“مارواه البحر”.. تعانق المستحيل والممكن

ما رواه البحر
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد فرحات

بإجابات يقينية لا تحتمل التأويل لكل الأسئلة المتعلقة بالحب والحياة وجدواهما، وبنظرة نسوية مركزية أحالت كل مآسي البطل لغياب المرأة بالرغم من تعدد وجودها بحياته، تأتي رواية ساندرا سراج الجديدة “ما رواه البحر” الصادرة أخيرا عن دار دون.

 فالبطل محاط بأربع نسوة ورد، فرح، ليل، نورا…ومع ذلك يعيش أسيرا للأولى ورد التي هجرته، جراء خيانته لها بأحضان أخرى، ليحول كل انتصاراته لهزائم فهو مصور فوتوغرافي حاصل على جوائز عالمية، يهرع كل ليلة لراوي الرواية البحر، يبكي ويشكو، ويسمع أغنية ورد المفضله “أراك عصي الدمع…”، ويأمل عودة معذبته، إلا أن ليلاً تأتي قبله بذات المكان حيث سبق أن فقدت مذكراتها به، أو بالأحرى أخفاها البحر عمدا، كي يحظى بها صديقه عاصي، لتصير المذكرات بتفاصيلها حبكة فرعية، بجانب الحبكة الأم للرواية، ولحسن حظه، والذي نادرا مايتوفر لبشر، أو حتى يستحيل توفره، يقابل ليلا، فهي أيضا من عشاق راويتنا البحر، والذي يعرف أدق أسرار شخوص الرواية، من أين تأتت له تلك القدرات الخارقة، وهل وجد البحر وقتا كافيا ليتفحص حياة البشر، بل ويتمثل بطباعهم، نافضا يده من مشاكل ما يعيش فيه من كائنات معرضة للانقراض حيث صار مجمعا لكل قاذورات البشر الملاعين!! هو مجرد سؤال للتسرية فقط، ولكن اتخاذ البحر راوية أمرا بارعا جدا، أسرني شخصيا…ما علينا تأتي ليل هكذا صدفة بذات المكان الذي يجلس به عاصي، وتجلس بجانبه ليتفاجأ بها عاصي، ويعلم أنها صاحبة المذكرات التي خبأها البحر عمدا من ليل ليهبها لعاصي، لو كانت الدنيا متاحة هكذا، لربما كانت مكانا مبهحا، يستحق أن نحيا به! ولتكن من سلطات الفن خلق ما يشاء من عوالم، له كل السلطة والحق، وإلا بمن سيلوذ هذا الكائن البائس بواقعه المحبط.

ونرجع لمذكرات ليل، فليل في بداية المذكرات التي خبأها البحر، ليستحوذ عليها عاصي تذكر أنها يتيمة الأم، فقد ماتت أمها حين ولادتها، وسماها أبوها ليلا، كظلمة غزت حياته، وتعيش ليل بعقدة ذنب، لا ذنب لها به! حتى أنها تحاول الانتحار…وبتصفح المذكرات، على عكس المتخيل، وعكس ما أوحت به كاتبتنا؛ أنها ولدت ببيئة مدنية، نُبْغَتُ بكونها ابنة بيئة بدوية لقبيلة من قبائل سيناء، وتقع في حب بدوي من قبيلة منافسة يدعى ليثا، تيمة حب روميو وجولييت وبداية عقدتها بذات التنافس بين العائلتين…!! إلا أن الثأر يأكل قلب أبي ليث كبير القبيلة المنافسة، ولايخلص ليلا من القتل بيد كبير القبيلة سوى ادعاء ليث أن ليلا حَامِلٌ منه في إطار علاقة غير شرعية! أيضا تجابهنا مستحيلات عدة فكيف لرجل عربي بدوي وزعيم قبيلة يفكر بقتل امرأة، لتعيره القبائل على فعلته، وكيف تنجو امرأة ببيئة عربية قبلية من القتل جراء اتهامها بالحمل سفاحا، وكيف لعائلة العاشق أن تقبل لولدها أن يتزوج بمن حملت منه سفاحا؟! بل وتُدفَع مجبرة على مضض من العائلة المنافسة طالبة يد ابنتهم، ولاتتبع مع ولدها إجراء “الشلح” المفروض كعقوبة لكل من خالف أعرافها من أبنائها، وهو التبرؤ من المخالف، ليصير منبوذا من كل القبائل، هكذا نعرف عن تلك البيئات المحافظة والتي تقدس أعرافها وتقاليدها، ولاتسمح لأحد مهما بلغت منزلته النيل منها !! مستحيلات ثلاثة تجمعت دفعة واحدة، فهل تخلق الرواية منطقا جديدا في إطار بيئة اختارتها من البداية؟! ، أم أنها تتناسق مع المعطيات التي التزمت بها في البداية حتى لاتجافي منطقها الذي فرضته بذاتها على المتلقي، فالمفروض أن تضع الرواية مقدماتها لتأتي النتائج متسقة معها…!! ولكن ليس شئ مفروضا على المبدع وإبداعه، المفروض يفرضه النقاد على أنفسهم فقط، وللعجب فهذا المفروض فرضه مبدعا ما قديما، وخرج عما فرضه من قبله! قد تناسب هذه الأحداث بيئة غربية، أو علي الأقل بيئة مصرية متفرنجة لا بيئة عربية قبلية وبسيناء!! ولا لوم على كاتبتنا، فلتفعل بالمنطق ما شاءت طالما قد ضمنت للقارئ ما يرضيه، وليذهب منطق النقاد للجحيم!!

ويتم زواج ليث وليل، ولكن الدم مازال يطاردهما، كنبوءة العراف الشكسبيرية المتضمنة، وسرعان ما ينفد العسل كالعادة! وتتواتر زيارات الأب لولده، يتحدثان عن نشاطهما الإجرامي بتجارة السلاح، ومخازنه، تقتل الدولة من أولاد عمومة ليث ويرد ليث على الدولة بقتل رجالها، ليتبدل ليث لذئب بشري تطارده الدولة كإرهابي قاتل، إلى أن يقتل ليث صديق طفولته سلام خطأ، ويثقل كاهله بالذنب، وهو المجرم العتيد! ويطلق ليلا ويسلم نفسه للدولة. هي قفزات بهلوانية تقفزها الروائية في الهواء بدون تمهيد، أو تسلسل منطقي، هل يكمن عذرها في كونها مجرد مذكرات يقرأها علينا عاصي، وكتبتها ليل كعلاج نفسي أوصى به معالجها؟! ربما، ولكن هل يشفع لها ذلك تلك التحولات السريعة بشخصية ليث؛ من عاشق مرهف، لقاتل محترف؟! أم هي النفس الإنسانية المتقلبة تقلب البحر، وقد يكون هذا تبريرا آخر لتحولات ليث السريعة. إلا أن ليلا تتزوج من آخر هو شريف الذي يهرب بوحيدها غيث، ويهرب به ليثكلها كما يكون الثكل.

يجد عاصي، المحظوظ، ملجأ بأحضان ليل، وتجد ليل بأحضان عاصي نفس الملجأ، يكاشفها وتكاشفه. ومع ذلك يعجز في البداية عن توصيف علاقته بليل مقارنة بورد، ليقر أنه أحب وردا، ولكن علاقته بليل عصية عن التفسير، ليقر عاصي” مع ورد وجدت الحب، ومع ليل وجدتني…” نترك عاصي المحظوظ وليلا قليلا…!

يحافظ عاصي بذات الوقت على علاقته بنورا، علاقة صداقة نقية، كنقاء نور الفجر، خادمة الرب بالكنيسة، والتي حينما قتلت قطا خطأ أثناء قيادتها، اعترفت للكاهن، بعدما مزقها شعورها بالذنب، وامتنعت عن الطعام والشراب، وعصاها النوم أياما وليال، وندرت أن تكون في خدمة أي حيوان في ضيق من أمره. ولكن نورا بكل تلك الشفافية والإنسانية لاتنجو من طعنات القدر فتصاب بحادث قاتل، تنجو منه بجسدها وتفقد روحها، وتغرق بأمواج الكآبة والأسى، إلا أنها كانت لعاصي المعذب بقسوة نشأته، النهار، بينما مثلت ليل ليله…إلا أن نورا خفت نورها كثيرا إثر الحادث، وهي التي تمثل إيمان عاصي.

هي المرأة دائما بداية بالأم الخانعة لقسوة الأب في سبيل الاحتفاظ بولدها عاصي، هي الحبيبة الراحلة إثر خيانته، هي الملجأ من النكبة النهائية، ثم هي النقاء المطلق المعذب، والذي لا يرى سببا لعذاباته الوجودية…

حسنا سيصفق فرويد كثيرا لكاتبتنا بعدما جُسدت عقدة أوديب كما ينبغي، فلقد أحب عاصي أمه في ليل، فحب الرجل الأول يكون لأمه حتى بصورته الجسدية حسب فرويد، وتكون الصدمة الأولى علمه بحتمية الحرمان منها، ويعوض تلك الصدمة الأولى ببحثه عن امرأة تشبه أمه…وليل هي صورة من  أم عاصي إلا أنها فقدت ولدها، بعد طول حرص لم يفلح على إبقائه، كما هُددت أم عاصي بذات التهديد. وعاصي ذاته هو صورة  غيث ابن ليل المفقود…!

وبضربة حظ مستحيلة أيضا، ولكنه عاصي المحظوظ، يسافر لقرية سويسرية لما يخص عمله كمصور، ليقابل بأخر رشفة نبيذ سويسري شهي بسهرته رجلا عربيا يحادثه، ولظرف الثمل وسماحته، يتبادلا أرقام هواتفهما، ليكون رقم هاتف عاصي آخر ما يظهر على شاشة هاتف الآخر. فيفاجأ برقم غريب يحادثه يخبره أن صاحب الهاتف نزيل المستشفى إثر حادث، وحينما يذهب عاصي يصدم بأن زوجة المصاب هي ورد بلحمها ودمها، وأن الطفل الذي يصاحبها ليس ولدها، وإنما هو غيث ابن ليل، توقعت كقارئ حدوث ذلك قبل قراءته بحوالي الخمسين صفحة، بل وكتبته قبل مطالعته مراهنا نفسي على صحة توقعي!

هل يعد ذلك عيبا أم ميزة، يتوقف الأمر على قصدية الكاتب من عدمها، فساندرا سراج قد ألقت بشصها، لتصطاد غرور المتلقي، ثم تقوم بمباغتته بتفاصيل لم يكن له أن يتوقعها، فغيث ليس ابنا لشريف، كما كان يظن طيلة حياته، وإنما هو ابن زوجها الأول ليث، أخفت ليل ذلك عنه، لتضمن زواجه وحمايتها من قبيلة زوجها المعتقل…وكانت نورا صديقة عاصي المقربة على علم بمكان ورد، ثم يتورط القارئ بأجواء مطاردة بوليسية متقنة لوصول ليل لولدها بدون لفت نظر شريف ذي السطوة والنفوذ والثراء…

ولعل شرح رواية كما قال بروست وكما ذكرت ساندرا”كمن يهدي هدية وينسى أن يزيل ثمنها…” فلم تكن كتابتي شرحا بقدر ما كانت محاولة لفهم تكنيك كتابة ساندرا الروائية الواعدة بكثير جدا، بروايتها “ما رواه البحر…” ولنقل بعض سحر الرواية للقارئ بهذا المقال الموجز، لعله يكون فاتحا لشهيته نحو قراءة النص الثري كاملا.

لتظل شخصية فرح، شخصية لم تكملها ساندرا، لعلها خططت لإكمالها ربما، ولكن خشيت من طول الرواية الطويلة بالفعل فتربو كلماتها عن الأربعين ألف كلمة، لذا كان قرار عاصي بهجرها مفاجئا غير مفهوم.

تفوقت ساندرا بلغتها الشاعرية الرقيقة، وفصحاها الرائعة، فتراك تردد بعض مقاطعها كقصيدة تستلذ الأسماع بوقعها…وكنت أود أن أنقل فقرات من الرواية، ذات وقع شعري خلاب، ولكني خشيت الإطالة.

…………………………

*”ما رواه البحر” رواية لساندرا سراج، إصدار دار” دون” 2020.

مقالات من نفس القسم