حميد بن خيبش
لمعظم الأدباء حكايات مع أعمال مميزة مهَّدت لشغفهم بالكتب، وشكلت عالمهم القرائي. ولا يشذ الروائي والناقد الفرنسي مارسيل بروست (1922-1871) عن القاعدة بالتأكيد. فحين ذهب في عطلة إلى جبال الألب وقع في حب أعمال الناقد الفني الإنجليزي جون رَسْكِن، وأحدثت كتاباته أثرا عميقا شبيها بالذي تفعله جميع الكتب بقرائها، أعني استعادة الوجود والكون قيمتهما اللانهائية، وتجديد الانتباه لتفاصيل التجربة الحياتية اليومية التي تتوارى عادة بفعل التجاهل والرتابة.
كانت الميزة العبقرية لكتابات رَسكِن تتمثل في عنايته الشديدة بالتفاصيل، وقدرته على تحريض أحاسيس قرائه بتحويل الانطباعات المشتركة إلى كلمات. وهي الميزة التي جعلت بروست يندفع بوتيرة غير عادية لرسم حدود جديدة للقراءة : ينبغي أن نقرأ كتب الآخرين كي نعرف ما نُحس به، ونُنمي أفكارنا ولو عن طريق أفكار كاتب آخر؛ فالقراءة ليست تزجية للوقت أو إشباعا للفضول بقدر ماهي محاولة لإعادة تشكيل الجانب الروحي فينا. وهو دور جوهري لكنه محدود في الآن ذاته، فكل ما ينبغي توقعه من القراءة هو التحريض على اقتحام عتبة الحياة الروحية وليس تشكيلها.
ميزة العناية بالتفاصيل التي استلهمها من رَسْكن ستضفي على القراءة عند بروست بُعدا جديدا: كل قراءة هي بالأساس قراءة للذات، ومهمة الكتاب أن يصبح أداة بصرية تعين القارئ على أن يتبين مالم يكن ليُعايشه بنفسه لولا هذا الكتاب.
جرب بروست في مقتبل حياته العمل بالمحاماة، ثم تقدم لوظيفة أمين مكتبة بدون أجر. غير أن المكان المليء بالغبار أثر على رئتيه، فتوالت طلبات الإجازة بسبب المرض ليتم طرده بعد خمس سنوات. فأمضى ما تبقى من حياته في سرير حوله إلى طاولة ومكتب، معتمدا على أموال العائلة. وعلى هذا السرير تابع شغفه بالقراءة، فكان قبل أن يتفاقم وضعه الصحي، يتناول فنجانين من القهوة والحليب وهو يتصفح جريدة لوفيغارو أو يقرأ رسائله. ورغم وصفه لقراءة الجرائد بأنها فن حسي ومقيت، يزودنا بأخبار الإفلاسات وجرائم القتل و الإضرابات، إلا أنه أبدى عناية شديدة حتى بالأخبار الموجزة، فكان يحولها بفضل خياله الجامح إلى قصص هزلية ممتعة، ويُثري حادثة قتل عادية بالتفاصيل التي تجعلها تجسيدا لمظهر تراجيدي من الطبيعة البشرية، لا يقل إبهارا عن الأعمال الفنية التي خلّفها الإغريق.
يؤمن بروست بأن كل شيء ينطوي على قيمة وقدر عال من الفنية، إذ يمكننا أن نلتقط اكتشافات هامة من إعلان عن الصابون. يوضح لنا هذا الموقف سبب عنايته بقراءة جداول مواعيد رحلات القطار حين يتعذر عليه النوم. بديهي أن موعد وصول قطار سان لازار لا يشكل أهمية لرجل يقضي معظم وقته في السرير، لكن الجداول التي قُرئت بمتعة، يقول كاتب سيرته آلان دو بوتون، كانت تزود خيال بروست بالمواد الخام لتشييد عوالم بأسرها، لتصوير قصص درامية منزلية في القرى، وألاعيب الحكومات المحلية، والحياة خارجا في الحقول.
قراءة الذات عند بروست تنطوي كذلك على لذة بصرية، غير أن الأمر هنا لا يقف عند الكتب بل يمتد إلى اللوحات الفنية. يحكي صديقه لوسيان دوديه أن بروست، خلال زيارتهما لمتحف اللوفر، كان يجتهد لربط أشخاص موجودين في اللوحة مع أناس يعرفهم في حياته؛ وكانت ميزة تلك القراءة هي اكتشاف الارتباطات البصرية بين عالمين مختلفين. يقول بروست: ” جماليا، عدد الأنماط البشرية محدود جدا إلى درجة أن علينا دوما، أينما كنا، أن نكون أسرى لذة رؤية أناس نعرفهم”.
نفس اللذة يمكن تحصيلها من القراءة، فعند قراءة وصف لشخصية خيالية من الصعب ألا نستعيد صورة شخص نعرفه في الواقع. إنها الطريقة المثلى التي يمكن للفن أن يؤثر بها بدل إلهائنا عن الحياة.
والقراءة عند بروست لا تعني بالضرورة تبجيل الكتب، لأن أخذها بجدية كبيرة يُكرس صورة زائفة عن الإنتاج الأدبي. إن مهمتها أن تحثنا على الإحساس وتعزز قدرتنا على الإدراك. بيد أن هناك لحظة مفصلية ستتوقف فيها الكتب عن فعل ذلك حين نكتشف أن المؤلف ليس هو نحن ! لذا أبدى بروست حرصه على وضع إرشادات حذرة بشأن “إغواء” القراءة. يقول على سبيل المثال :
” سيصبح خطرا، من جانب آخر، لو عمدت القراءة، بدلا من تنبيهنا إلى حياة الذهن الخاصة، إلى الحلول محلها. عندها تتوقف الحقيقة عن كونها فكرة مثلى لا يمكن لنا بلوغها إلا عبر التقدم المحموم لأفكارنا وجهد قلبنا لتصبح أمرا ملموسا، موجودا بين أوراق الكتاب كعسل مهيأ للآخرين ، بحيث يكون كل ما علينا هو تكبد عناء النزول من رفوف المكتبات، وتناول عينات منه في سبات تام للعقل والجسد “.
حين نتخلى عن حرصنا واستقلاليتنا أثناء القراءة فإننا سنعاني لاحقا من أعراض ميَّزها بروست بذكاء شديد :
أولها الخلط بين الكاتب والعرَّاف، بحيث توهمنا براعة الكاتب في موضوع معين بامتلاكه سلطة تامة في باقي المواضيع، وبالتالي امتلاكه الإجابة على كل شيء.
وثانيها هو الشعور بالعجز عن الكتابة بعد قراءة كتاب جيد، لاعتقادنا أن ما تضمنه هو أسمى من أي شيء يمكن لعقولنا التوصل إليه.
وثالثها أن نصبح عبيدا للفن، ونخاطر في تقدير الكتاب على نحو يقلل من قيمة الذات؛ فالتقدير الأدبي المفرط لبعض الأعمال يؤدي إلى إهمال روح الفن.
إن القراءة تحريض على التقدم بخطى هادئة صوب عتبات الروح، أما الولوج إلى عوالمها فرهين بمقدرتك على التبصر، وتحويل الانطباعات إلى كلمات !