ماركيز في بغداد

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

زهير كريم

وفي صباح اليوم الثاني، لم يجدوا السيد ماركيز في جناحه الخاص في فندق بغداد، اتصلوا مباشرة بضابط الأمن المكلف بحماية الضيف، فغمره فيضان من القلق، وفي تلك  اللحظة، لو طرح عليه سؤال، مثل: ما معنى الكارثة؟ سيقول بلا تردد: الكارثة هي أن يحدث مكروه لهذا الضيف. وكان للضابط طفلان رائعان، مما يزيد موقفه قلقا، وزوجة جميلة جدا، كان قد أغرم بها، وانتظر عشر سنوات حتى تزوجها.

رفض أبوها كل المساعي الحميدة، لأنه أراد أن يزوجها  لضابط جيش شارك في ثلاث حروب كحد أدنى، على ألا تكون الحرب الحالية التي لم  تنته بعد من ضمنها. لكنه في النهاية أعلن موافقته. قالت له زوجته، انها حلمت  بمرور القطار، ثم ظهرت لها في الصورة، أن ابنتها في لقطة درامية مثيرة للأسى، كانت تقف مثل شجرة عارية، حقيبتها على رصيف المحطة إلى جانبها. وكان المكان فارغا تماما مثل مقبرة، كلب هزيل منطو على نفسه على بعد أمتار منها ، والبنت وحيدة بعينين تائهتين تبحث في النجوم عن إشارة ما. وفي الفضاء ينتشر نقيق ضفادع قادما من بركة صغيرة في الجوار، ويصّاعد من الحقول القريبة  المغمورة بالظلام صرير الجنادب والهواء الثقيل الذي يحمل أصوات طيور لامرئية، تختفي ربما  بين الاكمات. وافق الأب بسرعة بعد أن أصابه مغص في معدته.. والحقيقة ليست كذلك، وافق  _  وهذا مهم أيضا_ لأن الضابط محبوب ابنته الوحيدة، أنهى دراسة إضافية في كلية اللغات، قسم للغة الإسبانية، وفي وقت لاحق، نسّب للعمل في جهاز المخابرات، على كل حال، تزوج الضابط الثلاثيني بمحبوبته الثلاثينية، عاشا بسعادة ومودة ووئام، ثم أنجبا ولدينّ، وفي الواقع أن الضابط غير مرتاح تماما في عمله، هناك حلبة غير مرئية تجري فيها خططا خبيثة لنزالات  متوقعة، الهدف منها كسر العظم بينه وبين مديره. إذن، كان البحث عن السيد ماركيز، هو الذي سيحدد مصير الضابط فيما يتعلق بوظيفته.. بل بحياته كذلك، وقد بحث عن الضيف، مع ثلاثة عناصر كانوا يتلقون الأوامر منه، في الصالة، ثم في المطبخ وفي التواليت. سألوا موظفي الاستعلامات، الحرس، سائقي التاكسيات الذين يحملون بطاقات خاصة لنقل الضيوف الأجانب  من الفندق إلى الأماكن التي يريدون الذهاب إليها.. وفي النهاية، لا أحد أكد لضابط  الأمن أن الضيف قد غادر الفندق، حتى مدير الاستقبال قد تفاجأ ولم يعرف ماذا يقول. هذا الرجل  العجوز الذي كانت ساقه تؤلمه بسبب سقوطه من السلم قبل أيام، والمصاب بالسكري وسوء الحظ، زميلته الشابة أصابها الهلع، خاصة وأنها خرجت من مشكلة قبل أيام، فقد ضبطها  الطباخ لأكثر من مرة في وضع غير لائق مع زميل لها، يعمل في قسم المشتريات، آخرها في غرفة الغسيل، حيث كانت عارية الصدر، وزميلها الذي فصل من العمل بعد هذا الحادث، كان يرضع ثدييها الكبيرين كالطفل كرونوي، بطل رواية العطر.

وأثناء ذلك كان محسن الرملي، وهو كاتب عراقي، يحمل الجنسية الاسبانية، يعمل موظفا في سفارة بلاده في بغداد، قد قاد الضيف إلى الخارج، في تصرف غير محسوب رغم توفر حسن  النية فيه، سارا على الأقدام عبر (شارع السعدون) و(شارع الرشيد)، وفي مسيرة لولبية في الأزقة  الضيقة، وصلا إلى مطعم صغير خلف (ساحة الغريري)، والحقيقة أن هذا التكليف بالمرافقه،  جاء بعد رسالة من الحكومة الاسبانية تقول؛ أن الكاتب الكولومبي غابريل غارثيا ماركيز، سوف  يزور العراق لتقديم محاضرات في كلية الآداب (جامعة بغداد)، ومن الأفضل ترشيح موظف  يعرف العربية جيدا من قبلكم ليرافقه أثناء زيارته، بل من الطيب جدا أن يكون موظفا من أصل عراقي. 

  بالنسية لمحسن الرملي، وهذا الأسم، ليس هو نفسه المثبت في أوراقه العراقية (محسن مطلك روضان) التي لم يعد يستعملها. شاب من قرية (اسديرة) شمال العراق… كان من الغريب حقا أنه وافق على العمل في بغداد، صحيح أنه دبلوماسي ومواطن اسباني، لكنه غادر العراق قبل سنوات، وكان على بعد شبر واحد من القبض عليه.. وعلى أية حال، لا أحد من أهل محسن الرملي يعرف أنه يعمل في بغداد، رغم ذلك، ، التقى لمرات عديدة بأخيه حسن مطلك في مبنى صغير تابع  للسفارة  يقع في (الكرادة)، تحدث محسن عن أعماله ومشاريعه الأدبية، وتحدث حسن عن رواية (دابادا) التي يتمنى إعادة كتابتها للمرة السادسة ونشرها قريبا، وعن مسودته الحادية والعشرين للفصل الأول من رواية (قوة الضحك في أور)… قضيا معا ليلة رائعة، كانت النجوم تملأ سماء بغداد، عندما وقفا عند النافذة يدخنان، ويغنيان معا شيئا عن الحب والحرية والفقد.. وأشياء أخرى، لم تكن، على كل حال، مبهجة، حيث أن الحرب ولم يكن  من الممكن ليلتها الحديث عن شجرة اسمها السلام .

وفي المطعم تحدث الشاب محسن الرملي للضيف عن رواية (الفتيتت المبعثر) و(حدائق  الرئيس)، وكتاب (ليالي القصف السعيدة) و(ذئبة الحب والكتب). قدم العامل أثناء ذلك، صحن القيمر بالعسل، وشرح محسن هذا الشيء الذي يراه ماركيز لأول مرة، حدثه عن الجاموس  والمعدان في جنوب العراق والأهوار والسومريين.. وعن بعض الأشياء الغامضة التي لم يشأ تفصيلها، والتي تتعلق بالمعارضة والحكومة، لكنه تحدث بحماسة عن رواية (دابادا) لحسن مطلك، ثم تكلم بقوة عن (قوة الضحك في أور). السيد ماركيز كان ينصت باهتمام حقيقي.. ويبدو أنه تحمس فعلا. قال: هل يمكن اللقاء بحسن مطلك؟ بالطبع، قال محسن الرملي، وكان من الممكن بالفعل أن يتحقق هذا اللقاء، لكنه في النهاية لم يحدث. تناول الضيف لقمته الأولى، ثم نظر إلى مرافقه الشاب وصاح بصوت عال: يا إلهي.. ما هذا السحر! أي قصيدة رائعة هذه سيد محسن!!!. كانت جملة انفعالية مليئة بالحماسة، سمعها العامل وهو يجلب قرص خبز ساخن آخر، ترجم محسن إلى النادل هذه الكلمات، وكان صاحب المطعم السمين قد انتبه لهذه اللغة  الغريبة أيضا، فأطفأ الراديو بعد أن وضع الجريدة جانبا، وسدد نظراته الفضولية إلى الطاولة التي كانت تبعد عن كرسيه عشرة أمتار، وفي الواقع، أن الرجل معروف بفضوله  المزعج، ثم أن زوجته الجديدة والتي تصغره بأكثر من عشرين عاما، كانت تحب الحكايات الغريبة، إذن، ينبغي عليه أن يفهم ماذا يجري في مطعمه أولا، وليحصل كذلك على حكاية جيدة، سوف يضيف إليها، على الأغلب، بعض التوابل ويحشر نفسه في تفاصيلها، أو وربما يكون هو الشخصية الأولى فيها، فتكون زوجته سعيدة، وتكافئه بليلته دافئة وصاخبة.

العامل أيضا، كان مبهوتا عندما خطف الزبون الأجنبي قرص الخبز من يده، كأنه لم يأكل منذ سبعة أشهر، خطفه وشمه بشغف، فضحك العامل، وكان الناس في ذلك الوقت يمتلكون القدرة على الابتسامة والضحك رغم الحرب، الحقيقة أنهم تعودوا على رائحة الموت، هذا ما كان يطحن قلب محسن الرملي وهو يراقب ضحكة هذا العامل النحيل، على كل حال، ضحك ماركيز أيضا، وكان مثل سكير في حانة يرتادها غالبا أفراد العصابات والمهربين وتجار السجائر الأجنبية، حسنا، لم يكن هذا الفائز بنوبل للآداب يجد بأسا من الحوار مع الغرباء العاملين في مطاعم  شعبية جدا، فهو أصلا كاتب شعبي كما صرّح هو ذاته، يلتقط شخصياته من السوق ومن  الحانات المتواضعة، ولا يعترض على توظيف حتى الخرافات التي تمضعها العجائز.

– أين سوق الطيور؟ سأل ماركيز، أريد أن أشتري ببغاء.

ببغاء!؟ كان الطلب مفاجئا وغريبا، بل وصادما أيضا، ابتسم محسن قبل أن يرد على ماركيز: ببغاء، هل تقصد..؟ أجابه ماركيز بسرعة: نعم، ببغاء، هل يبدو طلبي غريبا إلى هذا الحد!؟ ثم أضاف: اسمع سيد محسن، سوف أخبرك بسرّ كبير، كان هناك رجل من بقايا الهنود الحمر، يعمل صحفيا في جريدة محلية في ميامي، التقيته في مقهى، تناولنا القهوة، وكان رجلا يفتقر إلى  الطموح على مايبدو، له أنف يشبه منقار ديك خامل، وعينان جميلتان كعيني عجل يتيم، لكنه كان ودودا على كل حال، ويشرب كأس البيرة دفعة واحدة كما لو أن أحدا يطارده،  لقد نصحني  هذا الرجل أن أستخدم  طائرا في رواياتي. فتح محسن عينيه، وبدأ ينتف بشاربه وهو يستمع  لهذا المجنون الذي يحاول، كما يظهر، أن يسخر منه أو يعبث بعقله: قال لي، أن الطيور تقوم بتغيير مسار الحكايات، بل أن الكاتب الوغد، يستطيع بمكره أن يجد من خلالها الحلول المستعصية في الحبكة الروائية، الببغاء، الببغاء، الببغاء يا سيد ماركيز،الببغاء بالذات من يفعل ذلك، وهناك نوع واحد منها، نوع لا يمكنك الحصول عليه في أيّ مكان، إلا إذا ذهبت إلى الشرق، اذهب إلى الشرق، اذهب إلى بغداد سيد ماركيز، اذهب إلى هناك  واحصل على طائرك السحري. 

وكان محسن الرملي ينصت بمتعة، كما لو أنه يقرأ بالفعل نصا لماركيز، حسنا، هو يدرك أن بعض الكتاب يخلطون، في أحاديثهم العادية كما في نصوصهم، بين الوقائع التي حصلت بالفعل  وبين الوقائع المتخيلة، حيث يظهر هذا الخلط خاصة في تلك الأوقات التي يكونون فيها منشغلين بكتابة عمل جديد، وهذا الأمر لم يكن يشكل له شعورا سيئا، على العكس، لقد حدث  أن استمع لأصدقاء كتاب وهم يفعلون هذا الشيء، وكان يستلم الخطاب على أنه  قصة متخيلة  وحسب، رغم ذلك، لم يرغب في أن يكون متلقيا خاملا: الحقيقة أنا أتفهم أن الهندي الأحمر  والذي كانت له عينا عجل يتيم، قادرا على اسداء النصائح الثمينة، في ذات الوقت الذي لا يستطيع أن يوظف هذه الأشياء في عمله ويخرج  من دائرة الهامش، كما وصفته أنت يا سيد ماركيز. قال محسن الرملي ذلك، وكان ماركيز متحفزا للرد: لا تكن سيء الظن أيها  الشاب، المخيلة مثل الأجساد، غالبا ما تنطفئ دون تحفيز، يحصل ذلك مع الأجساد عندما تحصل على الراحة لفترة أطول بكثير مما تحتاجه بالفعل، هل أخبرك بشيء آخر؟ في الحقيقة، أنا من رتبت موضوع تقديم المحاضرات في الجامعة، فقط من أجل أن أشتري هذه الببغاء، أوصافه مسجلة في هذه الورقة، وماعليك يا صديقي سوى أن تساعدني للذهاب إلى (سوق الغزل)، هكذا يسمونه، صحيح! هيا لنذهب إلى هناك، من فضلك، القضية مصيرية بالنسية لي، وروايتي الجديدة  متوقفة على هذا الببغاء الحقير.

– ولكنني لم أفهم، لحد الآن، ما علاقة كتابة رواية بالحصول على ببغاء، وكيف يُوجِد الببغاء  حلولاً للحبكة الروائية المستعصية، هل هذه الكلام ضمن دائرة الخيال أم الواقع. رد محسن  الرملي، وكان ماركيز صبورا بالفعل، صبورا جدا وعلى استعداد للحديث إلى ما لانهاية، مثل طفل عن طائره العجيب، قال: وهل يمكنك أن تفصل بين الخيال والواقع!  في القرن الثامن عشر مثلا، كان الكاتشاب يستخدم كدواء! ان قيمة الشىء لا تكمن فقط في وظيفته المعروفة.. بل في كيفية استخدامه في أشياء أخرى، وهذا هو الفرق بين الواقع والخيال، في رواية و(قائع موت معلن) مثلا، كان من الممكن أن تكون النهاية مختلفة، نعم، لو كانت الببغاء معي، لأخبَرَت (نصار) بعد تلقينها أن الأخوين (بابلو فيكاريو) و(بيدرو فيكاريو) يريدان قتله انتقاما لشرف اختهما (آنخيلا)، لو كان لدي ببغاء لكان (سانتياغو نصار) قد نجى من الموت، هل تفهم ذلك؟

وبدا هذا الكلام لمحسن الرملي غريبا فعلا، ومثيرا في الوقت ذاته: هل تعتقد أن حماستك لشراء ببغاء جاءت بسبب شعورك بتأنيب الضمير، عفوا، أقصد وبناء على كلامك، أنك شاركت في قتل سانتياعو نصار، ورسمت، مع الآخرين، له تلك النهاية الدموية.

ظهرت علامات من الحزن على وجه ماركيز، صمت للحظة، أغمض عينيه، كما لو أنه سافر بعيدا، وكان الكثير من الزبائن قد دخلوا وتوزعوا على طاولات المطعم، لم ينتبه أحدا منهم إلى ماركيز، بل لا أحد سوف يهتم، حتى لو أعلن عن نفسه صراحة، وما ساعد على هذا التجاهل، أن شكله لم يكن غريبا، يبدو عراقيا بالفعل، بشاربيه وملابسه العادية، ورغم أن الجنود الأربعة، الذين أحاطوا بالطاولة القريبة، كانوا يتحدثون بصوت صاخب. واصل ماركيز: ولماذا افترضت  بأنني شاركت في قتل نصار، في الواقع، لم أكن أعرف يا صديقي، أن طائرا مثل الببغاء بمقدوره أن يجنب الضحية السقوط في وحشية تلك الليلة المريرة. قال ذلك، وكان واضحا أنه يشعر ببعض الأسى، ثم  أضاف: لقد حدث كل شيء قبل مقابلتي للهندي الأحمر في ميامي، كما كان الحدث شبه واقعي، لم أتمكن من  تغيير الكثير من الأحداث، رغم  ذلك، كان من الممكن أن أخبره، أن أمرر له رسالة، على الأقل، ليتدبر أمره، فقط، لو كان عندي ببغاء من النوع الذي حدثتك عنه، أريد واحدة، هذه المرة، لكي تكون السبب المباشر لنهاية حياة  بطل روايتي القادمة، (الحب في زمن الكوليرا)، لقد قابلت رجلا من سورية في (بوينوس آيرس) يدير محلا لبيع  الطيور، قال لي عندما سألته عن الببغاء: أن مثل هذا الطائر لن تجده إلا في بغداد، ألم أقل  لك! ان نصيحة الهندي العجوز ليست مضحكة، كما تظن، لقد كتب المهاجر السوري على ورقة وبالعربية، أوصاف الطائر بالتفصيل، قال أيضا: انه طائر ذكي، لن يحتاج وقتا طويلا ليتعلم  الحديث والغناء بالإسيانية والفرنسية أيضا، ولكن احذر، انه من النوع الذي يحفظ قاموسا كبيرا من الكلمات البذيئة. على كل حال. قال ماركيز أنه لا يعرف العربية ولا زوجته (مرثيدس) التي من أصول مصرية، لكننا سوف نعلمه الاسبانية. وكان محسن قد وجد نفسه في ورطة مع هذا المجنون الحائز على نوبل للآداب، وعليه أن ينهي هذه الجولة، غير القانونية في بلد بوليسي  مرعب، هرب منه، ورغم السنوات الطويلة التي عاشها في مدريد، لم يزل يشعر بالخوف حتى عندما عاد إليه  دبلوماسيا أجنبيا، ظلّ نبع الخوف مفتوحا كجرح أو كما لو كان لعنة أبدية،  وفي الحقيقة، ما كان محسن ليفعل هذا الشيء بكامل اختياره. كان في صالة الفندق، يتناول  قهوته مبكرا كعادته، وكانت الصالة فارغة عندما هبط ماركيز: صباح الخير سيد ماركيز، هل أطلب لك القهوة؟. قال محسن ذلك مع ابتسامة محبة لهذا الساحر. لكن ماركيز رد التحية بسرعة، ثم جَرّ محسن من يده، وسحبه إلى الخارج، لم يعترض، ربما لأن مثل هذه الحركة  العاطفية، تطفئ كل رغبة بالاعتراض. أو أنه تخيل بأن الرجل يرغب بشم الهواء، وأراد أن يدردش معه بعيدا عن وجود عناصر الحماية حوله، وفي تلك اللحظة، لم يكن ضابط الأمن موجودا، لم يعترضه أحد، ثم قاد محسن الرملي الضيف عبر الشوارع التي امتلأت بالموظفين  والعمال والجنود اقترح أن يتناولا إفطارا محليا في مكان ما، لم يعترض ماركيز عندما دخلا الازقة الضيقة خلف (ساحة الغريري)، على العكس، كان ينظر إلى الأشياء بعينيّ طفل سعيد.

ثم توقفت سيارة شرطة أمام باب المطعم، في الوقت الذي كانا به قد أنهيا افطارهما، بالنسية  لمحسن لم يرتح لهذا المشهد، فتح فمه دهشة، غمره الشعور بالخوف، انفتح فم النبع القديم في داخله، نبع لم يجف رغم كل شيء، خوف أصيل كبر معه في جمهورية الرعب، وفي لحظة  تخيل نفسه عراقيّا يتقن الإسيانية، مكلف بمرافقة ضيف أجنبي، وليس دبلوماسيا أجنبي، تخيل كيف سيوجه له الضابط له تهمة، ايّة تهمة، كأن يقول: لقد سحبت الضيف إلى مناطق فقيرة  وقذرة  لتقول له أن البلد في اسوأ حال، ثم تُعالَج مثل هذه التهمة وتُخلَط بمجموعة من التهم ذات العلاقة، فيرتفع مستوى الجرم إلى الحد الذي سيجعل قرار الحكم لا يقل عن السجن المؤبد. وكان الضابط المكلف بحماية الوفد قد دخل بعينين زائغتين، يتبعه ثلاثة من المساعدين، شواربه  ترتجف، ويبدو انه لم يغسل وجهه بعد الاستيقاظ المفاجئ. نهض صاحب المطعم مرعوبا، فللرجل عائلة ومسؤول عن زوجتين ودزينة من الأطفال، ولم تكن صفحته الأمنية نظيفة تماماً،  وصحته لا تحتمل الرطوبة والطعام السيء والصفعات، حتى العامل، الذي كان منشغلا  بالحديث مع زبون، أراد اأن يهرب من الباب الخلفي للمطعم، فخطيبته قد هددته في آخر لقاءاتهما، بخصوص تكاسله وعدم تحديد موعدا للعرس، وأن أي تخاذل أو غياب، مهما كانت الأسباب، سيكون عذرا مقبولا لرمي خاتم الخطوبة في وجهه، قال لنفسه: ان قلبي لم يكن مرتاحا  أبدا، لهذين الزبونين، وقضية هذا الأجنبي لا تخلو من مصائب. لكن الضابط، قال للضيف، موجها نظراته باتجاه محسن الرملي الذي كان مكلفا أيضا بالترجمة والمرافقة: من واجبي أن أرافق الضيوف حفاظا على سلامتهم، تصرف مثل هذا يا أستاذ، قد يعرضك للمشاكل في بلد لا تعرف عنه شيئا. ترجم محسن، وضحك ماركيز، قال أنا ابن حيّ شعبي في كولومبيا أيها  الضابط، ثم أني أريد شراء ببغاء، ببغاء تنهي حياة (جيفينال ايربينو)، هذا لأنني بالفعل أريده  أن يموت، لكي يتزوج (فلورنتينو اريثا) من محبوبته (فيرمينا دازا)، هل تعرف أحد يبيع  الببغاوات؟ فأنا لم أضع  قدمي هنا إلا من أجل هذا.

ساد الصمت، ترافقه الحيرة على وجه الضابط. محسن الرملي تغير لونه، ثم تحدث لماركيز أولا عن مخاوفه القديمة، وأنها أشياء لم تغادره، إنه يشعر بالرعب من نظرات هذا الضابط الذي يبدو بأنه في جهاز المخابرات وليس شرطياً عاديا. قال له ماركيز: أنا أتفهم ذلك، عندما تكون السلطة كلها مجرد أداة قمع بيد حاكم مقدس، أعرف هذا جيدا، وأقدر مخاوفك. ثم انتبه محسن  إلى أنه من الواجب قول شيء للضابط، رغم أنه قد لاحظ  بأنه لم يكن مهتما للترجمة، نظراته  توحي بأنه يفهم كل شيء، ومع ذلك، ترجم للضابط، نقل أشياء أخرى لاعلاقة لها بالحديث  الذي كان بينه وبين ماركيز، الضابط كان يبتسم بشواربة المشذبة، وهذه الحركة كانت غامضة لمحسن، الذي راح يفكك بعض المعطيات، التي يعرفها أصلا، لكنه غفل عنها، قال لنفسه: ابتسامته لا تدل على شيء.. سوى أن هذا الرجل قد فهم كل ما دار بيني وبين ماركيز، من حوار حول السلطة والقمع والحاكم المقدس، وانه لمن الطبيعي أن يكون لضابط مخابرات مكلف  بمرافقة ضيف مهم، معرفة جيدة بلغته، وأن الكثير من، خريجي كلية اللغات يعملون في  دوائر استخبارية. على كل حال، لم يكن ثمة حل لتدارك الأمر، فالكلمة التي تخرج من الفم مثل  الحجر الذي يسقط من الجبل، كلاهما لن يعودا إلى النقطة نفسها أبدا: إذا دعني أرافقك لقضاء  احتياجاتك، وبسيارتي الخاصة يقودها سائق خاص، لا تقلق، لن تكون سيارة شرطة ههه، قل له يا أستاذ محسن، ألا يقلق، هذا البلد آمن جداً، والقيادة ليست كما يقرأ أو ينقل له البعض  بشأنها، السيد الرئيس هو صديق  لثوار أمريكا الجنوبية، (فيديل كاسترو) خاصة. قال الضابط،  وفهم محسن هذه الرسالة الملغمة.

وكان صاحب المطعم قد أمر نادله بتقديم الشاي للجميع. احتسوا بسرعة وخرجوا. كان محسن مضطرباً ومرتبكاً بالفعل، فيما ماركيز يردد جملته: أي سحر هذا، أية قصيدة هذه! طعم القيمر  والخبز والشاي.. يا إلهي، الغموض والببغاوات، تلك الطيور العجيبة التي تقتل أبطال الروايات  وتنجيهم أيضاً. أريد أن أشتري ببغاء أيها الرفاق، أحتاجها حقاً، كي يتزوج (فلورنتينو اريثا) من محبوبته (فيرمينا دازا)، لا أحد يستطيع أن يفعلها سوى ببغاء ذكية من (سوق الغزل). والحقيقة  أن محسن تملكه المزيد الهلع مع مرور الوقت. تلميحات الضابط ونظراته إليه، كانت تنذر  بخطر غامض، ورغم الحصانة الدبلوماسية. فكر بطفلته التي تركها في مدريد، بأخيه حسن وعائلته وبأشياء عديدة، ويبدو أن ماركيز قد حصل على الببغاء في ذلك النهار، ألقى في اليوم التالي محاضرة سريعة واحدة فقط، رافقه محسن فيها، ثم قرر أن يعود إلى بلاده، لكنه أخذ معه  إضافة لطيره العجيب، مرافقه الكاتب محسن الرملي أيضا، الموظف في سفارة إسيانيا، والذي قدم استقالته في الليلة نفسها، شارحا للسفير الأسباب الواقعية لهذه الاستقالة. محسن الذي غادر بغداد، قال لنفسه: لن أعود مرة أخرى.. حتى لو أن ميغيل دي ثيربانتس سابيدرا نفسه، نهض من قبره  وقال لي: من فضلك يا محسن، رافقتي إلى هناك لأشتري حصانا من سوق الخيول في بغداد، حصان أكتب فيه رواية ظلت حبيسة في رأسي طوال الزمن، وحصان من بغداد هو وحده  من يحررها.

 

 

مقالات من نفس القسم