مائة وخمسون سنة على وفاة رفاعة الطهطاوي: سؤال التمدن والتحديث

رفاعة الطهطاوي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

شُعيب حَليفي

في لحظات معينة من تاريخ الأمم والشعوب والأفراد ـ وبالتحديد من تاريخنا ـ نستدعي حُلما ليقوّينا على مواجهة شراسة الواقع، أو نستدعي حكايات وجملا وكلمات نصنع منها قدراتنا للاستمرار، ولكننا حينما نستدعي كاتبا أو مفكرا، بأفكاره وبرنامجه وسيرته فليس الأمر ترفا أو تكملة لنشيد ثقافي، ولكنه إشارة صريحة إلى مأزقنا في نفق وصلنا نهاياته فاصطدمنا بأسئلة التمدن والحداثة والتحديث، أسئلة الديمقراطية والحرية والتقدم.

وعودتُنا إلى رفاعة الطهطاوي هي في سياق العودة إلى ابن رشد والفارابي، وابن خلدون والكندي وابن الخطيب، وكل الفلاسفة والفقهاء والرحالة المتنورين، عودة إلى آرائهم وأسئلتهم ورؤاهم.

وفي هذا الإطار ننظرُ إلى قراءة الطهطاوي وراهنيته من خلال ما جاء من آراء وأفكار تتعلق بالتقدم والتمدن وتحديث البنيات الثقافية للمجتمع من خلال كتابه «مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية».

ففي سنة 1869 (قبل أربع سنوات من وفاته 1873) انتهى رفاعة الطهطاوي من تأليف كتابه هذا، والذي يشكل إلى جانب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» و«المرشد الأمين للبنات والبنين»، ثلاثية تحمل أفكاره الأساسية في تجديد الفكر العربي وإصلاحه؛ وتتضمن هذه المؤلفات رؤيته الإصلاحية وأهم أسئلته بخصوص التمدن والتحديث وكيفيات التحضر واللحاق بالأمم المتقدمة على كافة المستويات من خلال مجموعة من الاقتراحات والآراء في مجال المجتمع بشكل عام.

وكان لا بدّ من تكامل بين المصلح والمفكر الذي يقترح، وبين السياسي الذي ينفذ. بين الطهطاوي من جهة ومحمد علي، وإسماعيل من جهة ثانية. ولعلها من اللحظات النادرة والقليلة في التاريخ العربي التي يوجد فيها المثقف المفكر والمصلح الذي يشخص المرض ويقترح العلاج؛ ويوجد السياسي المؤمن بهذا المثقف، ونادرة هي اللحظات التي كان الحاكم/السياسي يؤمن فيها بفكر المثقف أو العالم فبالأحرى أن يعمل بما يقوله، لكن حالة محمد علي والطهطاوي ستؤشر على ملامح نهضة روحية وثقافية.

وبالرجوع إلى آراء ومقترحات الطهطاوي أريد الوقوف في البداية عند مرجعيته في الكتابة والفكر.

مرجعية الطهطاوي

وُجد الطهطاوي في محيط تحيط به دائرتان مغلقتان ومتشابهتان: دائرة محلية مصرية ودائرة عربية إسلامية، مغلقتان بالجهل والفقر والتخلف وغياب المشروع المجتمعي، وكان وعي الطهطاوي بثقافته الأزهرية وتفتحه على المستقبل مدركا منذ شبابه لهذا الواقع، زاده في ذلك تتلمذه على يد الشيخ حسن العطار وهو الرحالة والأديب والرجل المستنير.

كما عاش في لحظة زمنية صعبة تحت الحكم العثماني وسط أفضلية الأتراك على المصريين. وفي لحظة وعي المصريين بوطنيتهم بعد انتفاضتين ضد الفرنسيين، دفعت الأولى نابليون إلى اقتحام الأزهر بالخيول وضربه بالمدافع، والثانية دفعت «كليبر» إلى إحراق منطقة بولاق وتدمير القاهرة الإسلامية، فكانت بدايات التوق إلى التحرر والتحرير، مثلما تأثر بما قرأه من كتابات دينية مشرقية ومغربية كان لها تأثير واضح على كتاباته، خصوصا مؤلفه الأخير «نهاية الإيجاز في تاريخ ساكن الحجاز» 1873، كما كانت بين يديه وهو يجمع مادة كتابه «تخليص الإبريز…»، نماذج من كتب الرحلات ووصف الشعوب، فهو يشير إلى رحلة طبعها بعض المسافرين في بلاد الدولة العثمانية، ورحلة أخرى في بلاد الجزائر دون ذكره لاسم مؤلفيهما.

وتتسع مرجعية الطهطاوي لتشمل أيضا فلاسفة فرنسيين كبارا من أمثال مونتسكيو وفولتير وجان جاك روسو… واطلاعه وترجمته ومراجعاته للقوانين الفرنسية والدستور الفرنسي وأيضا كتاب دبينغ «لمحة تاريخية عن أخلاق الأمم وعاداتهم» بعدما اقترحه عليه جومار ترجمته تحت عنوان «قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر»، اطلاعه أيضا ومتابعته للمجلات والجرائد الفرنسية خلال خمس سنوات من المشاهدات والمعايشة للواقع الفرنسي أفاده في تشكيل رؤية واقعية لما اقترحه.

كما كان للترجمة دور كبير في إخصاب مرجعياته، فمنذ ركوبه الباخرة من الاسكندرية شرع في تعلم اللغة الفرنسية واتخذ له بعد وصوله باريس معلما خاصا على نفقته، وساعده في التعلم والتحصيل بالتعهد والتوجيه كل من فرانسوا جومار والعالم دي ساسي.

وفي 19 أكتوبر 1830 أدى رفاعة امتحانه النهائي في باريس حيث قدم «التخليص» إلى اللجنة التي ناقشته كأنه رسالة تكميلية إلى جانب اثني عشر موضوعا مترجما.

كل هذا الثراء المرجعي للطهطاوي سيترجم عمليا في انشغاله الحقيقي بتأسيس مدارس وكليات ومعاهد وجرائد وظيفتها تحقيق التقارب والانفتاح وبلورة أفكاره وأفكار المتنورين في سبيل مجتمع صالح ومتقدم.

مناهج الألباب: مفرد بصيغة الجمع

ألف الطهطاوي كتبه «مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية» بعدما كان قد أصدر ترجماته في ميادين مختلفة ومؤلفاته أيضا، وبعده سيتفرغ لإصدار مجلة «روضة المدارس» 1870 أول مجلة ثقافية وفكرية، ويصدر عنها ملاحق في شكل كتب كاملة في الفلسفة، والجغرافيا، والصحة العامة، والنبات، والفلك، والفقه، والأخلاق، والتاريخ. وكان وعيه في هذه المرحلة قد اكتمل في النضج وامتلأ بروح الأمل والتفاؤل لحظة افتتاح (قنال) السويس وتأسيس دار الأوبرا والمسارح وما إلى ذلك من المشاريع الاقتصادية والثقافية.

وسط هذه الروح المتفائلة كتب مؤلفه الذي لم يكن فيه مشغولا بوضع نظرية التمدن بقدر ما كان يهدف إلى استنباط قواعد وأسس التمدن والانتقال، فجاءت أفكاره تدعم ضرورة التمدن والعمران بوجود أصلين اثنين للتمدن:

ـ معنوي: وهو التمدن في الأصناف والعوائد والآداب.

ـ تمدن مادي وهو التقدم في المنافع العمومية كالزراعة والتجارة والصناعة «ويختلف قوة وضعفا باختلاف البلاد، ومداره على ممارسة العقل وصناعة اليد وهو لازم لتقدم العمران».

ويجب أن يكون التمدن عموميا يستفيد منه الجميع، وفي الجوانب الثلاثة، الزراعة ـ الصناعة ـ التجارة، فضلا عن الآداب والأخلاق، (احتلت الأخلاق حيزا هاما في فكر الطهطاوي السياسي). ثم يتحدث عن دور الدولة ودور الفرد في النهوض بالمجتمع مؤكدا على دور المرأة في الأعمال الاجتماعية والخيرية ودور الأمراء والنبلاء، فهم أولى بالإرصادات العظيمة التي تليق بمقاماتهم.

يقول الطهطاوي بأنه على عامة الناس العمل والإنتاج وأن صفة الكسل مَثْلَبة خبيثة بل هي أم الخبائث، ويدعو إلى الاجتهاد حكاما ومحكومين (على الحاكم أن يجتهد حتى ترضى عنه جميع رعيته). شيء آخر لتحقيق التمدن هو الإرادة والتي لا تنشأ إلا عن حب الوطن.

كما يقف عند العلاقات بين أبناء الوطن الواحد والتي تقوم على الأخوة، وفي هذا السياق يأتي الطهطاوي بثلاث مفردات (الأخوة ـ التعاون ـ السوية «المساواة») لتثبت حقوق الأفراد داخل المجتمع، فالدولة أو الانتظام العمراني في رأيه يقوم على قوتين أحدهما القوة الحاكمة الجالبة للمصالح، الدارئة للمفاسد، وثانيهما القوة المحكومة المُحرِزة لكمال الحرية المتمتعة بالمنافع العمومية.

وقد حرر الطهطاوي أفكاره ومطالبه حول التمدن انطلاقا من مرجعياته الدينية والفلسفية والتاريخية والأدبية وذلك بأسلوب إمتاعي يعود فيه إلى السرد التاريخي والاستشهاد الديني وإدراج وقائع من حياة الرسول (ص) والأنبياء والملوك وكافة الأحداث التي يؤسس بها رفاعة لتواصل ممتع. ففي حديثه، مثلا، عن الفضائل التي تخلق التساكن والأخوة والتكافل بين أبناء المجتمع: الكرم والصدقة الجارية، يورد لذلك حكايات طريفة عن البخلاء منها:

يقال إن العماد الحِلِّي المذكور اشْتَرى مملوكًا تركيًّا فحضر إليه يَوْم سَبْت بدمشق المحروسة، فقال له: «أريد أن أَتَفَرَّج مع المماليك فأعطني شيئًا، فأعطاه فلسًا فرماه، فغضب العماد وقال: وَيْحك، ترمي الفلس وهو النقطة التي في وسط الدينار، فقال له المملوك: وكيف ذلك؟ فقال: لا ترى في يدك فلسًا حتى تَصْرِف درهمًا، ولا ترى في يدك درهمًا حتى تَصْرف دينارًا، وهذا الفلس الذي رَمَيْتَ به يقضي حاجة ساعة، وحاجة يوم، وحاجة أسبوع، وحاجة شهر، وحاجة عام، وحاجة الدهر كله، فقال له مملوكه: وكيف ذلك؟ فقال: أما حاجة ساعة فقصعة عقيد أو كوز فقاع، وأما حاجة يوم فباقة بقل أو زيت للسراج، وأما حاجة أسبوع فقطن للقناديل، وأما حاجة شهر فكبريت، وأما حاجة عام فملح، وأما حاجة الدهر فَوَتَد يُدَقُّ في الحائط ليُعَلَّق عليه الثياب.»

قال عبد العظيم بن أبي الإصبع: نَزَلْتُ من قلعة الرها يومًا وصَحِبَنِي اثنان من أصحاب الملك المُظَفَّر شهاب الدين؛ لِقَصْد السلام على العماد الحِلِّي بالمدرسة، وكان وكيل بيت المال بالرها من قِبَل الملك العادل، قال: فَلَمَّا اجْتَمَعْنَا به طَلَبْنَا الغداء منه، فقال: نحن بصريون نتخارج على جاري عادتنا، ولكن ما أَحِيف عليكم؛ لأني صاحب البيت أنا وحدي، مِنْ عندي ثلاثة أشياء، وأنتم الثلاثة مِنْ عِنْدِكم شيء واحد؛ أنا من عندي الغلام الذي يشتري الحاجة، والبيت للجلوس، والسفرة التي يُؤْكَل عليها، وأنتم الثلاثة من عندكم الفضة التي يُشْتَرَى بها الحاجة، فقُلْتُ له: يا عمادُ ما أَشْبَه هذه المُخارَجة بِمُخَارَجة بعض الخلفاء مع نديم له… «.

راهنية مشروع الطهطاوي

يستمر مشروع الطهطاوي بأسئلته وأسئلة المفكرين والمثقفين العرب الذين يؤرقهم واقع المجتمع العربي، فقد اكتشف الطهطاوي حاجة شعبه إلى المعرفة والانفتاح وتعديل الكثير من المفاهيم والتصورات لكون المرحلة التي وُجد فيها كانت بحاجة إلى مثقف يضع يده على الخلل، وفعلا فالمجتمع العربي منذ تلك اللحظة وقبلها كانت الحاجة ملحة لثلاثة أشياء:

1 ـ الحرية والتحرر والديمقراطية وأسس النظام والتنظيم.

2 ـ الاجتهاد: فقد كان من الممكن أن يكتفي الطهطاوي بأداء مهمة فقهية وإرشادية، يهتم بالعبادات والإفتاء، كما كان بإمكانه الاكتفاء بتعلم الفرنسية في حدود الفهم وترجمة بعض النصوص المدرسية ولكنه اختار الاجتهاد بمعناه المتقدم.

3 ـ المعرفة وتتطلب المغامرة والإمساك بعناصر التغيير في مواجهة قوى التحجر.

هذه الأفكار عالجها الطهطاوي بداية في كتابيه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» و«مناهج الألباب…» في أفق فكرة مركزية قال به لاحقا المفكر اليوناني كورنيليوس كاستورياديس وهي تأسيس المجتمع، مجتمع منظم، عادل، متعلم، متعاون، حداثي، متمدن.

بعد أزيد من قرن ونصف القرن على هذا الكتاب، هل تحققت الحرية والتحرر والديمقراطية؟ هل استمر التنوير والاجتهاد دون عوائق، هل تملكنا المعرفة، معرفة الحاضر والمستقبل؟

في راهن العولمة، والذكاء الصناعي، تحيا المجتمعات العربية لحظات تعكس أزمات مركبة في الحرية والاجتهاد والديمقراطية، يعكسها:

ـ تبخيس الثقافة والعلم.

ـ إفساد نظم التعليم؛ وضعف ميزانية البحث العلمي أو التكنولوجي في كل عالمنا العربي مما دفع بعدد من المفكرين والعلماء العرب إلى الاستقرار في الغرب وأمريكا، الأمر الذي يكشف أنه ليس لدينا مشروع واضح أو استراتيجية تكنولوجية، نحن فقط مجتمعات استهلاكية للمواد الكمالية.

إن داء العطب لقديم، على الأقل، منذ إجهاض مشروع البعثات العلمية إلى أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر، ومنذ أن كان تفكير الحجر الإقصاء والرفض والانغلاق هو السيد والسائد حتى الآن في كل المجالات. هل لدينا في كل العالم العربي مؤسسات ثقافية (أو سياسية) مستقلة تمتلك المبادرة الجريئة؟ باستثناء أفراد وأساتذة يضيئون لنا رؤانا ويسهرون على تربية أحلامنا، الأموات منهم والأحياء.

إن جيلا كاملا تتلمذ على أفكار هؤلاء المتنورين من أبناء رفاعة، كما أسماهم بهاء طاهر، يطرحون اليوم نفس الأسئلة بخصوص إشكالية مأزقنا، وكيفيات تجاوز كل هذا التخلف المركب؟

إن خللا ما كبيرا ومتسعا ندركه بسهولة، فالعالم من حولنا يقوي دعائم تقدمه وحداثته وديمقراطيته واجتهاداته ومعرفته، ونحن نقوي تحجرنا وعطبنا التاريخي، وجهلنا وضيق أفقنا.

ولعل أهم درس ـ ضمني ـ عند الطهطاوي كما عند كافة المفكرين والمصلحين في العالم العربي والإسلامي والإنساني عامة ـ هو الإرادة والأمل الذي لا نفقده أبدا في الوصول إلى لحظة الإمساك بحاضرنا ومستقبلنا عن وعي المسؤولية.

مقالات من نفس القسم