ليلى عبد الله
استاء ملك البحار من هدية وصلت مجلسه منذ عدة أيام، محملة بلوحة مرسومة بمهارة لوجه أخيه الصغير أمير الجزر. عُرِف أخوه بجمال طلته وملامحه الوسيمة في أنحاء المملكة على نقيض ملك البحار الذي اتسم بالقبح وملامحه الدميمة.
فهم الملك أن أخاه يريد من إرسال اللوحة أن يخبره بالرسام الجديد بشكل غير مباشر؛ فالأمير الصغير يعرف أن الملك كلما جلب رساماً ليطبع هيئته انفعل بعد رؤيته لوجهة المرسوم وکسر اللوحة على رأس الفنان، وكثير منهم لم ينج إلا بعاهة.
اقترح أحد الوزراء عليه أن يجلب رسام أمير الجزر لعل ريشته الموهوبة التي أظهرت الأخير وسيماً تستطيع أن تفعل ذلك لوجهه؛ غير أن ملك بلاد البحار رفض الفكرة رفضاً قاطعاً ، فهو يعلم في داخله أن الرسام بارع جداً في نقل الملامح والتفاصيل، وهذا ما يخشاه.
كان يريد أن يخلد عبر التاريخ بلوحة تجسد الصرامة والذكاء في عينيه، والشموخ في أنفه، والطموح في جبينه دون أن تظهر ثآليل وجهه السوداء التي لا يدري من أي جد ورثها. يطمع أن تبقى بطولاته حية بخلود لوحته حتى تتغنى به الأجيال. الأفكار السوداء لطخت رأسه بهواجس تعيسة: “مهما حزت من انتصارات، فإن الناس عميان عن جوهري وجل تركيزهم على مظهري”.
ذاعت إشاعة مفادها أن القصر وضع مكافأة عظيمة لمن يستطيع رسم وجه الملك في لوحة ترضي الملك، حتى وصلت إلى أحد الرسامين المحتالين، صعلوك معروف ببراعته في تصوير اشكال غريبة لحيوانات ونباتات وأطفال ونساء باستخدام الفحم فقط؛ فهو لا يملك ثمن الألوان، ويبيعها للعابرين بأزهد الأثمان.
أراد هذا الصعلوك أن يحظى بحياة مرفهة لعدة أيام في القصر وأن يشبع معدته ببعض الطعام الفاخر، فعزم أن يذهب إلى القصر الملكي، وهناك جلس في قاعة مع الرسامين الآخرين ينتظر دوره، وخلال انتظاره تمتع الرسام بملذات الطعام لعدة أیام.
وحين طلبوه للقاء الملك: نفخ صدره بجسارة واعداً بنيرة واثقة بأن صورة الملك التي سيرسمها ستبقى راسخة في أذهان الناس مدى السنين.
اعتقد الملك لوهلة أن هذا الرجل الذي يدعي أنه رسام محترف يسخر منه حتى أنه كاد أن يأمر حراسه بقطع رأسه، غير أنه عزم أن يكظم غيظة وينتظر حتى ينتهي من عمله.
رفع الملك سبابته في وجه الصعلوك: إن نالت لوحتك إعجابي ستحظى بمكافأتي، وإن خيبت ظني؛ فإنك ستكون وليمة لقروشي الشرسة.
وافق الرسام المحتال على العرض، وطلب من الملك مهلة ثلاثة أيام كي ينهي اللوحة، تخللت هذه الأيام الثلاث موائد فاخرة ملأ خلالها الرسام معدته بما لذ وطاب.
سأله الملك: “هل تحتاج لأجلس قبالتك حتى تتفرس في ملامحي؟”. أجاب الرسام: “لقد حفظت ملامحكم الموقرة عن ظهر قلب”. قدموا له ألواناً وريشة فرفضها، وبدأ يمسح أصابعه بالفحم ويخطط على ورقة بيضاء عريضة حرص على حجبها عن الأنظار،
وفي اليوم الثالث، رفع الرسام المحتال الغطاء عن صورة الملك. حدق الجميع إلى اللوحة بغرابة، منتظرين رأي الملك الذي ظل بدوره يمعن في صورته دون أن ينطق شيئاً، ثم سرعان ما أطلق صوته صارخاً بصوت أرعب كل من في مجلسه: هل تسخر مني أيها الملعون، إنك هالك لا محالة.
غير أن الصعلوك فغر فمه عن ابتسامة فاجأت الموجودين، وكأنه كان موقناً من ردة فعل الملك، هدأه قائلاً والابتسامة تشق وجهه: “أيها الملك ، لقد تعمدت أن أرسمك رسمة تجريدية: لا تظهر التفاصيل لكنها تبرز ملامحك البطولية؛ فالملامح تتغير مع الزمن، لكن البطولات تبقى. ولا تنس يا مولاي أن الأبيض والأسود لونان لا يتأثران بمرور السنين”.
هدأت سورة الملك، متأملاً ذوبان الثآليل في سواد الفحم، لقد اقتنع بتفسير هذا الرسام، بل سيتاح له بهذه الطريقة أن يخلد في لوحة.
يبدو أن حكمة هذا الرسام الصعلوك بلغت أقاصي البلاد وما جاورها، حتى أن الناس وملوك البلدان الأخرى صاروا يستخدمون هذا الفن وعرفوه بالمدرسة الفحمية.لم يرسم المحتال بعد تلك اللوحة غيرها؛ وعاش متنعماً بمكافأة الملك.
قبل وفاة الملك كان قد شاع أنه أكثر ملوك التاريخ وسامة على سطح الأرض. أما المدرسة الفحمية في الفن فقد توقفت بعد أن عرضت بعض لوحاتها في ساحة عامة، ونزل خلال العرض مطر أسال سواد الفحم.