التقاط اللامرئي
الطويلة يلتقط فى قصصه هذه اللامرئى بالنسبة لآخرين، لم يلتفتوا إلى ما استطاع هو أن يلتفت إليه من حالات ومشاعر إنسانية، إضافة إلى أنه جعلنا نعيش حالة اللامعقول التى باتت تجثم على واقعنا الراهن، ولم نستطع بعد التوصّل إلى فك رموزها، أو تفسير طلاسمها التى انغلقت علينا وصَعُب علينا تفسيرها. وعلى الرغم من قِصَر هذه القصص إلا أنها يمكن لكل منها أن تتحول إلى رواية طويلة وكاملة فى خيال المتلقى الذى تتلبسه الحالة القصصية نظرًا إلى لغتها البسيطة التى تتسرب عبر سرد قصصى ينساب فى رشاقة وخفة قلّ ما تصادفنا فى نص قصصي. هذه القصص لا يُوجّهها الطويلة إلى قارئ معين، يستند إلى مرجعية ثقافية ما، بل يوجهها إلى قارئ عادى لا يجد أية صعوبة فى أن يستوعب محتواها، ويُدرك مغزاها، مستمتعًا بها وهو يتنقل بين عوالم أبطالها المختلفين الذين تتحرك نُسخٌ منهم على مقربة منه. وبهذا أصاب الطويلة حينما راهن على القراء العاديين، وهم كثيرون، فيما لم ينشغل كثيرًا بما تريده النخبة المثقفة من سِمات خاصة يكتظ بها النص الذى يُوجه إليها، متناسبًا مع مستواها الفكرى والثقافي.
بورتريهات
هنا ربما لا يكون الطويلة يتعمد كتابة قصة قصيرة، بل يرسم بورتريهات لشخصياته ومعظمهم من البسطاء الذين يرصد حياتهم اليومية، ويسرد لنا تفاصيل واقعهم المعيش فى ثنايا هذه القصص/ البورتريهات. الطويلة، أو الراوى العليم هنا، يرسم فى قصته الموت بالعرض بورتريه للعلاقة التى تجمع بين صديقين، أحبّ أحدهما أخت الآخر، غير أن أشياء تافهة عطّلت إتمام الزواج. إنها حالة حب بين اثنين، كانت الحبيبة زعيمة شعب، وكان حبيبها هو شعبها الذى تخطب فيه دائمًا: «أصبح محمود شعبها تخطب فيه ليل نهار، تصيح، تأمر وتُنهي، وحين تغلبها طيبتها تمنحه حنانها». فى هذه القصة يُظهر لنا الطويلة بعض المشكلات التى تحدث فى الريف من لا شيء، استنادًا إلى قبلية ممقوتة، لا إلى غيرها: «لم تعد المشكلة اسم العروس أو العريس، أو اسم أبيه وأبيها، المشكلة أصبحت فى عمّها المهم، أو خاله الضابط فى نقطة المرور على الطريق السريع». هذه القصة، مثلها مثل بقية قصص المجموعة، كتبها الطويلة بلغة مؤثرة للغاية، تجعل قارئها يعيش النص وكأنه هو بطله الحقيقي، كما تبدو اللغة، رغم الحزن الظاهر فيها، رومانسية إلى حد كبير. أما فى قصته فضاء ضيق فيصور لنا الفتاة التى يحلم الراوى بالارتباط بها، باليمامة التى تحط على المقعد المواجه له على المقهى، بابتسامة تتسلل منها خفة روح، لكنها حينما يرسل إليها دعوة للارتباط تُبلغه أنها ما زالت صغيرة، وأنها تريد ممارسة الطيران وحدها لفترة أطول، قبل أن تسكن قفصها الأبدي. فى بعض قصصه يبدو وحيد الطويلة وكأنه يكتب قصيدة، لا قصة، يساعده فى هذا تمكنه من لغته وقدرته على تطويعها كيفما يشاء، دون أن يجد أى صعوبة فى أن يتخذ لنفسه أسلوبًا يخصه هو، وصياغة رائقة لا يُعكر صفو انسيابيتها لفظ غريب، أو جملة مرتبكة، أو صورة مجازية غير مفهومة: «أرخت جدائلها باتجاه النيل، غيمات الخريف تتدحرج على نفس المقعد الخشبي، الذى تركه صاحبه لِلَهْو الريح». كذلك لا تخلو قصص وحيد الطويلة من خيط سياسى يحاول من خلاله أن يناقش بعض القضايا المثارة على الساحة السياسية، غيْر أنه لا يعالج مثل هذه القضايا معالجة مباشرة، وإنما من خلال التلميح لا التصريح: «فى اليوم الآخر، صنع من العلم الأمريكى قميصًا ومن علم مدينته شورتًا. لم يُعْطهِ أحد. لم يقل أحد إن المدينة تهذى».
على طريقة المحب
أيضًا لا يفوت الطويلة أن يمر على بعض المشكلات التى تنخر فى عِظام المجتمع، من طبقية وتفاوت فى مستويات الفقر المدقع والثراء الأفحش، لا الفاحش: «الأمر إذن يحتاج لجنازة تليق بدموعها، لا يعنينى الفقيد لذاته، فى جنازة كلب السيد يتقافزون، وفى جنازته إن يحضروا يتنابحوا». وحيد الطويلة الذى كتب كل قصصه تقريبًا وهو جالس على مقاهٍ عديدة فى أماكن مختلفة، مُصدّرًا لنا أنْ ثمة ارتباطا بين جلوسه على المقهى وحضور وحى القصة إليه، قد نجح فى أن يضعنا، فى قصصه هذه، على مَحكٍّ يتأرجح ما بين الحلم والحقيقة، ما بين عالم نحلم بالترحال إليه، لِمَا فيه من سِحر وسعادة مُشْتهاة، وبين عالم آخر بائس ويائس، ضاق بنا وضقنا به لكثرة ما فيه من أحزان وكوارث يصعب أن تستقيم الحياة برفقتها. كذلك ما يُلفت انتباهنا فى مجموعة مائة غمزة بالعين اليسرى هو عدم تواطؤ القاص مع أحد ضد أحد، هو فقط ينحاز إلى الفن القصصي، متفانيًا فى الإخلاص له، وهو يكتب قصصه على طريقة المحب الذى يتفانى، حدَّ الذوبان، فى محبوبه الأزلي.