لماذا تكتب أكثر الشعوب سلاما على وجه الأرض أعظم روايات الرعب الدموى ؟

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ناثانيل ريتش

ترجمة :  محمد أبو الفتوح الدسوقي *

بعد أن قرأت ما يقترب من 30 رواية جريمة اسكندنافية توصلت إلى نتيجة واحدة : إن اسكندنافيا مكان موحش شرير قاس بشكل غير عادى، و فوق ذلك تحتوى عواصمه على بؤر ساخنة للقتل، ففى أوسلو يمرر قاتل متسلسل نجوما خماسية من الماس تحت جفون ضحاياه (نجمة الشيطان لجو نسبو)، بينما يرعب الصغيرات مقتفى للأثر فى حدائق استكهولم العامة (الرجل فى الشرفة لماج سجوال و بر وهلو)، و عندما ننتقل إلى المستوى المحلى لا نجد تحسنا يذكر بل يزداد الأمر سوءا، و لنأخذ (يستاد) كمثال، هى قرية صيد قديمة على الساحل الجنوبى للسويد، يبلغ تعداد سكانها 1700 نسمة،

و تشتهر بسرعة السفن التى تمر عليها، لقد عانت هذه القرية فى روايات هينينج مانكل من أشكال الرعب الآتية: تعذيب و إعدام مزارع مسن و عائلته (القتلة عديمى الوجوه)،     

تعذيب و إعدام رجلين وُجدا على الشاطىء داخل قارب نجاة (كلاب ريجا)، خوزقت مراقب طيور متقاعد على أعواد بمبو مسننة (المرأة الخامسة)، و أخيرا مراهقة تضحى بنفسها كقربان (فى المكان المهمل)، ارتكبت كل هذه الجرائم و أكثر بكثير مجموعة متنوعة من القتلة فى خلال ثلاث سنوات فقط، و هكذا نجد أن نصيب الفرد من جرائم العنف فى قرية (يستاد) لمانكل يأتى فى الترتيب وراء الموصل و لكن أمام جوهانسبرج و مقدشيو.

 

إن عدد القتلى فى روايات الجريمة الاسكندنافية يفوق لحسن الحظ مثيله فى اسكندنافيا نفسها، حيث أن مستويات القتل فى الدول الاسكندنافية تعد من بين الأدنى على ظهر الكوكب، ففى السنة الحالية صنَّف المؤشر العالمى للسلام كلا من الدنمارك و النرويج على أنهما ثانى و ثالث دول العالم مسالمة على الترتيب، و جاءت السويد فى المستوى الثالث عشر، أيضا صُنِّفت دول الشمال الأوربى على أنها أكثر دول العالم سعادة. إنه ليس بالأمر الغريب أن نلاحظ نزعة فى الروايات الصينية للحديث عن القمع الشيوعى، أو فى مثيلاتها الأوغندية للحديث عن تجنيد الأطفال، و لكن أن يكون هناك خيال دموى اسكندنافى فهذا هو الغريب، لماذا تنتج دول مسالمة بهذه الدرجة كتَّابا تُصنف رواياتهم عالميا على أنها الأكثر مبيعا كمانكل و نسبو و كارين نوسَّم و هاكان نسِّر؟ كيف نفسر وجود ستيج لارسون؛ مؤلف (الفتاة ذات وشم التنين) و التى وصلت إلى المركز الثانى فى قائمة الأكثر مبيعا على مستوى العالم العام الماضى؟

 

إن هناك العديد من الأسباب التى نحت بالكتاب الاسكندنافيين إلى هذا النوع من الروايات؛ فروايات الجريمة – و بخاصة البريطانية منها – قد لاقت رواجا هائلا فى اسكندنافيا لعقود طويلة، كما أن واقعية شمال أوربا المشهورة تعتبر مناسبة تماما لطرائق الحبكات المعقدة لتحقيقات الجرائم، لكن أفضل التفسيرات هو أكثرها عادية؛ روايات الجريمة تحقق مبيعات كبيرة. إن معظم كتاب الجريمة الاسكندنافيين بدؤا حيواتهم الأدبية بأشكال روائية أخرى، فمانكل مثلا كتب 7 روايات قوبلوا باستحسان لكنهم لم يدروا أربحا تذكر، هذا غير دستة من المسرحيات، و ذلك كله قبل أن يتحول إلى كتابة الجريمة، أما كارين فوسَّم فقد كان شاعرا حائزا على جوائز فى الشعر، هناك أيضا ماج سجويل الذى كان معدا و مترجما. لقد كان بيتر هيج هو الكاتب الاسكندنافى الوحيد الذى حظى بشهرة عالمية قبل انفجار روايات الجريمة الحالى، و برغم كونه كاتب إنسانى إلا أن روايته (إحساس سميلَّا بالثلج) و التى أخرجته للعالمية كانت عن تحقيق حول مشتبه به فى جريمة قتل، الدرس واضح إذن: إذا أردت أن تُقراء روايتك بالخارج و بالتحديد فى الدول المتحدثة بالإنجليزية؛ فلتضمِّنها جريمة قتل،حتى و إن لم تسمع بواحدة فى بلدك.

 

الآن دعونا نطرح سؤال مهم: ما سر كل هذا الانجذاب بين القراء و هؤلاء الكتاب؟ فالروايات ليست مبتكرة أو بها من الجِدة الكفاية، فنحن نجد بين أيدينا – مع بعض الاستثناءات – مجموعة من روايات الجريمة المباشرة المنحوتة طبقا للأنماط التقليدية للرواية الانجليزية، و التى لا تكتسب جاذبيتها حتى من الرؤية المُوحشة القاسية للعالم، و كأنما كتبها صحفى فى التايمز اللندنية بغض النظر عن الحالة الحقيقية للبلاد.

 

فى الحقيقة إن ما يميز هذه الكتب ليس الطابع الكئيب للشمال الأوربى، و لكنها حالة السكون المهيبة التى تغشاها، فعند حدوث الجريمة تصاحبها صدمة تعطل العالم، الذى هو – بالنسبة للقارىء الأمريكى على الأقل – يوتوبيَّا فى سلامه و سعادته و تنظيمه. بالطبع هناك سبب وجيه لوجود جثث مانكل ساكنة دائما فى مزرعة ريفية/ على طوف يهتز/ فى مرج معزول/ وسط حقل مغطى بالثلوج، بقعة دم داكنة على خلفية نقية صافية، إن الثلج الأبيض يثير الرعدة أكثر من جثة ملقاة بزقاق ملىء بالقمامة المبعثرة.

 

بدأ ستيج لارسون حياته كغيره من كتاب الجريمة الاسكندنافيين الناجحين، معدا لمجلة مناهضة للعنصرية، و كاتبا للعديد من مقطوعات الخيال العلمى، و مشتغلا بالصحافة السياسية. و فى عام 2004 – قبل أن يموت إثر ذبحة صدرية – كان قد أتم أول ثلاث روايات من سلسلة جديدة ، سيصدر الجزء الثانى من هذه الثلاثية بالولايات المتحدة يونيه الحالى تحت إسم (الفتاة التى لعبت مع النار)، و من المحتمل جدا أن يكون هذا الحدث مؤكدا على مكانة لارسون كأنجح كاتب جريمة على مستوى العالم، إذ أن رواياته تعد علامة بارزة و مثلا أعلى لهذا النوع الروائى، إنها ليست فقط الأكثر مبيعا، و لكنها الأكثر جنونا.

 

إن لارسون يفوق مانكل فى مهارته فى إبراز التباين بين الخلفية (استكهولم المعاصرة) و بهرجة الجرائم التى تحرِّك حبكاته، فستكهولم لارسون استطاعت أت تجمع بين كونها مدينة كوزموبوليتانية و كونها مدينة قديمة لها عبق سحرى خاص فى آن.

 

لقد بذل لارسون جهدا كبيرا ليضفى على رواياته الكثير من المعاصرة و الجِدَّة، فتستخدم شخصياته الآى بود، و الكتب الإلكترونية، و تقنية البلوتوث، وتتبع المشتبه بهم عبر موقع جوجل، و فى نفس الوقت تعتمد حبكتا روايتيه على مكائد شبكة عالمية غامضة تصل بين حواسيب الهاكرز، حتى شخصيته الرئيسية (مايكل بلومكفيست) فيعمل صحفي تحقيقات صعب المنال، باق من عهد الطباعة، يكتب بمجلة أخبار أسبوعية، أما عن بطلته فهى تلك المهووسة بالكمبيوتر ليزبيث سلاندر ذات الـ24 عام، شبقة، تنام مع من يقابلها رجلا كان أم امرأة ، مغطاة بالوشم و ثقوب الأقراط، لكنها فى الوقت ذاته عاشقة للشطرنج و الرياضيات و تحرر المرأة.

 

عندما ننظر إلى طبيعة جمل لارسون نجدها جملا بطيئة هادئة. (عندما دخل بلومكفست شقة زوجين شابين ثم اكتشف مقتلهما شعر بـ” رعشة باردة تسرى فى أسفل رقبته…كانت مضروبة بالرصاص فى وجهها…الدماء تنزف منها بشكل أغزر من الزوج”). و لكن الجرائم نفسها كانت مفاجئة، و ضحاياها عبارة عن شباب يسارى خيِّر: صحافى و طالب دكتوراة كونا فريق للتحرى عن شبكة دعارة سرية بالسويد، و بالتدريج – كما تُنزع ضمادة عن جرح _ يعرض لارسون لعالم خفى قذر من الشرطيين المرتشين و السفاحين و عملاء الحكومة الرخصاء و مغتصبى الأطفال الساديين. عندما تتطفل هذه المروعات على عالم المجلات الناعمة فلا تكون هناك سوى نتيجة واحدة؛ التباين الممتع.

 

إن الجاذبية التى تتمتع بها روايات مانكل و فُسَّم تنبع من كونها مفعمة بسحر القدم و الهدوء الريفى و إن كانت أحداثها تدور فى المدن الكبيرة. لقد منح لارسون للخيال الاسكندنافى اتجاها جديدا ، حين ابتعد تماما عن الحبكات الكلاسيكية كـ (من فعلها؟) و (شخص فى حجرة مغلقة)، مفضلا ألاعيب القَص الواسعة الفوضوية و التى تتعاطى فى الوقت ذاته مع العبقرية التكنولوجية الآنية.

و أخيرا فإن كل ما آمله ألا يعود هذا النوع الروائى إلى ما كان عليه قبل أولئك الكُتَّاب الذين تحدثنا عنهم، ألا نعود للقراءة عن محققين متشنجين يسيرون بتؤدة على سهول الشمال المتجمدة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* شاعر ومترجم مصري

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم