتعالى دوي الانفجارات وكأنه لا مكان للمستقبل في بلد ابتلعتها حرب ضروس.

في أساور مأرب أيضًا نرى الأسئلة الكبرى وهي عالقة في الهواء في مجتمع لا يعرف حتى الآن أسباب الصراع المحتدم منذ زمن بين الفرقاء، والذي لا يلوح حتى الآن أي أمل في الأفق لـانتهائه. متى سيتوقف إطلاق النار؟ ما المخرج؟ كيف ستُعاد ترميم التصدعات التي خلقتها الحرب؟ هل هناك أمل في قدر أكبر من الحرية يمكن أن تنعم به المرأة؟ هل هناك من لديه استعداد للالتفات لهمومها ومخاوفها وإنصافها بعد سنوات طويلة من المعاناة؟

وفي الرواية أيضًا يكشف لنا الغربي عمران عن الطرق السرية لتجنيد الشباب من قبل الجماعات المسلحة التي تتخذ من الدين ستارًا للقتل، حيث يترك أحدهم المدرسة قبل أن يكمل الصف السادس الابتدائي، ويتنقل بين أكثر من عمل، ويجد في تلك الفترة من يدعوه لالتحاق بحلقة دروس دينية تنظم في مسجد، وبعدها بأيام يطلبون منه حضور دروس في بيت مدرس قرآن كريم، ويتطور الأمر سريعًا إلى حضور محاضرات حول مكانة الجهاد في الإسلام، وبعدها يخرج مع مجموعة من رفاقه إلى البراري للتدريب على حمل السلاح قبل أن يجد نفسه في واحدة من جبهات القتال.

استخدم الغربي عمران في كتابة أساور مأرب أكثر من تقنية سردية، حيث ارتكـز في بعض الأجزاء على أسلوب الراوي العليم، كما اعتمد في مواضع أخرى طريقة السرد متعدد الأصوات من خلال الرسائل المتبادلة بين الحالـتين Y و H.

لم ينشغل الغربي عمران بالشكل في رواية أساور مأرب، وإنما جعل من إظهار معاناة المرأة اليمنية قضيته الكبرى، لذا أفسح لها المجال كي تقول كل ما يعنّ لها، وكأنه قصد أن يحررها من كل الأغلال التي تكبلها، وأن يمنحها ميكروفونًا حتى يسمع المجتمع الذي يقمعها منذ زمن صرختها الحبيسة.

كل المسكوت عنه فيما يخص المرأة اليمنية التي تدعي كل الأطراف المتحاربة أنها تخوض المعركة للدفاع عن شرفها يتحدث عنه الغربي عمران بأكبر قدر من الجرأة في أروقة مأرب حيث يكشف بالصوت والصورة كيف تحولت النساء إلى هدف مستباح يحاول كل طرف من خلال سحقه أن يعلن انتصاره على الآخر. يبدأ الغربي عمران في رسم حدود الوطن المستباح من غرفة ضيقة في مبنى منظمة إغاثة أوروبية احتمت كنز برضيعتها بين جدرانها بعد أن تمكنت من الإفلات من شبكة دعارة تاجرت لشهور طويلة بجسدها. رغم صخب دوي الانفجارات التي تدوي في ليل مأرب الحزين وروائح البارود المنتشرة في كل مكان ورحلة الأهوال التي مرت بها كنز والتي سُحقت فيها كرامتها وتم افتراس جسدها فإنها مازالت تحلم بالأمان الذي تبحث عنه في رائحة صغيرتها.

تبقى الرضيعة رمزًا للمستقبل الذي تتمسك به “كنز” رغم مرارة الواقع وقسوة اللحظة التي تفوق قدرة البشر على الاحتمال. ورغم الويلات الكثيرة فإنها ظلت تقاوم بكل ما أوتيت من قوة. قطعت مسافات طويلة بحثًا عن أخيها الذي تركها وانضم إلى القتلى في صفوف “أنصار الله”. دخلت في عراك مع أحدهم عندما حاول النيل منها، لكن ظهرها انحنى مثل غيرها، فالإعصار يفوق قدرتها على الاحتمال بكثير.

من مفتتح الرواية يحدد الغربي عمران الزمن بدقة، ويتخذ من عام 2021 فضاءً لسنوات الوجع التي تجثم على صدور نسوة استحالت كل أحلامهن إلى كوابيس مفزعة في عشرية من الدمار أضحى معها وطن بأكمله محض أطلال.

“كنز” التي تخلصت من أسر شبكة الدعارة تلملم أشلاءها شيئًا فشيئًا وتستعيد ذكريات حياة بأكملها سلبتها منها الحرب في غمضة عين. في الرسائل المتبادلة بين كنز وهلين، أو Y و H، يبني الغربي عمران سرديته حيث تبدأ التغريبة اليمينية من رحلة الهروب الكبير لكنز ورفيقتها التي لم تعد سمينة من وادي القات في أعالي الجبال وصولًا إلى منحدرات وشعاب تقود إلى مأرب. على الخطوط الفاصلة بين طرفي الصراع، حيث يصبح الموت أقرب من أي شيء آخر، تبدأ كنز ورفيقتها رحلة هروبهما الكبير. السير في الخطوط الفاصلة وجبهات التماس بين مقاتلي أنصار الله وقوات الشرعية أشبه بالمضي وسط حقول الألغام، والنجاة تحتم في مثل هذه اللحظات الصعبة الاستعانة بمهرب ممن يعرفون نقاط العبور الأمن جيدًا.

الأشرم هو واحد من أولئك المهربين الذين يمتلكون حصانة تسمح لهم بالمرور عبر حواجز مسلحي الفريقين دون أي مشقة، وعبر رحلة الأهوال الطويلة، يقودنا الغربي عمران من خلال الرسائل المتبادلة بين Y و H في جولة سردية يطوف بنا خلالها في اليمن الذي كان سعيدًا قبل أن تجتاحه أمراء الخراب، لنرى وجوهًا للحرب لم تخطر لنا على بال.

 أحسب أن الكثير من القراء بعد مدة من انتهائهم من قراءة أساور مأرب سوف يعانون بشدة مثلي تمامًا من شبح “كنز” الذي ما زال يطاردني حتى الآن، أسمع صرخاتها وأرى دموعها بعد أن تعلق قلبها برجل خذلها، طفلة صغيرة خرجت إلى الصحراء في جولة مع أبيها فإذا بها تسمع استغاثاته الأخيرة وهو يصارع الموت على بعد خطوات منها.

………………………….

*روائي وناقد مصري، صدرت له ثلاث روايات هي ميتافيرس، شفرة المخ، سرايا عمر أفندي، معني بقضايا التحولات الرقمية وتأثيراتها المجتمعية،يتردد في أعماله الأدبية وكتاباته النقدية صدى محاولات رصد حيرة الإنسان في زمن السوشيال ميديا.    

مقالات من نفس القسم