محمد الفخراني
الخيط اللا مرئي اللطيف بين شخصين قد لا يعرف أحدهما بوجود الآخر، وكلًا منهما في مكان من العالم، هما حتى لا يعرفان أنهما يصنعان جمالًا وتوازنًا.
الأشياء والأشخاص والأماكن التي لا تتقابل أبدًا، وهي نفسها تصنع توازنًا في هذا العالم، هي حتى باختلافها الظاهري، أو تضادها الحقيقي، تصنع التوازن، وتكون في عمقها مُتآلِفة معًا، لأن أحدها لديه ما يَنْقُص الآخر ويتشوَّق إليه.
“ليلى وفرانز”، سأقول إنها رواية عن “التقابلات المتناغمة”.
في روايته الجديدة يُقَدِّم “محمد على ابراهيم” مجموعة من تقابلات متناغمة، بعضها يجتمع معًا في حياة مباشرة (ليلى وفرانز)، وبعضها لا يجتمع أبدًا، ويظلُّ كلٌ منهما في مكانه البعيد (الشيخ محمد وأولجا).
تتنوَّع هذه التقابلات داخل الرواية بين أشخاص وأفكار وأماكن، ونراها في الحوار بين الشخصيات ولُغَتِها الخاصة، وفي تقنيات كتابة الرواية نفسها.
أول ما نقرؤه داخل الرواية من تَقابُلات، هو علاقة كلٍ من الشيخ محمد حسن، وابنته ليلى، بالإله، الشيخ محمد لديه يقين كامل بالإله، في مُقابِل لا يقين “ليلى”.
في مشاهد قليلة، يقوم الكاتب بتقسيم الصفحة إلى قسمين طوليَّيْن بينهما خطّ، ونقرأ في كل قسم حَدَثًا مختلفًا، وهما يسيران معًا في توازٍ، وبشَكْل مُتقابل في صفحة الرواية، ويمكننا أن نتخيَّل حَرَكَتهما المُتقابِلَة في الواقع أيضًا، هنا التعبير عن التقابُل بتقنية فنيَّة لكتابة الرواية.
في الرواية مكانان رئيسيان، هما “أيسلندا”، أحد أكثر الأماكن برودة في العالم، و”قنا”- “دندرة”، أحد أكثر الأماكن دفئًا، تَقابُل بين مكانَيْن، كلٌ منهما لا يعرف الكثير عن الآخر، لكن الدفء والبرودة بينهما يصنع توازنًا وجمالاً، وتَشَوُّقًا.
صفحة 68: يقول الشيخ محمد حسن ﻠ “صفاء” ابنة أخيه: “صَلِّي ركعتين لرب السِرّ والعلن”، هنا تَقَابُل في اللغة الداخلية للحوار العادي (السِرّ والعلن).
صفحة 73: يتخيَّل “فرانز” أبيه “إيرل” وقد اصطاد سمكة تونة متوسطة الحجم، فيقول “فرانز”: “حدَّثْت خيالَه وقلتُ له إن أولجا صارت الآن كسمكة قرش عجوز، ليلى هي مَنْ تُشْبِه تلك السمكة الرشيقة”، “فرانز” يصنع مقابلة بين سمكة القرش العجوز/ أولجا، وسمكة التونة/ ليلى (نعرف فيما بعد أن فرانز كان مخطئًا، أولجا ليست سمكة قرش عجوز، إنما امرأة رشيقة في روحها وجسدها وأداءها الشخصي).
في مشهد يجمع “ليلى” و”فرانز”، نقرأ: “كان الجوّ باردًا بالنسبة إلى ليلى، فانكمش رأسها بين كتفيها، وفرانسوا كان يشعر بالدف.. يدٌ باردة ويدٌ دافئة كقُطْبَي مغناطيس سالب وموجب”. (اليد الدافئة واليد الباردة، وقُطْبَي المغناطيس).
رسائل الواتس المتبادلة بين “فرانز” و”ليلى”، و”فرانز” و”أولجا”، هي في شكلها على الورق، وعندما نتخيّلها في الأثير، نوع من التقابلات.
حالة “الشيخ محمد” و”أولجا” هي واحدة من التقابُلات المتناغمة جدًّا (سيأتى تفصيل لهذا).
“فرانز”، لديه حلم يتكرَّر يرى فيه بركانًا وطائرًا أسطوريًّا يُشْبِه النورس، و”ليلى” لديها حلم به أسفلت ساخن، وحدّأة.
قصة الحب بين “ليلى” و”فرانز” كانت تحت شَرْطَيْن متقابلَيْن، “ليلى” ترغب في غريب يأخذها بعيدًا، و”فرانز” يتمنّى امرأة لا تتنمَّر على أنفه الكبير.
الشيخ محمد حسن:
هذا الرجل الذي نعرفه أكثر من لُغَتِه، كلماته، أسلوبه الذي يميل إلى التلميح والإشارة، والطفو قليلًا على سطح الأرض، لكنه في الوقت نفسه حاضر وواضح.
أتوقف عند جملتين للرجل الشيخ:
الأولى: “خصيمك النبي إن لم أجدك بعد الممات يا الله”، تبدو الجملة لوهلة وكأن الشيخ محمد لديه شَكّ في وجود الله، أهو بَعْد كل هذا يَشُكّ؟ هذا لا يُتَصَوَّر من شخصية مثله، إذن، سأفكر أنه بجُمْلَتِه تلك يتمنّى من الله ألّا يرفض مقابَلَته.
يتمنى من الله أن يُقابِله هناك.
وما “يُلَمِّح ويُشير” إلى هذا التَمَنّي، ويؤكِّده، أن الشيخ يقول بعد سطور قليلة “لا تجعل الشيطان فَرِحًا بما سيصيبني إن لم أرك”، هو لم يقُل (إنْ لم تكن موجودًا) أو (إن اكتشفْتُ أنك لستَ موجودًا)، الرجل يتكلّم بلُغَتْه الخاصة.
“خصيمك النبي إن لم أجدك بعد الممات يا الله”، هي واحدة من الجُمَل الخاصة للشيخ محمد، تُعبِّر عن أريحية داخليَّة ويقين خاص له مع إلاهه، حتى أن القارئ ليَشْعر أن بها مزيجًا لطيفًا من عَشَم وتَدَلُّل ومحبَّة.
الجملة الثانية للشيخ: “هل أطعمْتِ الغريب؟”، قالها الرجل لابنته “ليلى”، والغريب المقصود هو “فرانز”.
يُتَوَقَّع من رجلٍ مثل الشيخ محمد، أن يكون على دِراية بما يفعله إطعام الغريب في الغريب، وكيف يؤثر هذا به، سواء أكان الغريب إنسانًا أو حيوانًا أو طائرًا أو وحشًا، فالشيخ فَضلًا عن أنه أراد لابنته أن تُطْعِم “فرانز” بصفته ضيفًا عابرًا غريبًا، فالرجل في الوقت نفسه ربما كان يضع خطة ليُزَوِّج ابنته، التي يعرف أنها ترغب في الرحيل بعيدًا، وتنتظر غريبًا يأخذها، والشيخ محمد لم يكن يمانع، ومن المُتَوَقَّع ألّا يكون لدى الشيخ ذلك التَعَلُّق الأناني الأبْلَه بابنته، حتى لو كانت وحيدته، تَعَلُّقه الحقيقي بإلاهه (هذا لا يتعارض وأن يتعلّق الشخص بابنته وأحبائه.. لكن التعلُّق الحُرّ الواعي) الشيخ محمد حتمًا يُدرك فكرة التحرُّر من أن نسْجن الآخرين فينا، وأن نسجن أنفسنا في الآخرين، حتى لو كانوا أبناءنا.. أو أيًّا كان.
الشيخ محمد أعطى لابنته مفتاح الباب، “هل أطعمْتِ الغريب؟”، الجملة هي المفتاح، رجلٌ يعرف أن الكلمات مفاتيح، ينفتح الباب بين “ليلى” و”فرانز”، والشيخ ليس مسئولًا عمّا ورائه، لكنه يعرف ما سيكون على الأرجح هناك، و”فرانز”، هذا الغريب غير المعتاد على أن يُطْعَم مجانًا، سيتأثر.
“ليلى” تُقدِّم ﻠ “فرانز” علبة بسكويت مملّح، هذا أقلّ من العادي في ثقافتها، لكنه أثار استغراب “فرانز”، فقالت له: “إن أبي قال لي أطعمي الغريب”، الشيخ سلَّمَهما المفتاح.
عن التفاصيل:
في روايته يهتمّ “محمد على ابراهيم” بتفاصيل وأجواء وبيئة المشهد الذي يكتبه، هو مرَّة يكون داخل المشهد، يكتبه من الداخل، ومرَّة يخرج منه ويراه من الخارج، حتى لا يفوته شيء يُفتَرَض أن يكون موجودًا.
مثل هذا، أن بعض الجُمَل والأفكار تُلَخِّص حال الشخصية وطبعها، في صفحة 102، يقول عن الشيخ محمد: “تمنّى والدها الخير، وتمنَّى لها الزواج-إن أرادت- وهو في قيد الحياة”، هو بجُملة (إن أرادت) يشير إلى الوعي والأريحية في شخصية الشيح محمد، هذا الرجل الذي لن يفزع، وليس مرعوبًا، من أن يموت قبل أن تتزوج ابنته الوحيدة، هذا لائق بشخصية مثل الشيخ محمد.
نقرأ في أحد المشاهد: “ضغطَ عباس على الزِرّ الخاص بمسّاحات الزجاج الأمامي لتُزيل قطرات المطر التي عَلَقَتْ بالزجاج”، و”عباس” هو سائق السيارة التي تتحرك ﺑ “فرانز” و”ليلى” وهي تُعَرِّفه على الآثار، هنا.. السماء تُمْطر خفيفًا، ولو أنَّ الكاتب لم يَذْكر أن “عباس” شَغَّل مساحات السيارة، لم يكن أحد، على الأرجح، ليتوقف عندها فنيًّا، لكنَّ الكاتب ينظر إلى المشهد من الخارج: هي تمطر، وهناك سيارة على الطريق، إذن لا بد للسائق أن يُشَغِّل المسّاحات الزجاج.
الكاتب يختار اللحظة المناسبة لتنتقل الشخصية من حال إلى حال، في صفحة 106، “فرانز” الذي لم يكن على علاقة ﺑ “أولجا”، وليست ضِمْن المُقَرَّبين له، هو يراسلها ويطلب منها أن تراسله على الواتس لأنه لا يستعمل الفيس بوك كثيرًا، ويرسل إليها رقمه الأيسلندي، يحدُث هذا عندما يمرض “فرانز” مرضًا خفيفًا، ويشاهد مبارة لكرة اليد الشائعة في بلده كي يشعر بالونس، هنا هو يتواصل مع “أولجا” للونس بها، فَعَل هذا في لحظةِ ضَعْف، لحظة مناسبة لتَحَوُّل ما.
في صفحة 219: “جابر” شقيق الشيخ محمد يتكلّم مع “فرانز” على “الڤيديو كول” ويقول: “أخي مات في شهر رمضان، فنال الرحمة الكاملة”، فيردّ “فرانز”: “نعم مستر جابر، شيخ محمد كان رجلًا رائعًا“، فرانز لم يَقُل (كان رجلًا طيبًّا)، وكأن الكاتب هنا، وفي جُمَلٍ أخرى، يُتَرْجِم ما يقوله “فرانز” في لغته الأصلية إلى ما يناسبه من اللغة العربية، يمكن تَخَيُّل “فرانز” وهو يَصْف الشيخ محمد بأنه “رائع”، لا أن يقول “طيِّب”.
في صفحة 222، “خالد الضوي” يقول ﻠ “فرانز”: “سأقوم في الغد بأداء عمرة عن الشيخ محمد”، فيردّ “فرانز”: “أتمنى في وقت لاحِق أن تشرح لي معنى جملتك”، يقصد “أداء عمرة”.
الكاتب هنا يفكر بعقل “فرانز” الذي لا بد أن يسأل، خاصةً أن “فرانز” بطبعه لديه فضول لطيف، وقبول لثقافة الغير، وحتى أن يُجَرِّبها بنفسه.
في صفحة 76: الكاتب يعطي إشارات لمرض “ليلى”، يقول: “ضرَبْت على صدرها فتألَّمْت”، بحيث لا يُفاجأ به القارئ، حتى ولو أن الكاتب صَرَّح به في أول صفحة بالرواية، فالقارئ سيجد هذه الإشارات قبل ظهور مرضها بشكل كامل.
أفكار ليلى:
في صفحة 43، نقرأ عن “ليلى”: “كم أنت رائع يا أبي، فقط لو تمنحني يقينك بالإله، لم أستطع أن أتكيَّف مع فكرة وجوده بعد رحيل حسن وعائشة في ليلة واحدة”.
في علاقتها بالإله، وعدم تكيُّفها مع فكرة وجوده، “ليلى” لا تَتبّنى فكرة أو رؤية ما، إنما وكأنها تُعاقِب الإله على رحيل أخوها وأمها في ليلة واحدة، موقف طفولي، يَظهر حتى في تَصرُّفاتها، مثل أن تَذْبَح دجاجتين لا “تُسمّي” على إحداهما، وتَعتبر هذا انتصارًا صغيرًا على مَنْ أخذ أمها أخيها في ليلة، وتقول إن أحدًا لم يَشْتَكِ من طعم الدجاجتين رغم أنها لم “تُسَمّ” عليها، وكأن التسمية أو عدمها تؤثر في الطَّعْم.
السؤال هنا: ماذا لو أن “عائشة” و”حسن” بقيا على قيد الحياة؟
في صفحة 79 نقرأ عن “ليلى”: “نظرَت إلى السماء، كانت تريد أن تقول لهم بأنه لو لم يكن هناك إله ما كانت الحروب، لم يكن ليموت أحد سوى على سريره أو بسب مرض عضال”.
هنا “ليلى” تُناقِض نفسها، فهي تتحدَّث عن إله، أم أنها تستحضِر وجود إله فقط لتُحَمِّله مسئولية الحرب والقتل، وهي أشياء يقترفها البشر ضد بعضهم بعضًا، ولهم كامل الحرية في إشعالها أو إنهائها، فلو أن الإله يتحمَّل هذه المسئولية، وليست الإرداة الحُرَّة للبشر، ما كان لأحد أن يُلامَ أو يُسأل عن كل هذا القتل الدائر حول الجميع.
عن الحب:
في صفحة 139، تقول “ليلى”: “قلتُ لفرانز إني كنت أتمنّى أن نعود سنتين ثم أكسر قدم حسن حتى لا يتمكن من الذهاب إلى سوق العبور بالقاهرة، قال لي بأنه لو حدث ذلك فربما لم نكن نتمكن من أن نتقابل وقتها، لم أعرف كيف أرُدُّ عليه”.
“ليلى” تقصد أن “حسن” لو لم يذهب إلى سوق العبور ما تَعَرَّضَ للحادث الذي أدَّى إلى موته.
والأسئلة هنا: ماذا تقصد بأنها “لم تعرف كيف تردُّ عليه -فرانز-“؟ هل لأنها لا تريد أن تصارحه بأنها ستُضحّي به، أم لأنها لا تعرف إنْ كانت ستختار بين حبها لأخيها “حسن” وحبها ﻠ “فرانز”؟ ثم، ماذا لو كان بإمكانها أن تفعل، ماذا ستختار؟ هل تخسر “فرانز” أم “حسن”؟ وماذا تتوقَّع هي من نفسها في هذا الموقف، وماذا يَتَوَقَّع كلٌ من “حسن” و”فرانز” منها؟ وكيف سينظر كلٌ منهما إليها، سواء مَنْ تختاره ليعيش أو يموت؟ هذه المواقف والأسئلة الاختيارية اللا اختيارية.
أولجا برايكوفيتش:
“أولجا” التي لها تجربة حسيَّة، وعلاقتها مقطوعة لسنوات مع ابنها “فرانز”، تتواصل معه بشكل مفاجئ وتطلب منه أن يتواصل معها.
لماذا؟ لأنها تقدَّمَت في السنّ؟ لأنها اكتشفَت تقصيرًا منها تجاهه؟ سأختار شيئًا آخر، هو أن هذا جزء في شخصيتها كان فقط يحتاج وقتًا وفرصة مناسبَيْن للظهور، أو لا يحتاج، فقط ظَهَرَ في هذه الوقت، ربما حتى لأجل “فرانز” نفسه و”ليلى”، ظَهَر في أقصى أوقات احتياجهما لشخص مثلها.
هو ليس تَحَوُّلًا في شخصيتها، ولا بسبب تَقَدُّمها في العمر، فهي ما تزال جميلة مثلما وصفها الكاتب، فقط.. هكذا تحدث الأشياء أحيانًا، هكذا هي الحياة.
أولجا والشيخ محمد:
وهناك خيط خفي وأصيل ومنطقي بين الشيخ “محمد” و”أولجا”:
-لكلٍ من الشيخ “محمد” و”أولجا” عالم خاص وحُرّ على طريقته، عالَم الشيخ يهتم أكثر بالروحانيات، وعالمها كان حِسيًّا لوقت طويل، كلٌ منهما يتحرك في مساحة خاصة من الحياة تبدو غامضة لغيره، وبها كثير من اللذَّة (لذَّة الشيخ محمد روحية، ولذَّة أولجا حسيَّة).
-من السَّهْل تَخَيُّل هذا الشيخ في جلبابه الأبيض وعِمامته، رجلًا أنيقًا ببساطة، بساطة تمنحه الأناقة، و”أولجا” هي امرأة أنيقة، لديها جسد أنيق مثلما وصَفَه الكاتب، وترتدي ملابس أنيقة مثلما وصفها في أحد المقاطع.
-كلٌ منهما فَقَدَ شريكه بالموت في مرحلة من حياته كان يحتاج وجوده فيها، الشيخ محمد فَقَدَ عائشة أبو الحمد محمود، أم ليلى، وأولجا فقَدَت إيرل رينيه، والد فرانز.
-كلٌ منهما لديه ابن واحد، الشيخ محمد لديه “ليلى”، فالإبن الأكبر “حسن” ميِّت وحاضر بذكرياتهم معه، و”أولجا” لديها وحيدها “فرانز”.
-لكلٍ منهما أسلوب للكلام يبدو في مقابلة مع أسلوب الآخر، لغة الشيخ محمد بها استعارة وتلميح وإشارة وطفو خفيف على الأرض، ويمكن تَخَيُّل أسلوب “أولجا” من شكل حياتها الحسّي، أسلوب الكلام المباشر.
-حياة الشيخ محمد التي بها لذَّة روحية، وحياة “أولجا” التي بها لذَّة حسيَّة، تُكمِلان بعضهما بعضًا، ما يَنْقُص الشيخ موجود لدى “أولجا”، وما يَنْقُص “أولجا” موجود لدى الشيخ، اختلافهما يَجمعهما ويُنَغَّمهما معًا، كأن كلًا منهما مرآة تعكس الآخر، مثل أن يقف شخص أمام المرآة فتكون يَمينه الحقيقية هي يساره في المرآة، ويساره هي يمينه، كذلك كلٌ منهما للآخَر.. الشيخ “محمد” و”أولجا”، روحانيته مُقابِل حِسّيتها، أسلوبه الذي يُشير ويُلَمّح مُقابِل أسلوبها المباشر، كل تفاصيلهما المتقابلة المتناغمة.
وهناك خيط يجمع الشيخ “محمد” و”أولجا” بشكل صريح ومباشر، هو “ليلى”، لأن “أولجا” سترعاها بحب وعناية وقت مرضها، كأن “أولجا” عند لحظة ما تتحوَّل إلى عائشة أبو الحمد.. أم ليلى.
برأيي لو أن الكاتب جمَعَهما في روايته، لوجَدَ نفسه يكتبهما قصة حب وزواج، ولو أنهما شخصيتان في حياة واقعية فأتوقَّع أن يَرْتِبكا لحظة المُقابَلَة، ويشعر كلٌ منهما بلَخْبَطَة داخلية خفيفة ولطيفة، بسبب هذا الخيط الخفي بينهما، بسبب هذا الاختلاف المتناغم بينهما، وصورة المرآة، ولن يَعْرفا في البداية لماذا وَقَعا معًا في الحب، وأتوقَّع أن الشيخ محمد هو مَنْ سيقع أولًا، لكن “أولجا” ستُعَوِّض على نفسها هذا التأخير بأن تبدأ بمُصارَحَتِه بشكل مباشر وسيكتفي هو بالإشارة والتلميح، على الأقل في البداية، وسيُعجبها أسلوبه.
هدية لأولجا:
“أولجا” التي كانت صادقة في مشاعرها نحو “فرانز” ابنها، تَستعيده ومعه ابنة إضافية كهدية هي “ليلى”، قامت “أولجا” برعايتها أثناء مرضها، وخاطَبَها “فرانز” أخيرًا بكلمة أمي، يقول في صفحة 241: “فارتميْتُ برأسي فوق صدر أمي”، أمه “أولجا”.
منزل الشيخ محمد من جديد:
تموت “ليلى”، ويعود “فرانز” إلى “دندرة” مؤقتًا، يقول: “أتيت لأجلس عِدَّة أيام في منزلي“، هو يعتبر منزل ليلى والشيخ محمد منزلًا له، وهذا صحيح: “قمتُ بارتداء جلبابًا أبيض ولفَفْتُ العمامة كما علَّمني خالد الضوّي، ناديتُ على صفاء فأشارت أن أباها لديه ضيوف وسيَحضر إلىّ بعد قليل، صفاء كان وجهها قلقًا للغاية، اتصلْتُ بالحاج جابر، وقلت له بلهجة صارمة: قُلْ لتاجر الفاكهة والخضروات بأننا لا نبيع سوى الموز والبامية والكوسة فقط“.
هنا “فرانز” يُرَدِّد الجملة نفسها التي قالها الشيخ محمد من قبل لجابر في الموقف نفسه، وعلى طريقة الشيخ نفسه في التلميح والإشارة، تَدُلُّ الجملة على استمرارية حضور الشيخ محمد حسن، ليس فقط داخل المنزل، إنما أيضًا داخل نفوس وعقول كل مَنْ تعاملوا معه، حتى لو كان “غريب” من آيسلندا.