مائدة واحدة للمحبة، دوران العالم بين الشعر والموسيقى

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

تحقق "أريج جمال" في هذه المجموعة المتميزة المعادلة الصعبة فعلاً، إذ جمعت باقتدار بين الشعر والسرد،جمعًا حقيقيًا لا يقتصر على استخدام لغة توصف بأنها "شاعرية" فحسب، بل جاء البناء أيضًا في كثيرٍ من تلك القصص أقرب ما يكون إلى روح الشعر وبناء القصيدة، جاءت قصصٍ المجموعة معتمدة  في بناءها على وصف الأحداث بتمهل وانسيابية، وتنتقل عبر قصص المجموعة الـ  إحدى عشر إلى عدد من الحالات المتباينة مازجة الواقعي بالفانتازي والحلم بالخيال في آنٍ معًا

في قصتها الأولى التي يشي عنوانها بعالمها (حكاية اللوح الزجاجي الذي يطلع للبنت من المنام) تتعرض لتلك الحالة شديدة الخصوصية التي تنتاب راسمة في “حدوتة” تبدو خيالية تمزج فيها الرسم بالشعر والموسيقى، وتتوحد فيها الذات/الراسمة/ الفنانة  مع “الكائنات” من حولها، فيحدثها “اللوح الزجاجي” وتحدثه، وتسمع كلام النمل، وتتأمل “الفحم” الذي تريد أن ترسم به، تصنع في النهاية لوحة “مكتوبة” تصعد منها الموسيقى ويتدفق الشعر في آنٍ معًا، تعيش معها في تلك الحالة الخاصة “للرسم” بين تصاعد موسيقى “إديث بياف” تحديدًا ومراقبة النمل وحركة القلم على اللوح الذي يرقص، حالة خاصة جدًا وعالم حالم يبدو سحريًا تخلقه “أريج” بين السطور ليشكل تلك اللوحة المميزة:

(كان اللوح يراقصها في الدنى الأخرى، ويدربها في أوقات الراحة على أِياء رائعة “الاستماع إلى أغنيات إيديث بياف، محبة النمل لأنه دؤوب ومخلص للغاية، تزيين غرفتها بالشمع، أشار اللوح له بالذات لأنه قادر على إشاعة النور في الروح، سكت ريثما تبتسم ثم أضاف .. أكثر من الشمس” كف اللوح عن الحديث عن الوحدة، كف عن البوح لها عنها، كانت مشغولة بأهم … )

ويبدو أن الموسيقى عنصر ملازم للمجموعة، فلا نترك “إيديث بياف” في القصة الأولى حتى نجده مرة أخرى، في (الذين سلموا من كل شيء) لترصد علاقة صداقة من نوعٍ خاص، تلك العلاقة التي تحرص صاحبتها/الكاتبة/البطلة على “تدوينها” حتى “لاتتعذب ” وحتى “تحضر” تلك الصديقة الغائبة، وتعقد مقارنة بينها وبين إيديث بياف، راصدة تلك اللحظات التي كانت تجمعهما كـ “حلم” ..

(تغيبين يا سلمى، وأعرف أنك لا تشبهين إيديث بياف، إلا في الحاجبين الرفيعين، وحضورها الملائكي تنفثين دخانك فيحاصرني، وأحب أنه يحاصرني، أحب أن أحكي بالذات عن صوت العربات بالخارج العربات التي لا تبالي بنا وبسعادتنا وبغروبنا القادم بثبات راسخ ...)

وفي القصة التالية بعنوان (المشد) تستعرض الكاتبة بسهولة علاقة المرأة بجسدها، تلك العلاقة الخاصة جدًا أيضًا ـ من خلال سرد بسيط لفتاة من عمر السابعة وعلاقتها التي لا تنقطع أيضًا بالشمس والعصافير والموسيقى من خلال صوت “داليدا”: (حين تبدأ خلع الأثواب الصغيرة التي ألبسوها إياها يفزع العصفور الصغير، ويسافر في اتجاه الشمس التي تؤذي عين الصغيرة ولا تؤذيه هو، لا تفهم لم فقط تشاهده، ثم تغمض عينيها بقوة، كأنها تتأكد من وجودها وهي تستكمل عريها الذي صار الآن حبيبًا .. وعلى الأنغام الأخيرة لأغنية داليدا تمارس التلفت الأول ) تكبر الفتاة وتدخل في سن المراهقة علاقتها بآخر، وعلاقتها بالآخرين الذين يأمرونها أن تستر نفسها عنهم لكي يحبها الله! وهي تتساءل (كيف سيحبني الله وهو لايراني) !!

وتكبر الصغيرة وتكبر علاقتها بالآخر / الحبيب الذي يخلع “المشد”، وتصير امرأة تتزوج بيتها أثاثه وهندامه، ويأتي ذلك التحول الكبير إذ تخذلها “داليدا” وينسحب العصفور، يغيب عالم الطفولة ببراءته ليحضر عالم الزوجة بقسوته، ولكنها في النهاية لا تزال تحلم بعالم آخر ويوم جديد يكون في الحبيب قريبًا، وترقص معها داليدا وهي تغني (جدع إنت يا جميل الصورة)

حلم اللقاء بالآخر الغريب والمختلف الذي كان في (سلمى)، واستدعاء الكتابة وحضور الغائبين، يحضر بجلاء في قصة المجموعة الأكثر رهافة وثراءً (مائدة واحدة للمحبة) .. حيث تستحضر هذه المرة “فرجينيا وولف” التي تتأمل صورتها من غلاف الكتاب حتى تقيم معها حوارًا افتراضيًا لايخلو من الشاعرية

(تكلمت وقالت عن كونها كاتبة عظيمة، وأنا أتت المدينة لأن ثمة احتفال كبير رسمه زوجها المحب، وآذتني المحبة فابتسمت وهززت رأسًا أن أعرف، وكسرت خشبية عيني وأنا أنحني وأمنح الأعين الخضراء ابتسامة مواسية، وأعود فأسحب من حقيبتي شيئًا يمكن أن يمسح المطر الساقط على كتفيها. حين استدرت شعرت بهول أنها زوجته …)

 تنتقل هذه الشاعرية إلى الأشياء في أكبر تجلياتها في (يسوعنا) الذي تصف فيها حالة “البيت” وكونه في لحظةٍ ما يمثل الملاذ الآمن والمخلِّص، واصفة حالة اقترابها منه كاقترابها من قديس لحظة الاعتراف، في لحظة تفتقد الكاتبة/الساردة حالة التوحد مع هذا البيت الذي يباع ويرحلون تاركين فيه آثارهم وذكرياتهم كلها، تعود إليه كي “تصل” وتناجيه (أحب الصعود، وتسلق الدرج بجسدي البشع، لأن الوصول سيكون إليك، ولأني أدري أنك ستغفر، تصدقني .. وأنا أيضًا ، أصدق أن خلاصك آتٍ ، ربما لا توقظ الموتى لكن بالإمكان أن توقظ الأحياء)!

وتبلغ الشاعرية ذروتها في قصة (الأزرق الذي يجتبينا) منذ مطلع القصة/القصيدة:

(يا الطريق كن بردًا وسلامًا على الغرباء .. نحن الذين نلتقي من غير موعدٍ، فنحيل وقتنا قصة، نخلي سبيل كمدنا بقرائتها .. نحن الذين نلتقي كي نؤجل أيام افتراقنا أيامًا، وربما فقط ساعات، كيما ننسى وحدتنا، ونبرهن على صلابة عودنا، ذلك الذي بعثرته الريح مراتٍ ولم يعد يصلح لشيءٍ ولا حتى للرتق)

هنا تخلق الكاتبة عالمًا يتمحور حول “أري” و”نوح” نموذجان جديدًا مختلفان للرجل والمرأة، ونجد في تفاصيل القصة رجال الشرطة والرصاص والخوف والفزع وملك الموت الذي يحصد الأرواح،  ولكن لا يزال الأمل قائمًا (لحطة أن تعلمنا أجسادنا التقبيل) لتنشأ محاولات الخلاص التي تأتي في النهاية بالحلم بمكان جديد آخر لا جزع فيه ولا ألم  حيث (سنسعد وآرينا تضع رأسها على صدر نوحنا، ونقول بصوتٍ أكثر صفاءً من كل ما كان قبل، في البدء كان الضم)

بإمكاننا التوقف عند كل قصة على هذا النحو، ولكن ما تجدر الإشارة إليه أن ما تمنحه كتابة “أريج” من متعة وجمال يتجاوز بكثير ما رصدناه أو نحاول أن نرصده، إنها كتابة جميلة بالفعل ثرية بما تحويه من دلالات وما تحتاج إليه من قراءات متجددة تكشف كل مرة عن جماليات أخرى مختلفة، والأجمل أنها تشي بالمزيد، وأنا على يقين أن الآتي لها سيكون أكثر جمالاً .. وها نحن في الانتظار ! 

مقالات من نفس القسم