لِمنْ تُصنع الأفلام؟ عن (عبده موته – الألماني – قلب الأسد)

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
محمد سيد عبد الرحيم. إنَّ ما يجمع بين ثلاثية (عبده موته 2012 – الألماني 2012 – قلب الأسد 2013) -بخلاف الممثل الموهوب محمد رمضان- هو نقد الفروق الطبقية الواسعة التي تبتلع مَنْ يحاول أن يقفز فوقها؛ عبر الإعدام في فيلم (عبده موته)، أو موت الحبيبة/المثال في فيلم (الألماني)، أو فقد الاتساق مع الذات في فيلم (قلب الأسد).

نجد ذلك الحقد الطبقى متمثلا في قول الألماني (بطل الفيلم الذي يحمل اسمه) بينما يحشش مع أصدقائه: “أول ما هبقى رئيس جمهورية هاعمل برنامج تبادل اجتماعي. أجيب سكان الزمالك (وهي منطقة راقية  في القاهرة) في الكيت كات (وهي منطقة شعبية في القاهرة) وسكان الكيت كات في العجوزة (وهي منطقة أخرى راقية في القاهرة)”.

يحاول البطل في الأفلام الثلاثة أن ينتقل اقتصاديًّا من الطبقة الدنيا إلى الطبقة الوسطى. فيحاول في الفيلم الأول بيع المخدرات ليصبح غنيًّا حتى تتزوج أخته من رجل مقتدر ومن بيئة أرقى، وفي الفيلم الثاني يحاول أن يخرج من الطبقة الدنيا عبر استغلال حالة الفوضى التي سادت ما بعد ثورة يناير 2011 عبر بيع الأنابيب والموتوسيكلات، وفي الفيلم الثالث يحاول أن يوفر أموالًا لعلاج أم حبيبته، ثم ليصبح وجيها كـ(الناس اللي عايشة) على حد قوله.

إلا أنَّ فيلم (قلب الأسد) لا يسير على منهاج الفيلمين الأولين، بل نستطيع أن نقول أنَّه يناقضهما. ففيلم (قلب الأسد) يُعلي بشكل كبير من قيم الطبقة الوسطى، خاصة أننا نعرف منذ البداية أن فارس (بطل الفيلم) ينتمي إلى الطبقة الوسطى لا الطبقة الدنيا، وأنَّ شخصًا من الطبقة الدنيا قد اختطفه في بداية الفيلم ليربيه في كنف الطبقة الدنيا الشعبية. ومن ناحية أخرى فالفيلم ينتهي نهاية سعيدة حيث إنَّ فارس الذي ساعد في بيع المخدرات لم يلقَ جزاءه عبر السجن كما في فيلم (عبده موته)، أو العقاب النفسي كما في فيلم (الألماني)، ولكنه يحصل على مكافأة كبيرة من الشرطة بعد أن ساعدها في الإمساك بعصابتين لبيع الأسلحة وضابط فاسد (فوق البيعة).

لن أتناول هنا فنيات الأفلام الثلاث لأنها جد سيئة إلى حد كبير. ولكني سأحاول تناول الأفكار التي تحتويها وتعرضها هذه الأفلام. فتفاصيل هذه الأفلام تشتعل بصراعات داخل الطبقة الواحدة وصراعات عبر الطبقات، وهذا على خلاف المعتاد في أفلامنا المصرية التي حصرت الصراع في الصراع بين الخير والشر؛ لتجعله إكليشيه يطغى حتى على أفلامنا الحديثة. ففي الأفلام الثلاثة التي نتناولها هنا، لا يوجد بطل طيب وآخر شرير؛ فالبطل والبطل الضد كلاهما يغوصان في الشر بالمعنى المعتاد في أفلامنا؛ ولذلك علينا أن نطرح رؤية مختلفة لتخرجنا من فكرة أن ثلاثية أفلام محمد رمضان تحث على البلطجة وارتكاب الجرائم.

إنَّ كلًّا من البطل والبطل الضد في الأفلام الثلاثة يعتبران -وفقًا لقيم الطبقة الوسطى- أشرارًا، لكن عبده موته (بطل الفيلم الذي يحمل اسمه) -كمثال- يعتبر بقيم الطبقة الشعبية بطلًا نابعًا من فكرها؛ فهو شخص له طموح ويسعى للرزق “جوّاه حتة بيضه” رغم ما يبدو عليه من بلطجة وشر بالظاهر مثلما يقول (عم راضي/صبري عبد الواحد)، بينما نرى عبده من زاوية منخفضة بين مئذنتي مسجد بخلفية الكادر. هو يريد أن ينتقل من الطبقة الفقيرة إلى الطبقة الغنية بأخلاق وقيم الطبقة الشعبية عبر (ولن أستخدم هنا أفعالًا أو أوصافًا توحي بالشَّين) عمل  العديد من الأفعال التي تعتبر لا أخلاقية -أو بالأحرى جرائم- بالنسبة للطبقة الوسطى؛ مثل السرقة بالإكراه والبلطجة وبيع المخدرات والزنا.. إلخ.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ففيلم (عبده موته) يحتفي بالتفكير العقلاني عبر الاحتفاء بذكاء البطل وأيضا يحتفي بالتفكير الخرافي، حيث نجد أنَّ أخاأنغام (العبيط) هو الذي فضح سر خيانة الأصدقاء لعبده، حيث يقول عبده بإحدى المشاهد: “خذوا الحكمة من أفواه المجانين”، وأيضا نرى ذلك في محاولة تاجر المخدرات (مختار العو/سيد رجب) الهزأ بـ(ربيعة/دينا) قبل أن يحرقها وهو يرش عليها البنزين، فيتحدث معها وكأنه شخص صالح عن الجنة والنار، وأنها ستدخل النار إذا لم تخبره بمكان عبده، فتسأله: “إنت مين إنت عشان تتكلم عن الجنة والنار؟” إلا أن المعلم واستنادًا إلى نظرية المعرفة عند أبو حامد الغزالي التي تنفي السببية، يرد عليها قائلًا وهو يرمي بعود ثقاب على البنزين الذي صبه عليها: “آدي الله وآدي حكمته، وربنا بقى بيسبب الأسباب”.

أما فيلم (الألماني) فهو في الأساس إجابة على الجدل واللغط الذي انتشر بشدة بعد عرض فيلم عبده موته عن هذه الطبقة التي تميل إلى البلطجة والقتل والسرقة. فنجد أم الألماني (شادية/عايدة رياض) تسأل المذيعة: “محدش سأل فيكوا الألماني بقي ألماني ليه؟”؛ أي كيف تحوّل من طفل “في حاله” ماهر بصنعته كالألمان إلى طفل شقي بلطجي. بعد طرح هذا السؤال تحكي شادية قصة ابنها، فيميل تكنيك سرد الفيلم كثيرًا إلى الفلاش باك، وهو تكنيك لم يستخدم في (عبده موته) وسيستخدم في فيلم (قلب الأسد) بحرفية تشويقية أكثر لفك لغز الفيلم بنهايته.

فيحكي لنا الفيلم لماذا قتل الألماني هذا الفتي الذي ينتمي إلى الطبقة الوسطى ليسرق منه جنيهين فقط وجاكت وتليفون محمول. وكيف خسر حريته وحبيبته؛ التي تمثل له الخلاص من الحياة الشقية التي يعيشها، أو بالأحرى تمثل له الفرجة التي يريد أن يتعلق بها ليخرج من هذه المنطقة العشوائية التي تضغط عليه وتتشبث به فتجعله يغوص أكثر فأكثر بالوحل.

نستطيع أن نقول أن الخاسرين الوحيدين في فيلم (الألماني) هما الألماني نفسه و(أبو حبيبة/أحمد بدير) حينما ذبحت ابنته (حبيبة/مروة الأزلي). فالألماني لن يحاول أن يكون شخصًا “نضيف” بعد أن مات الشخص الوحيد الذي كان يثنيه عن البلطجة. أما أبو حبيبه فلقد فقد ابنته الوحيدة، والتي حاول طوال عمرها أن يبعدها عن ما حولها من بلطجة، متطلعًا إلى ترك هذه المنطقة العشوائية والانتقال إلى منطقة أكثر رقيًّا يسكنها أناس من الطبقة الوسطى.

ومثلما يسلِّط فيلم (الألماني) الضوء على بلطجة الألماني ورفقائه، يسلط الضوء أيضًا على مستغلي أزمة ما بعد الثورة. فهو يبين من يستغلون الفراغ الأمني والرقابي الذى تلا ثورة يناير 2011. فيشير إلى شخصية محام (حاول الممثل بقدر إمكانياته المحدودة أن يقلد شخصية سوسو اليهودي بمسلسل رأفت الهجان) يخبر الألماني عن “مصلحتين” غير قانونيتين ولكنهما تستغلا الموقف؛ وهما الحصول على أنابيب غاز للطعام من المستودعات بشكل غير قانوني وبيعها بشكل خاص بأضعاف أضعاف سعرها الرسمي، مستغلين بذلك أزمة الأنابيب التي أصابت مصر بعد الثورة، وأيضًا الحصول على شحنة موتوسيكلات صينية وبيعها بالقسط لشباب يعملون عليها كسائقين مستغلين بذلك أزمة البطالة.

إنَّ الصداقة تعتبر من أهم القيم التي تقدسها الطبقة الشعبية؛ ولذلك نجد أن خيانة الأصدقاء هي الفكرة الأساسية التي تتكرر في ثلاثية (محمد رمضان)، وتعطي للأفلام نسقًا وحبكة، وهي فكرة تسيطر على العقل الجمعي لهذه الطبقة. يتمثل ذلك في قول (عبده موته) ليبين استحالة وجود صديق وفي: “لو قابلت غراب أبيض يبقى تقابل صاحب جدع”. فنجد أنَّ خيانة الأصدقاء في فيلم (عبده موته) هي التي أودت بالبطل إلى السجن، ثم تسببت في الحمل غير الشرعي لأخته (علية/رحاب الجمل) وزواج حبيبته (أنغام) وحرق عشيقته (ربيعة)، (وأنغام/حورية فرغلي، وربيعة/دينا تمثلان ثنائية تقترب كثيرًا من ثنائية كريمة/شادية، وإلهام/سعاد حسني في فيلم/رواية الطريق) وتتسبب كذلك في إعدامه بنهاية المطاف. وخيانة الأصدقاء في فيلم (الألماني) هي التي تؤدي إلى ذبح حبيبة البطل التي تمثل له مثال ونموذج النقاء والدافع الذي من أجله يريد أن يتخلص من وحل البلطجة. وخيانة الأصدقاء في فيلم (قلب الأسد) -التي نعرف أنها مجرد تمثيلية بنهاية الفيلم- هي التي دفعت بتاجر السلاح الكبير/عضو مجلس الشعب (سليم الوزان/حسن حسني) أن يكتشف أن (فارس) لم يقتل الشرطي مثلما أمر، فيخطف حبيبة فارس (رقية/ريهام أيمن).

تُعلي الثلاثية من قيم الطبقة الشعبية، وتنحي غالبية قيم الطبقة الوسطى التي سيطرت على البنية الفكرية والاجتماعية للسينما منذ بدايتها حتى الآن. وعلينا أن نفرّق بين الفعل الأخلاقي وبين الحكم الأخلاقي. فالحكم الأخلاقي على أفعال الشخصيات الدرامية تتحكم فيه الصيرورة، حيث يختلف باختلاف الشخص الذي يحكم، فلكل شخص أفكاره ودوافعه وغاياته التي تجعله يصدر أحكامًا مغايرة تمامًا للآخر، وهو ما ينطبق أيضًا على الطبقات الاجتماعية.

فبداية من أفلام (توجو مزراحي) حتى أفلام (شريف عرفة) تسيطر قيم الطبقة الوسطى على بنية أفلامنا المصرية، ونتيجة لذلك لم يسأل صُنّاع الأفلام أنفسهم (وأغلبهم ينتموا إلى الطبقة الوسطى) ولم يتساءل النقاد: من هم المقصودون بالأعمال السينمائية؟ وقد يساعدنا على الإجابة على هذا السؤال الإجابة على عدة أسئلة أخرى؛ وهي: لماذا لا نريد الاعتراف بأنه توجد قيم سينمائية أخرى؟ لماذا لا نريد أن نعترف أنه توجد قيم أخرى في الحياة؟ بل لماذا لا نريد أن نعترف (والاعتراف بالتأكيد ليس خلاصًا من الذنب) أنه توجد طبقة أخرى لها الحق -كل الحق- في الوجود وأنها ليست مجرد زائدة دودية علينا استئصالها؟

والإجابة على هذه الأسئلة قد تجعلنا ندرك مشكلاتهم فنبدأ بحلها، خاصة وأن الأمر لم ينتشر بعد، فمعنى ذهاب عشرات الآلاف من أبناء هذه الطبقة إلى السينما لمشاهدة مثل هذه الأفلام معناه أنهم يريدون تفريغ هذه الطاقات عبر المشاهدة بدلًا من تفريغها عبر الفعل.

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم