لقاء آخر

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد فرحات

ما في الأمر، أن زفيرا خاصم  رئتي ، و أقسم أن لا يعود شهيقا،هكذا أخذتني يقظة ،غريبة عن وعي دائم الغياب،  وعين شاخصة أبدا لأشباح لا يعي وجودها غيري، أشباح خلف جذوع أشجار الكافور و الجازورين، أشباح تشير  إلي ملوحة من فوق فروع أشجار الجميز و التوت، أشباح مستلقية على ضفاف الترع، أشباح غائبة في ركود و أسن مياه المصارف.

طيلة حياتي ، كنت شديد الحيرة في تفسير ما أراه، ولايراه غيري ، اعتدت ذلك …هكذا فجأة، انتقلت من عالم لعالم بخطوة واحدة ، لا أخفيكم أني كنت شديد الارتياع مما يحدث وكيف تبدلت كل الموجودات هكذا بلا مقدمات …أصوات كثيرة متداخلة أعرف أصحابها جيدا ، معظمها يبكي ، في البداية لم أعرف سبب بكائهم حتى أشاركهم فيه ، ولكن بعد قليل عرفت أنهم يبكون على فقدي …ياه….هو الموت إذن،  ولم كانوا يخيفوننا منه؟! ..لم دائما كان رجال الدين يتاجرون به كسلعة لا يملكها غيرهم؟! ، الموت رائق جدا، صديق رقيق يحملك على ذراعيه ، يحمل موجات غضبك المكتوم و الذي تحول على مدار السنين إلى أسى محبط ، دموع متحجرة في عيون غامت رؤيتها ….

نعم هي الإجراءات الروتينية المألوفة في تلك الحالات ، سلمتهم جسدي بلا  مقاومة تذكر ، كمن يلقي ثقلا ناء كاهله به دهرا طويلا ..

أرقبهم من قريب جدا ، أسمع دخيلة أنفسهم بوضوح ، لعلها قدرة جديدة يكتسبها من هم في حالتي الجديدة ، بعضهم يتحدث عن تفاهة و جودي وانعدام أثري ، عن هزائمي الكثيرة و انسحاباتي  المخزية ، عن حزني الكثير غير معلوم السبب ، قد أراح نفسه و استراح ، كلهم كانوا ينهون منولوجهم  بهذه  العباره  ” أراح واستراح !!” ..، مللت من ثرثرتهم ، فانصرفت سريعا مكتشفا هذا الوجود الجديد ، ملقيا نظرة أخيرة على جسدي الممدد،  هذا السجن الذي لبثت سنين عددا بين أسواره  الطينية….

وجود جديد ، نور ندي ، هواء عطري ، نهر وليد، بلا ضفاف، يتبعني كصديق حميم ، كوخ جميل جدا  بلا باب ، ونافذة صغيرة تطل على حديقة غناء بكل أنواع الزهور و الورود التي أعرفها و لا أعرفها ، عود ! كيف علموا ولعي بالموسيقى وبالعود بالذات ، شكرا لهم!  ، كنت دائما أتمنى أني كنت تعلمت العزف على العود ، احتضن العود ، أسحب ريشته ، أمررها  على أوتاره، تصدر ألحانا بديعة ، وكأني عازف ماهر ، لم ير عالم الموسيقى مثله ..

بأي ذاكرة أعيش، لا شئ في ذاكرتي الآن سواها ، وهل صحيح نعيش بذاكرة صور حياتنا السابقة ، نعيش بذاكرة الرحم في الدنيا ، وبذاكرة الدنيا في عالم ما بعد الدنيا ..كنت دائما أرجو قربها ، هكذا أشرقت بعينيها المكتحلتين ، بحناء يديها الخضراوين ، وببسمة بين غمازتيها ، تهادت ذكريات  الماضي و إشراقات المستقبل المأمول لحنا بديعا،  وببسمة أخرى اندملت بقايا جراح و كأنها ما كانت يوما ..جلست بجواري تتبعها الفراشات و الطيور الخضراء المغردة ، جلست تستمع لعزفي ولحني،  تومئ  بعينيها،  لأتوقف عن العزف ، لتكمل عوار الموسيقى بصوت أعذب من أعذب لحن كان ، تتحدث حينا ثم تعاود السماع ثم تشرع في الغناء ، وببسمة نسيت ذاكرتي الدامية ، هزائمي المتكرره ، انسحاباتي المخجلة ، نسيت كل شيء غير بسمتها ، لأفرح فرحا ما حلمت  به يوما ، فرحا سرمديا جديدا غير منقطع بخوف  فوت أو فقد ..جلست تشاركني الخلود بجانب النهر المتدفق ..أدركت مصدر النور ، كان إشراقة جفونها المكتحلة البديعة ، الآن فقط أستطيع أن  أشعر بالحياة …

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال