لمسة من عالم غريب

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 102
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

لشدَّ ما كان الحُلم مزعجًا. إذ استيقظ مجدي الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، غارقًا في عرق بارد، مبهوَّ النفس، ورعدة طاغية تزلزل جسده. أضاء أباجورةً صغيرةً موضوعة على كومود منخفض بجوار السرير، ثم أخذ عقله يهرف بشظايا الحُلم. كانت صور الحُلم المفتتة التي يحاول جاهدًا إدراجها في سياق معقول، فارغة، تافهة، ليس لها رابط. أدرك مجدي بتجربته المزمنة مع الأحلام، أنّ صور الحُلم الرئيسة المزعجة حقًّا، لن يستطيع إمساكها، فهي تقع تقريبًا في منتصف الحُلم، بعيدًا عن ذاكرته، أمّا الذي يتذكّره الآن، فهو عديم القيمة، لأنّه يأتي من نهاية الحُلم، قبل يقظته بثوانٍ معدودة. وتلك النهاية أيضًا تتشظّى وتنأى عنه، حتّى لكأنّها تتراجع في الزمن، وتندمج نهائيًّا مع منتصف الحُلم كامل الغموض والإبهام، وهي تشبه في تراجعها صدى الصوت عندما يلتبس على الأذن لحظةً قصيرة في مكان فسيح، بين الاقتراب والابتعاد، ثم نكتشف خداعه في النأي والبُعد. حدّث مجدي نفسَه، قد يحدث شيء في المستقبل يذكّره بصور الحُلم المزعجة، شيء يتعارض ويتقاطع معها بطريق المصادفة، وقد تكون المصادفة مثالية، بحيث يصبح الشيء الذي يُذكر هو عينه المراد تذكّره. ألقى مجدي نظرة على زوجته نوال. كانت نائمة نومًا عميقًا، وهناك غطيط مرهف ينبعث من أنفها هادئًا ناعمًا، يُسمع فقط بشحذ الأذن. صوت تنفّس بطيء منتظم يضرب بطول وعمق وموسيقيّة إلى نهاية بعيدة سديمية.

وقفتْ نظرتُه على شفتَيها المنفرجتين اللحيمتين، وعلى بقعة اللعاب الطفولية أسفل الشفتين. حدس مجدي أن هذه البقعة الخفيفة تظل نديّةً دافئةً حتّى الصباح. كأن الشفَتَين أمُّ حنون تقوم بتغذية البقعة الخفيفة كلّ فترة زمنية بما يحفظ لها وجودًا رقيقًا. أراد مجدي أن ينسحق وجوده كلّه؛ ليصير هو والبقعة شيئًا واحدًا، وبذلك يكون تحت رحمة تينك الشفتينِ، تحت نيرهما، تحت طغيانهما. يتلقّى الغذاء منهما بعجز وضعف، ويعرف الزمن الخفي الذي يصير فيه وجوده على الحافّة بين التلاشي والبقاء. سيظلّ هذا الوجود مهدّدًا بالزوال أثناء الليل، وفي الصباح يندثر تمامًا، يصبح عدمًا، وفي الليل تمنحه الشفتان، مرّة أخرى، الوجود الرقيق. فتحت نوال عينيها فجأةً، فوقعت دفعة واحدة على عيني مجدي الذي أصابه رعب من تذكّره أنّه كان في منتصف الحُلم يقتل زوجته. كانت الحدَقَتان تسبحان في مادة العينين البيضاء، وهو يضغط بيديه على رقبتها. حدقة العين صغيرة ضئيلة بالقياس إلى مادّة العين البيضاء التي أخذت في الاتساع والاعتكار. مساحة المادّة البيضاء فوق الحدقة وتحتها كبيرة، والحدقة ما لبثت تتصاغر وتتضاءل وتتمرّكز في وسط المادة البيضاء مع رجفة كهربائية مهتزّة متوترة، كأنّ هناك قوةَ جذب مغناطيسية تجتذب الحدقة من كلّ نقطة على محيط العين التي تحولّت من أثر الرعب والألم إلى كرة دائرية جاحظة مشوّهة، تزداد في بروزها كلّما غارت اليدان وأوغلت في العنق الرقيق. ومع جحوظ العينينِ وتمركز الحدقتين وتصاغرهما وشسوع المادة البيضاء واعتكارها، كانت ملامح وجهها تتجعّد وتتصعّر كمريضٍ بنوبةِ صرع، وكان فمُها مفتوحًا على سعته بصرخة صامتة خرساء، وكانت الصرخة البكماء تتنفّس فقط عندما تتنفّس اليدان العصبيّتان المتشنِّجتان باستماتة وفزع على الرقبة، لتعودا مرّة أخرى بقوّة أشدَّ وضغط أكثر إحكامًا، فتنطلق الصرخة، ثم تنحبس، ثم تنطلق، تراجع مجدي إلى الوراء، فسقط من فوق السرير، واصطدمت كتفُه بشابوه الأباجورة، فسقطت هي الأخرى من فوق الكومود، واحترقت لمبتها بصوتِ فرقعةٍ مكتومة، وبضوء خاطف يشبه ضوء الفلاش الفوتوغرافى. ساد الظلام لحظات.

نادت نوال زوجها وهي تضيء أباجورة، توءم التي سقطت. هبطت من فوق السرير إلى مجدي الذي أخذ في البكاء. كانت كتفاه تهتزّان وهو يداري وجهه بيَدَيه. أدخلت نوال رأس مجدي في صدرها الدافئ، فأصبح نشيجُه مكتومًا، يهزّ جسدها. أحسّت نوال بلذّة الاهتزاز الإيقاعيّة، وكأنّه الاهتزاز الإيقاعيّ لفعل الحبّ. بالغت في ضمّ رأسه إلى صدرها على أملٍ خجولٍ في أن يتحوّل المشهد إلى فعل الحبّ. كان هبوطها من فوق السرير بشكل سريع مرتجل على أعلى ساقَيه، قد سمح لها بأن تكون رأسه منخفضة دون مستوى رأسها، عند منتصف صدرها، وسمح هذا الوضع أيضًا بأن تحتضن رأسه كاملة بذراعيها دون الكتفين والجذع.

كانت كلمات الحُلم تخرج من فمه، ردًّا على سؤالها، مشوّهة مبتورة من أثر شهقات البكاء اللا إرادية، ومن أثر التصاق فمه بصدرها. باعدت نوال رأسه عن صدرها، لتفهم كلماته المضطربة المحمومة، ثم ضمّت الرأس مرّة أخرى بقوّة أشدَّ، وارتكنت بذقنها على قمّتها، بعد أن فهمت حُلمه المزعج، وضاع الأمل الخجول في فعل الحبّ من رأسها. لم تكن تعرف ماذا تقول له. كانت كلماته تنزلق على وعيها، كأنّها تنزلق على زجاج أملسَ. حاولت مؤقتًا أن تحسّ شفتيه وأسنانه ولعابه وأنفه وهي تتمعج جميعًا في سيمفونيّة وحشيّة على صدرها العاري.

كانت عيناه محمرَّتين متورّمتين وهي تأخذ يده إلى السرير في المكان الذي كانت تنام فيه. وضعت عليه الغطاء، ورفعت له الوسادة، وأعادت الأباجورة على الكومود، ثم أدفأت له كأسًا من الكونياك، وذلك بأن أمالت الكونياك إلى حافّة الكأس، وجعلته يلتقط لهبًا. ولاعة، وبحرص وبطء رجعت بالكأس فتراقصت دائرة لهب زرقاء باهتة شفّافة في منتصف الكأس. حافظت نوال على دائرة اللّهب في منتصف الكأس إذ إنّ ذهاب الدائرة إلى محيط الكأس الزجاجي، يفضي إلى موتها. دائرة لهب رقيقة هشّة تبدو منفصلة متصلة في آنٍ بسطح الكونياك. وبرغم رقّتها وهشاشتها وزرقتها الشفيفة الرومانسية، إلّا أنّها تراود نفسها بجسارة بحّار مغامر في الوصول إلى محيط الكأس الزجاجي. كيف تأتلف الجسارة مع الرقّة؟ يبدو أنّ الحساسية الدفينة في أصابع نوال هي التي حافظت على هذا الائتلاف الحرج أطول زمنٍ ممكن.

أشارت نوال بعد قليل إلى مجدي كي يطفئ ضوء الأباجورة التوءم التي كانت بجواره. أحسّت بشيء صُلب بينهما كان صوت تنفُّس مجدي ثقيلًا على أذنيها، تحت وسادتها التي كانت وسادته قبل الحُلم المزعج، أي قبل الثالثة صباحًا، والآنَ تقترب الساعة من الرابعة صباحًا. تعرّفت في الظلام بديهيًّا على مِقبض سكين خشبيّ تحت الوسادة، شحذ الخوف على الفور حاسّة اللّمس في الأصابع الرقيقة المسحوبة برشاقة عازف بيانو يحدس بصوت الموسيقى ويتوقّعه ويستأنسه في أذنَيه قبل أن تلمس أصابعه أصابع البيانو بجزءٍ يتناهي إلى ما لا نهاية من الثانية. كادت نوال أن ترى بحاسّة لمس لدي مكفوف منذ الولادة، تدرّب على أن يرى بيديه دون أن تكون عنده ذكرى الرؤية ذاتها، أكثر من أربعين سنة، البريق اللامع وهو يجري على شفرة النصل الحادّة استجابةً لمصدر الضوء المتوهّم وحركة أصابعها التي تحمل السكين بين سبّابتيها وتدير ببقيّة الأصابع السكين على محورها، فينقطع البريق اللامع عن شفرة السكين، كما كانت صرختها في الحُلم المزعج تنقطع تحت ضغط اليدين العصبيّتين، ثم يعود أمام عينيها المحدّقتين في الظلام الكامل. إذن لم يكن الأمر أمر حُلمٍ مزعج، ولم تكن اليدان أداة القتل.

ماذا لو أضاء مجدي فجأة ضوء الأباجورة التوءم ووجدها تحدّق في نصل السكين؟ أكان يعلم أنّه يخبئ أداة القتل الحقيقية تحت وسادته؟ أمجنونٌ هو؟ فقَدَ عقله هكذا دون مبررات، دون إنذار. تذكّرت نوال ببريق خاطف يشبه البريق الذي كان له أن يجري على شفرة السكين لو كان هناك ضوء، كلمات مجدي عن الجنون، أدقّ ما في الجنون هو خلل مضطرب لا معقول يقع وسط سيل جارف من تصرُّفات طبيعية شديدة المعقوليّة، حتّى كأنّها لفرط معقوليّتها وإحكامها وشيوعها، تبرز الخلل المضطرب وراءها وتثبته في عيون الآخرين. هذا الخلل المضطرب المرهف هو المناجاة السرية الحميمة التي يمارسها المجنون مع ذاته أمام الآخرين ووسط تيار المعقوليّة، لكنّ أحد الأذكياء يتبرع ويضيء هذا الخلل بجلافة وغلظة، فيتنبه المجنون إلى أنّ خلَله الحميم السرّيّ صار معلنًا. هنا يؤذي المجنون مَن حوله، وعلى وجه الخصوص الذكي الذي أضاء الخلل. في الثامنة صباحًا استيقظ مجدي، ولم يجد نوال إلى جواره.

بحث عنها في أنحاء الشقة، بحث عن أشياءَ تتعلّق بها، ملابس، أدوات ماكياج، صور فوتوغرافية، أجندة تليفونات، حقائب يد، أقارب من الدرجة الأولى، من الدرجة الثانية، أصدقاء، معارف، هدايا منه إليها، منها إليه، ملاطفات، مشاجرات، جرت في الماضي البعيد، أو القريب، فلم يجد شيئًا. عزا مجدي كلّ ما حدث ليلة أمس إلى حُلم داخل حُلم. حُلم مركّب مشئومٌ يسخر من وحدته. لكنّه هذه المرّة تذكّر الحُلم كاملًا، مع الاحتفاظ بمكانة الدهشة والغرابة كما هي عادته، لمنتصف الحُلم. كانت البداية مع بقعة لعاب رقيقة على وسادة، والنهاية مع شفرة سكين لامعة.. أمّا منتصف الحُلم الذي يحظى الآن باهتمامِ مجدي، فكان مع احتراق لمبة أباجورة وحيدة بجوار السرير.

الآن في التاسعة صباحًا يسمع ثانية ذكرى صوت الفرقعة المكتومة الناتجة عن احتراق لمبة الأباجورة الوحيدة، كأغرب صوت سمعه في حياته، صوتٍ من عالَم آخرَ، عالمٍ غريب يترك للحالم دليلًا على أنّه كان هناك، ثم يستيقظ الحالم والدليل في يده. منذ شهرين، وفي ظهيرة شتوية، ذهب مجدي إلى محلّ لبيع الخردوات والأنتيكات القديمة، وقطع الأثاث المنتقاة من مزادات. يقع المحلّ في وسط شارع هادئ خالٍ من المارّة، له واجهة زجاجية ضيّقة، وباب صغير بمقبضٍ نحاسيّ مشغول.

المحلّ من الداخل عميق ومزدحم بمناضد خشبية منتفخة البطون ذات حليّات نحاسيّة عند ثقوب الأدراج وعند نهايات الأرجل المعقوفة مثل سمَّانات أرجل نساء عَضلة وغليظة. تحمل المناضد وخزانات الملابس والبارات، رخامات سوداء، ووردية مشرجة بعروق بيضاء، وتحمل هذه الأخيرة شمعدانات فضية وبرونزية وأباجورات بشابوهات مختلفة الأشكال، منها المخروطي والمربع والأسطواني. والسقف تتدلّي منه ثُريّات كريستالية ثمينة، وكلّها غير مضاءة، جاثمة بجسومها الثقيلة على هواء المحلّ، إلى الحدّ الذي معه يبدو المحلّ من الخارج في عين مُضنٍ يراه عرضيًا أثناء سيره، مسطحًا، غير ذي عمق. وهناك إلى جوار الحوائط مرآيا بيضاوية ومستطيلة في إطارات مذهّبة، ولوحات تصوير زيتيّ، على طريقة المستشرقين كثيرة التفاصيل، وعلب سيجار صدفية وفازات وغلايين، وقدّاحات صالونات ذات قواعد كرسيتالية بيضاء وصفراء وزرقاء وثقّالات أوراق من الكريستال المصبوب وأدوات مكتبية كلاسيكية مغلّفة إلى منتصفها بجلد ثعابين وتماسيح.

لا يوجد شيء محدّد في ذهن مجدي يريد شراءه. إنّه يترك المصادفة تقوده، وبما أنّه وجد نفسه قريبًا من محلّ العجوز كامل الذي يوجد دائمًا عنده الجيّد والثمين، لا أقصد بالجديد الجديد في صناعته، بل الجديد من حيث عثور العجوز عليه في مزادات نادرة. وهذه عبارة كامل المفضلة لزبائنه، الجديد والثمين في آنٍ. كأنّه لا يريد كلمة القديم مع كلمة الثمين، ويري شيئًا بديهيًّا أن يكون القديم ثمينًا له، لا سيّما عندما يدعم قطعة الأثاث أو الثريّا أو اللوحة بحكايات قديمة تتعلّق بأصحابها القدامي دون أن يتلفّظ الكلمة المشئومة، وإن كان يدلّ عليها في كلّ كلمة من كلماته.

كان في أحيانٍ قليلة تقف الكلمة على لسانه وترفض أن تُستبدل بمرادفات أخرى، فيتعثّر كامل للحظات ويبعد وجهه عن وجه مُحدِّثه باحثًا بغضب عن بديل. وفي معظم الأحيان تتدفّق على لسانه المرادفات وتتراقص الكلمات حول كلمته الملعونة وكأنّها تبرزها أكثر ممّا تخفيها، حتى إنّ المرء ليتخيّل أنها ستنبجس في الهواء من تلقاء ذاتها. والغريب أنّ كامل العجوز كان يستمتع بأن ينطقها أحد الزبائن أمامه فيتبسم بارتياح، وكأنّه فاز في معركة.

دخل مجدي المحلّ واتّكأ بأصابعه على حافّة رخامة ورديّة، فسرعان ما انطبعت أصابعه على حافّة الرخامة، وتكثّف حول بصماتِ الأصابع بخار ماء رقيق. سرت البرودة الصافية في أصابع مجدي، وأحسّ بانتعاشٍ ووحشة لكوْن الرخام يحمل دائمًا البرودة الأرستقراطية نفسها التي يحملها صاحب المكان الجالس في عمق المحلّ، لا يرى الداخل إلا في منتصف المسافة بين الباب الضيق والمكتب الفخم الذي يجلس إليه محاطًا ببضاعته الثمينة.

كان مصدر الإضاءة ينبعث من ثلاثِ أباجورات أو أربعٍ متفرّقة، واحدة منها على مكتبه. وكانت العتمة الناعمة المظلّلة بالإضاءة المتفرّقة، تشيع في أركان المحلّ وفي الزوايا الرطبة المجهولة. لا يظهر من عند المكتب الشبيه بدشمة حربية راسخة في نهاية المحلّ إلّا قطعة من زجاج الباب الخارجي، تحتجز ضوء النهار التافه الداعي للرثاء من قاعدة المكتب الحربية الحصينة.

أثارت إعجاب مجدي، بعد السلام والسؤال التقليدي عن الصّحة والغيبة الطويلة ومسار العمل وقطع تيار عزوبية مجدي ذي الخامسة والأربعين عامًا، أباجورة سرير ذات قاعدة من خشب الموجنة وشابوه أسطواني بلون روز. أشار كامل ناحية ركن مظلم إلى شقيقتها التوءم عندما أدرك نيّة مجدي في الشراء. كان العجوز أبعد ما يكون عن انتهاز فرصة البيع، أي بيع أباجورتين بدلًا من واحدة، بل كان يرى تشابه الأباجورتين وتماثلهما شيئًا خارقًا على بضاعة محلّه الثمينة التي تمثّل كلّ قطعة منها فرادة أبديّة ليس لها نظير. كلّ قطعة تمثّل بصمة صانع نادرة، عصيّة على التكرار أو التقليد في وجه الجميع، وأولهم الصانع ذاته الذي تقف أمامه قطعته الفنية الفريدة بعد إنجازها، موقف العداء والتنكّر الجاحد وتحدّي إعادة نسخها.

لهذا كانت الأباجورتان التوءمان نغمة نشازٍ تجسد التكرار والنسخ، فأراد كامل أن يتخلّص منهما دفعة واحدة، لاعتقاده أن الواحدة دون الأخرى تفقد قيمتها الجمالية، وهذا هو المهمّ، ثم تفقد بالتبعة قيمتها الشرائية، فلم يكن العجوز يستطيع تخيُّل أن هناك زبونًا آخرَ ستغريه الواحدة دون شقيقتها من الناحية الجمالية أو الشرائية، طالما أنّ العجوز ستحتم عليه نزاهته المهنية أن يقول للزبون الثاني، على افتراض أنّ الزبون الثاني يثق ثقة عمياء في فرادة الأشياء الثمينة التي يملكها كامل، إنّ هناك آخرَ يملك نسخة منها.

تعلّل مجدي بامتلاكه سريرًا ضيّقًا وكومودًا واحدًا، وبارتفاع ثمن الأباجورتين معًا. فكانت كلماته مناسبة جيّدة، ليعود كامل إلى لياقاته الاجتماعية المفضّلة، لا سيّما وهذه اللياقات تبدو طبيعية أبويّة من كامل بسنواته السبعين التي يحملها على كاهله، فيقول إنه آن الوقت كي تمتلك سريرًا عريضًا للزوجية، له جناحان متباعدان، على كلّ واحد منهما يجثم كومود منخفض أنيق، عليه أباجورة بلون روز تهدّد أحلام الزوجين السعيدة، بدلًا من سرير العزوبية الضيّق الكئيب الملتصق بالحائط بشكل محزن.

بعد أسبوع من تاريخ شراء مجدي للأباجورة، اشترت أرملة جميلة، وهي نوال عزمى، الأباجورة الأخرى من كامل العجوز. يجب أن نذكر شيئًا غامضًا حدث في اليوم الذي ذهبت فيه نوال عزمي إلى محل كامل، وهو ذهابها في الساعة الثالثة، وهي الساعة نفسها التي استيقظ فيها مجدي بعد ذلك في منتصف الحُلم المزعج، أو بمعني أدقّ تهيّأ له أنّه استيقظ في الثالثة صباحًا. الفارق الوحيد الذي قد يعوّل عليه، لكنّه لا يزال فاقدًا دلالته، وهو أنّ زيارة نوال عزمي إلى محلّ كامل كانت في الثالثة عصرًا، بينما حُلم مجدي المزعج كان في الثالثة صباحًا. الفارق الزمني بين الساعتين اثنتا عشرة ساعة. كأنّ نوال عزمي جاءت إلى المحلّ في منتصف اليوم بسبب لا شعورى، مثلما حلم مجدي أنه استيقظ في منتصف الحُلم، كذلك تراقصت دائرة لهب زرقاء شفّافة في منتصف كأس الكونياك الذي أعدّته نوال في الحُلم لمجدى، وأخيرًا منتصف المسافة من باب محلّ كامل إلى قعر المحلّ الذي يوجد فيه مكتبه الدشمة، وهي المسافة التي يبدأ فيها كامل في التعرّف على الزائر.

بعد ثلاثة أسابيع من تاريخ زيارة الأرملة لكامل، زار الأعزب محلّ الأنتيكات. حدّثه كامل بفرحة عن بيع الأباجورة الشقيقة. سأل مجدي باهتمام: مَن اشتراها؟

قال كامل: إنها زبونة يعرفها منذ زمن، وكان يعرف أيضًا زوجها الذي انتحر منذ سنوات قليلة إثر اشتراك زوجته في حفلة جنس جماعيّة في صحراء سيناء.

فتح كامل درج مكتبه، وأخرج منه صورتينِ فوتوغرافيتينِ من القطع المتوسط. كانت الصورتان في المكان نفسه، مع تغيّر طفيف في زاوية الكاميرا وحركة الأشخاص، منضدة عليها مفرش بسيط من الكاروهات الحمراء على أرضية بيضاء. في وسط المنضدة يوجد ملّاحتان زجاجيتان برأسين معدنيتين لامعتين، وأباجورة صغيرة. تجلس إلى المنضدة في الصورتين الفوتوغرافيتين اللتين أُخِذتا في ديسمبر 1977، نوال عزمى. هذا المطعم نفسه، والمنضدة نفسها سيجمعان بيني وبين عاطف الضمراني بعد عشر سنوات، في فبراير 1987، أي قبل حصولي على الصورتين الفوتوغرافيتين بسبع سنواتٍ، في مايو 1994، وهي السنة التي انتحر فيها عاطف الضمراني.

بدت لمجدي هذه التواريخ والملابسات المفتعلة، التحقيق المُبهَم لقول بودلير، وهو تحقيق مؤلم يتعلّق بالزمن «يلوح لي أنني سأظلّ على الدوام سعيدًا في المكان الذي لست موجودًا فيه، أو إذا شئنا المزيد من الدقّة، حيث لا أوجد أعثر على ذاتي» إلا أنّ بودلير يبدو منطقيًّا في تعبيره عن الزمن الذي يرهبه ويجلّه في وقت واحد، بكلمات لا تستخدم كلمة الزمن، بل تستخدم كلمة المكان الذي لم ينل منه فيلسوف بتعبير أدبي انفعالي، مثل برجسون في قوله «المكان نجاسة الزمن». كأنّ بودلير بلمسته السحرية استطاع أن يصنع من مخلّفات عضوية، من نخالة، من نشارة، من نجاسة، شيئًا نبيلًا روحانيًّا. أمّا كامل فقد بدا لا منطقيًّا في استخدامه كلمة الزمن بكثرة في أحاديثه، وفي الوقت نفسه يرهب ويجلّ كلمة القديم التي تحمل ظلالًا باهتة لمعني الزمن.

كانت الصورتان تحت عيني مجدى. في الأولى تمدّ نوال أصابعها ناحية الأباجورة في الهواء، وفي الثانية ترتكن يداها على حافّة المنضدة، وأمامها فنجان شاي وسكرّية، وكوب ماء. سأل مجدي بشروط دون أن ينظر إلى العجوز. أهي الأباجورة نفسها في الصورتين؟ لا، لكنهما متشابهتان إلى حدٍّ كبير. نعم، وهما مع ذلك أباجورتان، كيف؟ في الصورة الأولى أرادت نوال عزمي أن تزيد كمية الإضاءة، فالمطعم على العموم به إضاءة مركزيّة، لكنها واهنة جدًّا، بالكاد تُرى الأشياء، ومَن أراد زيادة الإضاءة، فعنده على المنضدة أباجورة صغيرة، وهذا ما أرادته نوال ببساطة، زيادة كمية الإضاءة، لكن ما إن لمست أصابعها مفتاح الأباجورة، إلّا واحترقت لمبتها بصوت مكتوم وضوء كضوء الفلاش الفوتوغرافى، فاعتذر صاحب المطعم عن الفزع الذي أصاب نوال، والذي عبّر عن نفسه في صرخة قصيرة حادّة، وأمر في الحال بتغيير الأباجورة، حيث كان المطعم يحتوي على عشر أباجورات شبيهة، موضوعة على عشر مناضد متفرقة.

سأل مجدى، وهل أحضروا لها أباجورة بديلة من إحدى مناضد المطعم؟ أجاب كامل بنفي مستنكرًا إلى حدٍّ ما غباء مجدى. طبعًا لا، كيف تتصوّر هذا التصوّر المنافي للجمال، وما الحال إذا دخل زبون في تلك اللحظة ووجد منضدة شاغرة دون التسع الأخريات؟ هناك في مخزن المطعم، وهو غرفة صغيرة، الذهاب إليها يكون مرورًا بالمطبخ، عشر أباجورات بديلة. لكنّ الصورة الفوتوغرافية الثانية فيها الأباجورة غير مضاءة أيضًا مثل الأولى. أين ذهبت رغبة نوال في إضاءة الأباجورة بعد أن أحضروا لها البديلة؟ كانت نوال تفكّر أثناء المحاولة الأولى لإضاءة الأباجورة في الصورة الفوتوغرافية الأولى، في حفلة الجنس الجماعيّة التي ستذهب إليها مع الأصدقاء في صحراء سيناء. وكان ضوء الأباجورة يمثّل في عقلها استعارة مجازية للعُري الآتي في الحفلة الجماعية. وعندما أحضر صاحب المطعم أباجورة بديلة، نفرت نوال من محاولة سبر ما سيحدث في حفلة الجنس الجماعية، وفضّلت احتساء الشاي في إضاءة المطعم المركزية الواهنة التي تشبه الظلام.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم